فن ثقافة شكر الآخرين

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2021-12-31 - 1443/05/27 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/مهارة الشكر من أنفع وسائل بناء العلاقات الإنسانية 2/أدلة المكانة السامية للشكر والشاكرين 3/أصناف الناس تجاه فضيلة الشكر 4/أحق الناس بالشكر والثناء 5/لطائف الشكر من خُلُق خير البرية 6/صُوَر من شكر الآخرين 7/المكاسب الطيبة لشكر أهل الإحسان

اقتباس

إِنَّ مِنْ أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ وَأَرْوَعِ الْمَهَارَاتِ فِي بِنَاءِ الْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَهَارَةَ الشُّكْرِ وَالِامْتِنَانِ لِلْآخَرِينَ، فَالشُّكْرُ ثَقَافَةٌ وَفَنٌّ، وَسُلُوكٌ حَضَارِيٌّ رَاقٍ، وَالشُّكْرُ يَعْنِي الِاعْتِرَافَ بِالْفَضْلِ، وَالثَّنَاءَ لِأَهْلِهِ قَوْلًا وَسُلُوكًا...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ، أَحْمَدُ رَبِّي وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْأَنَامُ، وَأَسْأَلُهُ دَوَامَ الشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ الْعِظَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا وَسَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلُهُ عَلَى الدَّوَامِ.

 

أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَوْلَاكُمْ مِنَ النِّعَمِ، وَاحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ قَبْلَ حُلُولِ النِّقَمِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ وَأَرْوَعِ الْمَهَارَاتِ فِي بِنَاءِ الْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَهَارَةَ الشُّكْرِ وَالِامْتِنَانِ لِلْآخَرِينَ، فَالشُّكْرُ ثَقَافَةٌ وَفَنٌّ، وَسُلُوكٌ حَضَارِيٌّ رَاقٍ، وَالشُّكْرُ يَعْنِي الِاعْتِرَافَ بِالْفَضْلِ، وَالثَّنَاءَ لِأَهْلِهِ قَوْلًا وَسُلُوكًا. قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: "الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ، وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ، وَلِمَنْ دُونَكَ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ".

 

أَيُّهَا الْكِرَامُ: وَالشُّكْرُ يَحْظَى بِقِيمَةٍ عَالِيَةٍ؛ يَكْفِيهِ رُتْبَةً أَنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، وَوَصَفَ ذَاتَهُ الْعِلِيَّةَ بِهِ؛ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فَاطِرٍ: 29-30]، وَقَالَ: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 147]، وَهُوَ -فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ- خَيْرُ الشَّاكِرِينَ؛ فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ لِلَّهِ عَمَلًا إِلَّا كَافَأَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِمَا لَا تَتَخَيَّلُهُ الْعُقُولُ، وَعَوَّضَهُ بِمَا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ.

 

قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: "لَوْ عَلِمَ الشَّيْطَانُ أَنَّ طَرِيقًا تُوصِلُ إِلَى اللَّهِ أَفْضَلَ مِنَ الشُّكْرِ، لَوَقَفَ فِيهَا، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 17]، وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ صَابِرِينَ، أَوْ نَحْوَهُ.

 

وَالنَّاسُ -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- فِي هَذَا الْخُلُقِ الرَّاقِي وَالسُّلُوكِ الْمُجْتَمَعِيِّ بَيْنَ مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ؛ فَالْمُحْسِنُ مَنْ حَمَلَتْهُ فِطْرَتُهُ السَّلِيمَةُ وَمُرُوءَتُهُ النَّبِيلَةُ أَنْ يَحْفَظَ لِلنَّاسِ وُدَّهُمْ وَمَعْرُوفَهُمْ، وَيَرُدَّ لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَجَمِيلَهُمْ، وَأَقَلُّ مَا يَجُودُ بِهِ لِأَصْحَابِ الْفَضْلِ أَنْ يُعْظِمَ لَهُمُ الثَّنَاءَ وَالشُّكْرَ وَالدُّعَاءَ. وَالْمُسِيءُ مَنْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْجَمِيلِ، وَصَمَتَ عَنْ ذَلِكُمُ الْإِحْسَانِ؛ مُتَجَاهِلًا مَعْرُوفَهُمْ، أَوْ مُعْتَبِرًا أَنَّ مَا قَامُوا بِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ؛ فَلَمْ يُبَادِلْهُمْ وَفَاءً شُكْرًا وَثَنَاءً وَعَطَاءً، وَالْأَعْظَمُ خَطْبًا أَنْ يَتَنَكَّرَ جَمِيلَهُمْ وَيَجْحَدَهُمْ إِحْسَانَهُمْ.

 

وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشُكْرِي وَأَوْلَاهُمْ بِثَنَائِي؟ أَقُولُ: قَدْ سُئِلَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ أَوْلَى الْخَلْقِ اسْتِحْقَاقًا بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ فَكَانَ جَوَابُهُ "أُمُّكَ... ثُمَّ أَبُوكَ"، وَمِنْ أَهَمِّ مَفَاهِيمِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَجَمِيلُ الْمُكَافَأَةِ، وَوَالِدَاكَ هُمَا أَوْلَى مَنْ تُسْمِعُهُمْ ثَنَاءَكَ وَتَمْنَحُهُمْ شُكْرَكَ وَتَمْنَحُهُمْ إِحْسَانَكَ؛ فَكَمْ خَيْرٍ لَكَ قَدَّمُوهُ، وَمَعْرُوفٍ مَنَحُوهُ، وَجُهْدٍ بَذَلُوهُ، وَوَقْتٍ صَرَفُوهُ؛ لِذَلِكَ هُمْ أَوْلَى خَلْقِ اللَّهِ مِنْكَ مُكَافَأَةً وَثَنَاءً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْكَ.

 

وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ اسْتِحْقَاقًا لِلشُّكْرِ وَالْوَفَاءِ وَرَدِّ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ؛ لِفَضْلِهِ عَلَيْهَا وَرِعَايَتِهِ لَهَا؛ وَلِهَذَا قَدَّرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْفَضْلَ وَحَذَّرَ الزَّوْجَةَ أَلَّا تَحْفَظَهُ لِزَوْجِهَا؛ فَقَالَ: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرَأَةٍ لَا تَشْكُرُ لِزَوْجِهَا وَهِيَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ"(السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ لِلْأَلْبَانِيِّ).

 

وَشَوَاهِدُ الشُّكْرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَكُتُبِ التَّارِيخِ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ؛ فَمِنْ شُكْرِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ مَا وَرَدَ فِي سِيَاقِ وَصْفِهِ لَهُمْ وَفَاءً لِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ؛ قَالَ رَبُّنَا: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فَاطِرٍ: 29-30].

 

وَمِنْ شُكْرِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ تَعْوِيضُهُ لِأَصْحَابِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى هِجْرَتِهِمْ مِنْ مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِمْ، وَصَوْنًا لِعَقِيدَتِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنْهَا؛ مُخَلِّفِينَ وَرَاءَهُمْ أَرْضًا كَانَتْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيْهِمْ، وَتَرْكِهِمْ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمُ الّتِي اكْتَسَبُوهَا؛ وَمَا هِيَ إِلَّا أَعْوَامٌ حَتَّى عَوَّضَهُمْ خَيْرًا مِمَّا تَرَكُوهُ؛ لَقَدْ سَلَّمَهُمْ مَقَالِيدَ السِّيَادَةِ لِلدُّنْيَا كُلِّهَا، وَلَيْسَ مَكَّةَ، وَمَنَحَهُمْ قُصُورَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَصَنْعَاءَ، حَتَّى فَاضَ الْخَيْرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ "فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ".

 

وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ يَشْكُرُ رَبَّنَا -سُبْحَانَهُ- لِبَعْضِهِمْ مَنْ فَعَلُوا الْخَيْرَاتِ وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّاتِ؛ فَوَعَدَهُمْ أَنَّهُ لَنْ يُضِيعَ عَمَلَهُمْ، وَلَنْ يَكْفُرَهَا، وَسَيَحْفَظُهَا لَهُمْ وَيُجَازِيهُمْ عَلَيْهَا؛ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 115].

 

وَلَنَا فِي سَيِّدِ الشَّاكِرِينَ قُدْوَةٌ، مَنْ كَسَبَ الْخَلْقَ بِجَمِيلِ خُلُقِهِ وَلَطِيفِ طَبْعِهِ؛ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَقَدْ أَثَّرَ طُولُ قِيَامِهِ عَلَى سَاقِهِ وَرَمًا، وَعَلَى قَدَمِهِ تَشَقُّقًا وَهُوَ يَبْكِي؛ فَقَالَتْ: هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَانَ جَوَابُهُ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".

 

وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ يُصَرِّحُ مُعْتَرِفًا بِجَمِيلِ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا قَدَّمَتْهُ أُسْرَتُهُ الْمُبَارَكَةُ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْعَوْنِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ".

 

وَفِي بَدْرٍ يُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ أَمْرُ الْأَسْرَى، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ مَصِيرَهُمْ يُفَاجِئُهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَوْقِفٍ تَلْمِسُ فِيهِ مَدَى حِفْظِهِ لِلْمَعْرُوفِ وَصَوْنِهِ لِلْجَمِيلِ؛ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ظَنَّ الْكَثِيرُ فِيهِ أَنَّهُ مَوْطِنُ الْجِدِّ وَالِانْتِقَامِ وَالشِّدَّةِ وَالْحَزْمِ؛ بَيْدَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَرَصَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ دَرْسًا فِي الْأَخْلَاقِ؛ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"(الْبُخَارِيُّ: 3139).

 

ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الطَّائِفِ وَطَرَدَهُ أَهْلُهَا رَاسَلَ كِبَارًا فِي قُرَيْشٍ يَدْخُلُ فِي جِوَارِهِمْ، فَلَمْ يُجِرْهُ أَحَدٌ إِلَّا الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ؛ فَحَفِظَ لَهُ النّبِيُّ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ حِفْظًا لِلْحَقِّ وَرَدًّا لِلْجَمِيلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي الدِّينِ.

 

وَفِي بَدْرٍ أَيْضًا يُنَادِي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْمُسْلِمِينَ قَائِلًا: "مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا"؛ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏‏: "وَإِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ لَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ آخَرِينَ كَانَ لَهُمُ الْفَضْلُ فِي تَمْزِيقِ الصّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ.

 

وَفِي حُنَيْنٍ يَجِدُ الْأَنْصَارُ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ قِسْمَتِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ حَيْثُ لَمْ يُعْطِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ رَغْمَ مُشَارَكَتِهِمْ، وَأَعْطَى آخَرِينَ، بَعْضُهُمْ لَمْ يُشَارِكْ؛ تَأْلِيفًا لَهُمْ؛ فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جَمَعَهُمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَجَابَ عَلَيْهِمْ إِجَابَةً أَذْهَبَتْ مَا وَجَدُوهُ عَلَيْهِ، وَمِمَّا قَالَهُ وَهُوَ الشَّاهِدُ مِنْ حَدِيثِنَا: "لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَضَعِيفًا فَقَوَّيْنَاكَ..." اعْتِرَافًا مِنْهُ بِالْفَضْلِ لَهُمْ، ثُمَّ كَافَأَهُمْ بِقَوْلِهِ: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ...".

 

وَهَذَا شُعَيْبٌ، ذَلِكَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَبْعَثُ ابْنَتَهُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَرُدَّ عَلَيْهِ مَعْرُوفَهُ الَّذِي قَدَّمَهُ لِابْنَتَيْهِ رَحْمَةً بِهِمَا وَصَوْنًا لَهُمَا؛ قَالَ اللَّهُ: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الْقَصَصِ: 25].

 

وَهَذَا وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ لَيْسَ إِلَّا امْتِثَالًا لِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ الَّذِي حَثَّ عَلَى حِفْظِ الْجَمِيلِ لِأَهْلِهِ وَمُكَافَأَتِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ؛ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ"(الْأَلْبَانِيُّ، مِشْكَاةُ الْمَصَابِيحِ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ).

 

وَعَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ"(الْأَلْبَانِيُّ، السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ)؛ فَتَبَيَّنَ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ عَلَاقَةُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ حَتَّى يُحَقِّقَ عَلَاقَتَهُ بِإِخْوَانِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ثَقَافَةُ شُكْرِ الْآخَرِينَ لَهَا صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ؛ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهَا فَلَا يَعْجِزَنَّ عَنِ الْأُخْرَى؛ فَيَكُونُ الشُّكْرُ لَفْظًا؛ بِأَيٍّ مِنْ عِبَارَاتِ الثَّنَاءِ وَالْوَفَاءِ، حَتَّى تَلْمِسَ رِضًا مِنْ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ".

 

وَقَدْ يَكُونُ شُكْرُهُمْ بِالتَّحَدُّثِ عَنْهُمْ وَالْكِتَابَةِ عَنْهُمْ وَنَقْلِ مَحَاسِنِهِمْ إِلَى الْآخَرِينَ لِيَزْدَادُوا لَهُمْ مَحَبَّةً وَتَقْدِيرًا؛ وَهَذِهِ النَّمَاذِجُ مُهِمٌّ أَنْ يُقَدَّرُوا وَيُشَارَ إِلَيْهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا، فَلْيَذْكُرْهُ، فَمَنْ ذَكَرَهُ، فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ، فَقَدْ كَفَرَهُ".

 

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ بَذْلًا لِكَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَيْسَ تُثْنُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَتَدْعُونَ لَهُمْ؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَذَاكَ بِذَاكَ"؛ أَيْ: مَا دُمْتُمْ تَدْعُونَ لَهُمْ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ يَقُومُ بِحَسَنَاتِهِمْ إِلَيْكُمْ، وَثَوَابُ حَسَنَاتِكُمْ رَاجِعٌ عَلَيْكُمْ؛ قَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "يَعْنِي إِذْ حَمَلُوا الْمَشَقَّةَ وَالتَّعَبَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَشْرَكُونَا فِي الرَّاحَةِ، وَالْمَهْنَأِ، فَقَدْ أَحْرَزُوا الْمَثُوبَاتِ، فَكَيْفَ نُجَازِيهِمْ؟ فَأَجَابَ: لَا؛ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ، إِذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ، وَدُمْتُمْ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَازَيْتُمُوهُمْ".

 

وَمِنْ صُوَرِ شُكْرِهِمْ؛ الدُّعَاءُ لَهُمْ أَمَامَهُمْ، وَبِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا، فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ".

 

وَمِنْ شُكْرِهِمْ إِنْزَالُهُمْ مَنَازِلَهُمْ؛ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَمُنَادَاتِهِمْ بِأَحَبِّ الْأَلْقَابِ إِلَيْهِمْ، وَزِيَارَتِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

 

وَمِنْ شُكْرِهِمْ مُكَافَأَتُهُمْ عَطَاءً، وَرَدُّ الْجَمِيلِ لَهُمْ إِلَيْهِمْ بَذْلًا؛ فَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: خَرَجَتْ لِأَبِي جَائِزَتُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ خَاصَّتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ لِي: تَذَكَّرْ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ أَغْفَلْنَاهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: بَلَى، رَجُلٌ لَقِيَنِي، فَسَلَّمَ عَلَيَّ سَلَامًا جَمِيلًا، صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، اكْتُبْ لَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ".

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ وَعِصْيَانٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ شُكْرَ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَأَصْحَابِ الْمَعْرُوفِ يُورِثُ مَكَاسِبَ طَيِّبَةً؛ فَهُوَ سَبِيلٌ لِنَيْلِ الْمَكْرُمَاتِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، الْمَوْعُودُ بِهَا صَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 144]، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا"، وَحِفْظُ الْجَمِيلِ وَشُكْرُ أَهْلِهِ مِنْ تِلْكُمُ الْأَخْلَاقِ.

 

كَمَا أَنَّهَا فَنٌّ لِكَسْبِ الْقُلُوبِ وَزَرْعِ التَّآلُفِ، وَمَهَارَةٌ لِتَشْجِيعِ الْعِبَادِ لِلِاسْتِمْرَارِ فِي بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ يُفْضِي بِضَعِيفِ الْإِيمَانِ إِلَى الِانْقِطَاعِ.

 

شُكْرُ الْآخَرِينَ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ شُكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ نَصَّ عَلَى أَنَّ شُكْرَ الْخَلْقِ مِنْ شُكْرِ الْخَالِقِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِمَّا يُؤْخَذُ فِي الِاعْتِبَارِ أَنَّ عَلَى الْمُحْسِنِ أَلَّا يُغْفِلَ أُمُورًا؛ فَلَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ مِنَّةً وَفَضْلًا لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ؛ إِذِ الْفَضْلُ لِمَنِ اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ وَوَفَّقَهُ لَهُ، وَهُوَ اللَّهُ، وَأَلَّا يَرْجُوَ بِإِحْسَانِهِ وَمَعْرُوفِهِ شُكْرَ النَّاسِ وَثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونَ بَاعِثُ إِحْسَانِهِ وَمَعْرُوفِهِ ذَلِكَ، بَلْ يَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ مِنَ الْمُتَفَضِّلِ -سُبْحَانَهُ-. وَأَلَّا يَقْطَعَ الْمَعْرُوفَ إِنْ لَمْ يَشْكُرْهُ النَّاسُ أَوْ يُثْنُوا عَلَيْهِ، بَلْ يَسْتَمِرُّ فِي فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَيَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الْعِوَضَ وَالشُّكْرَ.

 

أَلَا صَلُّوا عَلَى صَاحِبِ اللِّوَاءِ الْمَحْمُودِ وَالشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى يَوْمَ الْوِرْدِ لِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

 

المرفقات

فن ثقافة شكر الآخرين.doc

فن ثقافة شكر الآخرين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات