فقه تقييد المباح

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
شاع في الأزمنة الأخيرة أمر الاستدلال ببعض القواعد الشرعية كقاعدة "حيث المصلحة فثمّ شرع الله"، وقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان"، وقاعدة "للإمام تقييد المباح" وغير ذلك من القواعد التي يستدلّ بها ويعتمد عليها بعض المسلمين، وبعض العلمانيين أيضا. ولهذا التوافق في استعمال هذه القواعد دلالته، إذ إنّ من القواعد ما يهدم الدّين باسم الدّين، ومنها ما يعطّل الشرع باسم الشرع، هذا إذا استعملت دون ضوابطها وقيودها التي حرّرها واضعوها وفق منهجية شرعية مضبوطة بأدلة شرعية وقواعد كلّية قطعية لا يعتريها الخلل.

لقد كانت عناية أهل العلم بتقعيد القواعد عناية فائقة لما في هذا العمل من شأن عظيم في تطوير الفقه وتنميته، حتى قال القرافي رحمه الله في (الفروق): "وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، وحاز قصب السبق من فيها برع". ومن تمام العناية بالقواعد تحرير ضوابطها وقيودها حتى لا تعطّل النصوص، وتخلّ بأصل شرعي أو بحكم شهد النصّ به ظنّا أو قطعا أو بإجماع استقر الرأي عليه من لدن الصحابة إلى يومنا هذا. فليس الأمر كما يظنّ بعض من لا خلاق له بخلو من الضوابط والقواعد، فيستباح حمى هذا الدّين، ويهرف من لا يعرف بما لا يعرف.
وسأتناول في هذا المقام قاعدة ساء استعمال الناس لها، فأبطلوا بموجبها جملة من الأحكام الثابتة، وحرّموا من خلالها ما أحلّ الله تعالى لعباده بنص صحيح صريح لا ينكر ولا يردّ، ألا وهي قاعدة: "للإمام تقييد المباح منعا وإلزاما".

1. تحرير المفردات

أولا: معنى الإمام
الإمام بمعنى رئيس الدولة الإسلامية، أو خليفة المسلمين، أو أمير المؤمنين. وهو من اختاره الناس برضاهم، وبايعوه من أجل العمل فيهم بالكتاب والسنة، ومن أجل تطبيق الإسلام عليهم، والذبّ عن بيضة الدين من أعداء الداخل والخارج.
ثانيا: معنى التقييد
التقييد هنا بمعنى اختيار الإمام أحد الأمرين (أي الفعل أو الترك)، وإلزام الناس به بمقتضى الصلاحية التي أعطاها له الشرع.
ثالثا: معنى المباح
المباح هو ما خيّر فيه المكلّف بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذمّ، أو هو "ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه كأكل الطيّب، ولبس الناعم، والنوم، والمشي، وغير ذلك".

2. معنى القاعدة

بناء على ما مرّ معنا من تحرير لمفردات القاعدة يتضّح أن المراد بها هو اختيار الإمام أحد أفراد المباح الذي جاز فعله أو تركه أصلا مع إلزام الناس بهذا الاختيار سواء بمنعهم من الفعل أو بإلزامهم به.

ومن الأمثلة على هذا:
‏أخرج مالك في الموطأ ‏عن ‏عبد الله بن أبي بكر ‏ ‏عن ‏عبد الله بن واقد ‏ ‏أنه قال: «نهى رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. قال ‏عبد الله بن أبي بكر ‏ ‏فذكرت ذلك ‏ ‏لعمرة بنت عبد الرحمن، ‏فقالت:‏ ‏صدق، ‏سمعت ‏عائشة زوج النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏‏تقول: ‏دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم: ‏‏ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي. ‏قالت:‏ ‏فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ‏ ‏ويجملون ‏‏منها ‏ ‏الودك‏ ‏ويتخذون منها الأسقية، فقال: رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم: ‏‏وما ذلك ‏‏أو كما قال، ‏‏قالوا نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم: ‏إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا ‏(‏يعني بالدافة قوما مساكين قدموا ‏المدينة)».
ففي هذا المثال نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يلزم المسلمين بأمر من المباح، إذ منع ادخار لحوم الأضاحي لفترة ما.

3. فقه القاعدة

أعطى الشرع الإمام صلاحية رعاية شؤون الأمة بما يراه وفق اجتهاده وتقديره، وقد عبر العلماء عن هذا بقاعدة هي "للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من المشكلات"، إلا أنّ سياسة الإمام وفق ما يراه ويقدّره من أصلح ليست بمطلقة بل هي خاضعة للشرع، فإذا وافقت سياسته الشرع وجبت طاعته ومضى ما قدّره من أمر، أما إذا خالف الشرع فلا طاعة له ولا نفاذ لما أمر به.

أخرج مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» وأخرج مسلم أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة».
إلا أنّ تحديد المعصية يخضع لمقياس هو أن يكون رأي الإمام مما لا شبهة في حرمته وخروجه عن الشرع، فإن كان له شبهة دليل على مشروعية ما رآه، فتحرم معصيته.

ومن الأمور التي للإمام أن يقدّر فيها ويجتهد أمر تقييد المباح بالمنع أو الإلزام، فكل مباح اختاره الإمام والتزمه لرعاية الشؤون وجب على الأمة أن تطيعه فيه. إلا أنّ هذا المباح ليس مطلقا في كل مباح بل هو فقط فيما جعل للإمام حقّ التصرّف فيه بسياسته واجتهاده، كالتنظيمات الإدارية المتعلقة بالمؤسسات والطريق العام وغير ذلك، أما بقية الأحكام المتعلقة بالناس فلا دخل للإمام فيها ولا يحقّ له تقييدها أو تعطيلها؛ لأنها ليست داخلة ضمن حدود صلاحيته، وليست مما أعطاه الشرع حقّ التصرّف فيها أو النظر، فلا يحقّ للإمام أن يلزم الفرد بشرب القهوة دون الشاي، أو بزواج فلانة دون علانة أو غير ذلك.
ونفصّل فيما يلي ضوابط تقييد الإمام للمباح وفق الحالات التي أقرّها الشرع:

الضابط الأول: ليس للإمام أن يمنع جنس المباح بل له فقط أن يمنع الفرد من أفراد المباح. ذلك أن جنس الإباحة ثبت بالدليل الشرعي وأقرّه الله سبحانه وتعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" (يونس59). وأخرج مسلم عن أَنَسٍ أَنّ نَفَرَاً مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عِنْ عَمَلِهِ فِي السّرّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَجُ النّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي».

وأما منع الفرد من أفراد المباح في حالة معيّنة، ولوقت معيّن، فجائز. وللفقهاء في هذا قاعدة مفادها: "كل فرد من أفراد الأمر المباح إذا كان ضارا حرم ذلك الفرد، وظل الأمر مباحا".
ودليل هذه القاعدة هو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر، وهي منازل ثمود قوم صالح، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا (استراحوا في العشية) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له..» (السيرة لابن هشام) فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء بئر الحِجر لأنه ضار بعينه، وأما جنس الماء فظل مباحا بالدليل العام. وكذلك إن كان التصرف بشيء من الأشياء المباحة يؤدي إلى ضرر الآخرين، فإن هذا الشيء يكون حراما في هذه الحالة أيضا بنص القاعدة ذاتها، ففي السيرة لابن هشام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له وادي المشقَّق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقينّ منه شيئاً حتى نأتيه، قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف عليه، فلم ير فيه شيئاً، فقال من سبقنا إلى هذا الماء ؟ فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان فقال: أولم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيه، ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم..." فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب ماء وادي المشقق، حتى يأتيه، لأن شرب بعض الناس منه يؤدي إلى ضرر الآخرين.

الضابط الثاني: أن يكون المباح مما جعل للإمام حق التصرّف فيه بسياسته واجتهاده، كأن يكون متعلقا بشؤون الدولة الخاصة بها كالشؤون المتعلقة بالجيش، أو كإلزام موظفي الدولة بأوقات معينة وأعمال مخصوصة، أو كتنظيم المرافق والأموال العامة من مثل الفيء والغنائم، أو كتحديد أساليب ووسائل معيّنة لتنفيذ ما أنيط بالدولة من واجبات كجمع الزكاة وتوزيعها. والأدلة على هذا كثيرة منها أن النبي عليه السلام حمى النقيع، واسترجع منجم الملح الذي أقطعه أبيض بن حمال بعدما تبيّن له أنه بمنزلة الماء العد فهو من الملكية العامة، ووزع أموال حنين على المهاجرين والمؤلفة قلوبهم واستثنى الأنصار، وأمر بجعل الطريق الميتاء سبعة أذرع لتنظيم السير فيها، وغير ذلك من التصرفات التي تحدّد طبيعة تقييد المباح وما للإمام الاجتهاد فيه.
وعليه فإنّ ما سلف ذكره يبيّن لنا أنّ إذن الشارع للإمام بتقييد المباح يتعلّق بمجال مخصوص وأحوال مخصوصة وليس بمطلق كما يظنّ بعض الناس.

4. سوء التطبيق

نتعرض هنا إلى مثال يتجلّى فيه سوء الفقه والتطبيق لهذه القاعدة، وهو مثال الزواج بأكثر من واحدة. حيث سنّت الدولة التونسية قانون منع الزواج بأكثر من واحدة، وبرّر لها بعضهم هذا القانون بقوله "للإمام تقييد المباح"، إلا أنّ هذا التبرير باطل ولا أساس له من الصحة، وذلك لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: "فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا"(النساء3). فالشارع قد أباح الزواج بأكثر من واحدة بنصّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فلا يحوز للإمام أن يمنع هذا المباح، وإلا عطّل النصّ، وحرّم ما أحل الله.
فمسألة الزواج مسألة لا تخضع لمجال تقدير الإمام ورعايته، إنما هي تتعلّق بالفرد، إن شاء عدّد وإن شاء اكتفى بواحدة. ولو أجزنا للإمام التدخل في هذا الشأن، لأجزنا له التدخل في غير ذلك من الشؤون الفردية. فالله عزّ وجلّ يقول: "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ"(المائدة88)، فهل يحوز للإمام أن يتدخل في شأن الفرد فيلزمه بنوع من الأكل ويمنع عليه آخر؟ إن هذا مما لا يحوز باتفاق؛ لأنّ الله لم يأذن للإمام بذلك، وترك هذا الشأن للفرد.
هذا أمر، والأمر الآخر أننا إذا أجزنا للإمام أن يقيّد المباح بالمنع، فمعناه أننا أجزنا له أيضا أن يقيّده بالإلزام. والمعنى من هذا، أننا لو أجزنا أن يمنع الإمام التعدّد، لأجزنا أن يلزم به، وهو باطل لا يقول به أحد، وإذا بطل الإلزام بطل المنع.

وأما ما يقوله بعض الناس من أنّ التعدّد قد ينتج عنه ضرر، فباطل بالمشاهد المحسوس من واقع الحال، إذ المنع يؤدي إلى الزنا والفاحشة، وهل نقرّ بتعدّد الخليلات، ونمنع تعدّد الحليلات؟
وكذلك ما يدّعيه بعضهم من أن الزواج بأكثر من واحدة يترتب عليه ظلم للمرأة لانعدام العدل خصوصا في هذا الزمن، فهو باطل؛ لأنّ العدل، بغض النظر عن قضية اشتراطه في الزواج أو عدم اشتراطه، مطلوب في الزواج بواحدة أو بأكثر من واحدة، ولو جاز للإمام منع التعدّد بتعلة انعدام العدل، لجاز له منع الزواج أصلا وهو باطل، ثمّ إذا ثبت الظلم في زواج معيّن فللإمام أن يمنع ذلك الظلم، لا أن يمنع الزواج مطلقا.

لذلك فإنّ هذا القانون باطل، والشرع منه براء. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». (متفق عليه)

المصدر : مجلة الزيتونة

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات