فلن يضيع جميل أينما زرعا

حسان أحمد العماري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ فضائل بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين 2/ صنائع المعروف تقي مصارع السوء 3/ خصائص المعروف وسماته 4/ ضرورة العودة إلى أخلاق الإسلام العظيمة 5/ أهمية الأخوة وسلامة الصدر والبعد عن العصبيات الجاهلية 6/ الحث على المسارعة لبذل المعروف وعمل الخير.

اقتباس

لقد جرت سنة الله في هذه الحياة أن لا تتم سعادة البشر إلا بتعاونهم وتراحمهم، وانتشار المعروف بينهم، وشيوع الخير وتبادل المنافع مع بعضهم البعض، ورتب المولى -سبحانه- على هذه الأعمال الأجر والثواب والتوفيق والهداية والفلاح.. بل رتَّب على بذل المعروف الوقاية والنجاة من مصارع السوء وفتن الحياة ومصائبها.. وكم نحن بحاجة إلى معية الله وحفظه في كل وقت وخاصة في زماننا هذا الذي كثرت فيه الحروب والمشاكل والصراعات وضعفت فيه القيم والأخلاق وتسرب الجشع والطمع وحب الذات إلى كثير من النفوس.. ما أحوجنا إلى بذل الخير المعروف بكل صوره وحسب قدرة الفرد منا وإمكانياته..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين، ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه، وحمدُه واجبٌ على كل إنسان.

 

الحمد لله حمداً طـاب وانتشرا *** على ترادف جود في الوجود سرى

الحمد لله حمـداً سرمداً أبــدا *** ما أضحك الغيث وجه الأرض حين جرى

حمدا كثيرا به أرقى لحضـرته *** على منابــر أنس أبلغ الوطرا

ثم الصلاة على ختم النبوة مـن *** إذا تــقدم كـان الأولــون ورا

مع السلام الذي يهدى لحضرته *** يعم آلاً وصحباً ســــادة غــــررا

ونسأل الله توفيقاً لطاعتـــه *** ورحمة لا نجـــد من بعـــدها كدرا

 

أما بعــد:

عباد الله: يقول المولى -عز وجل- يوم القيامة كما جاء في الحديث القدسي: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" (مسلم ح2569).

 

لقد جرت سنة الله في هذه الحياة أن لا تتم سعادة البشر إلا بتعاونهم وتراحمهم، وانتشار المعروف بينهم، وشيوع الخير وتبادل المنافع مع بعضهم البعض، ورتب المولى -سبحانه- على هذه الأعمال الأجر والثواب والتوفيق والهداية والفلاح..

 

بل رتَّب على بذل المعروف الوقاية والنجاة من مصارع السوء وفتن الحياة ومصائبها.. وكم نحن بحاجة إلى معية الله وحفظه في كل وقت وخاصة في زماننا هذا الذي كثرت فيه الحروب والمشاكل والصراعات وضعفت فيه القيم والأخلاق وتسرب الجشع والطمع وحب الذات إلى كثير من النفوس.. ما أحوجنا إلى بذل الخير المعروف بكل صوره وحسب قدرة الفرد منا وإمكانياته.

 

 والله -سبحانه- وتعالى جعل توفيق العبد للقيام بذلك اصطفاء واختيار وسبب للفلاح قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77]، وقال -تعالى- على لسان عيسى -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيْنَمَا كُنْتُ) [مريم: 31]، روى أبو نعيم وغيره بسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في تفسيره للآية: "جعلني نفّاعاً للناس أين اتجهت" (الدر المنثور: 5/509).

 

أيها المؤمنون/ عباد الله: إن بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين يسيرٌ على مَن يسَّره الله له.. كلمة طيبة أو مساعدة محتاج، أو إطعام إنسان، أو إصلاح بين الناس، أو تقديم نصيحة، أو عفو وتسامح أو صدقة، أو تيسير على معسر، أو كلمة حق، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، أو سرور تدخله على مسلم، أو تفرج عنه كربة، وغير ذلك من الأعمال يرفع الله بها درجة العبد، ويدفع عنه البلاء، ويقيه مصارع السوء، فكم مِن عمل قام به المرء لا يلقي له بالاً دفع عنه مصائب وشرور وفتن وأزمات سياسية واقتصادية وكوارث طبيعية لم تكن بالحسبان..

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات.. وأهل المعروف في الدنيا.. هم أهل المعروف في الآخرة" (رواه الحاكم عن أنس.. وصححه الألباني في صحيح الجامع).

 

 وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة" (صححه الألباني في صحيح الجامع: 3796).

 

 ابذل المعروف أينما كان، وازرع الفعل الجميل في أي مكان، ولا تحقر من المعروف شيئاً ولو كان يسيراً، فستجد ذلك يوماً من الأيام في حياتك وحياة أبنائك وأهلك من بعد، ولن يضيع في الدنيا ولا في الآخرة.. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن يُنْظِروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: -عز وجل- تجوزوا عنه"، وفي رواية عند مسلم: "فقال الله: أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي" (البخاري ح2077، ومسلم ح1560).

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ *** لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالناسِ

 

وللمعروف خصال ثلاث: تعجيله، وتيسيره، وعدم المنّ به، فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه، وأما من منعه وهو قادرٌ عليه فإن حسابه عند الله عسير قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون: 4-7]، (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر:41-44]، (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة: 34-35]..

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم"، فذكر منهم "ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" (البخاري ح2369).

 

عبـاد الله: إن المولى -سبحانه وتعالى- لم يضيع أو يهمل -سبحانه- معروفًا قدمه إنسان لحيوان وليس لإنسان، وجعل ذلك سبباً لسعادته ومغفرة ذنوبه في الدنيا والآخرة..

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماء، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر" (مسلم: 2244).

 

ازرع جميلاً ولو في غير موضعه *** فلن يضيع جميل أينما زُرعا

إن الجميل وإن طال الزمان به *** فليس يحصده إلا الذي زرعـا

 

عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة" (صحيح مسلم)..

 

فكيف لو زرع الإنسان جميلاً، وبذل معروفًا، فنفع الله بذلك البلاد والعباد، وعصم الله به الدماء والأموال والأعراض، وتآلفت القلوب، وتوحدت الكلمة، وتصالح الناس، ودفع الله به الظلم والبغي والعدوان على مستوى الأسرة والحارة والقرية والقبيلة والوطن؟!

 

 اللهم اجعلنا من أهل المعروف، وادفع عنا وبلادنا كل شر ومكروه..

 

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطــبة الثانية:

 

عــــباد الله: من أعظم خصال المعروف والتي نحتاجها اليوم في حياتنا: العودة إلى أخلاق الإسلام العظيمة والتي من أعظمها: الأخوة وسلامة الصدر والبعد عن العصبيات الجاهلية، وإصلاح ذات البين، وطلب رضا الله ولو سخط الناس، وتقديم مصالح الأمة والأوطان على مصالح الأفراد والجماعات والأحزاب، وعدم الركون إلى الذين ظلموا أنفسهم من اليهود والنصارى والمنافقين، إلى جانب التكافل والتراحم فيما بيننا..

 

 فليساهم كل فرد بما يستطيع ويقدم من المعروف ما يقدر عليه، ولو كان يسيرا، ويزرع الحب والأمل والخير بين الناس جميعاً ومع الناس جميعاً، ولن يضيع عمله ولن يذهب معروفه ولن يهلك زرعه..

 

وثقوا عندها بنصر الله وفرجه ورحمته وحفظه ودفعه عن عباده كل شر وفتنة ومصيبة قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]..

 

 اللهم يا من لا تَمِلُ من حلاوة ذكره ألسنة الخائفين، ولا تَكِلُ من الرغبات إليه مدامع الخاشعين، اغفر لنا ذنوباً حالت بيننا وبين ذكرك، واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك، وأدم علينا لزوم الطريق إليك، وهب لنا نوراً نهتدي به إليك، ونعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء يا رب العالمين يا مالك يوم الدين..

 

اللهم احقن دمائنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين، واجعل لنا من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا..

 

 ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلّ وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وبركة على نبينا وإمامنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.       

 

 

 

المرفقات

يضيع جميل أينما زرعا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات