اقتباس
ولما كان الهدف المنشود لدى المسلمين عموماً هو العمل بكتاب الله وسنة نبيه وتطبيقهما في المجتمع الاسلامي؛ للخروج من الأزمات المختلفة، وليتحقق بذلك النصر على الشهوات والشبهات والأعداء؛ فإن الحاجة لفقه الأولويات له حضوره وأهميته. وليس من الصعب على المسلمين الاتفاق على تحديد شروط النصر، أو شروط التغيير، بقدر اتفاقهم على تحديد الأولويات الواجب العمل بها في هذه المرحلة الحرجة؛ فقد ..
فقه الأولويات: يعد فقه الأولويات من الأسس المهمة المرتبط بفقه السياسة الشرعية، وفي العادة فإن ضبط فقه الموازنات السابق الذكر، يعين الفقهاء على تحديد الأولويات.
المقصود بفقه الأولويات: ترتيب الأعمال المطلوب القيام بها لتحقيق هدف مّا، حسب الأهمية والحاجة إليها في الزمان أو المكان المحددين، بحيث لا نقدم المهم على الأهم، ولا ما هو من الدرجة الصغرى على الدرجة الكبرى.
ولما كان الهدف المنشود لدى المسلمين عموماً هو العمل بكتاب الله وسنة نبيه وتطبيقهما في المجتمع الاسلامي؛ للخروج من الأزمات المختلفة، وليتحقق بذلك النصر على الشهوات والشبهات والأعداء؛ فإن الحاجة لفقه الأولويات له حضوره وأهميته. وليس من الصعب على المسلمين الاتفاق على تحديد شروط النصر، أو شروط التغيير، بقدر اتفاقهم على تحديد الأولويات الواجب العمل بها في هذه المرحلة الحرجة؛ فقد نتفق على ضرورة هذه الشروط، لكن سرعان ما نختلف على أولويات العمل بها.
أهم الموضوعات في ترتيب سلم الأولويات في الفقه السياسي:
العقيدة أولاً:
وفيه العمل على تجذير الإيمان الصادق في الأمة، وعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت. قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) [البقرة:256]. (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
فالعقيدة مقدمة على كل عمل مهما كانت سمو درجته؛ فلا نصر ولا عز ولا كرامة مع الشرك، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن المهم تقديم رابطة العقيدة على كل رابطة من دونها مهما كانت صلتها بالفرد؛ كرابطة القرابة والنسب، ورابطة الأرض، ورابطة القومية، وأمثالها. قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
ثانيا: الأركان مقدمة على سائر الفرائض:
بعد سلامة العقيدة، تأتي أركان الإسلام في الأولوية لعظم شأنها، ويكفي أن يقال فيها، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً". فهي من المعلوم من الدين بالضرورة، فمن أنكرها، أو استهزأ بها، فقد كفر.
ثالثا: الفرائض مقدمة على النوافل:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته... " [صحيح].
ودلالة الحديث واضحة في قوله: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه"؛ فالفرائض أحب إلى الله تعالى من النوافل، التي تأتي بالدرجة التالية، وهذه الفرائض المقصودة هي ما انعقد عليها إجماع الأمة من دون الأركان السابقة. منها حرمة الربا، وبر الوالدين، والحدود، والمواريث، والزواج، وغيرها.
رابعا: تقديم فهم الصحابة على غيرهم:
المقصود تقديم إجماع فهم الصحابة على غيرهم، لقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء:115].
قال ابن كثير في تفسيرها: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، أي: ومن سلك طريقاً غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، وقوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ): هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم" ا.هـ.
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" [رواه البخاري.]
تحدثنا في الجزء الأول فقه الأولويات وأهميته في فقه الواقع والسياسية الشرعية عن تعريفه، وعن أهم الموضوعات في ترتيب سلم الأولويات في الفقه السياسي، وفي هذا الجزء نكمل الباقي.
البناء الأخلاقي:
لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سورة الجمعة:2]. قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس:9].
فتزكية النفس المؤمنة بالخلق الحسن والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود. بل إن بناء الهيكل الأخلاقي له أكبر الأثر في التأثير في الآخرين؛ لأن حسن الأخلاق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في عيون الغير.
رعاية الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بجملة من المصالح للعناية بها وإقامتها في المجتمع، ولتفاوت درجات هذه المصالح في الأهمية، تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية، وتقدم المصالح الحاجية على المصالح التحسينية.
أ) الضروريات:
يقول الشاطبي في تعريفها: "ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين" (1) .
وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي: حفظ الدين, والنفس، والنسل، والعقل, والمال, وقد شرع الإسلام لحفظ هذه الضروريات ما يجلبها وما يحفظها، وهي متفاوتة في درجاتها، فأولها وأولاها، حفظ الدين، فهو مقصد الحياة، لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فلا يجوز التنازل عن الدين وتركه لأجل أي من هذه الضرورات، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل:106]، كما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه، إذ شتم نبيه، تحت الإكراه.
ب) الحاجيات:
وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات والمعاملات (2). فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج عن أهلها، لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]. وقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:286]. والحاجة إلى الحاجيات تكون دون الضرورات التي لو فقدت لاختل نظام الحياة.
فالحاجيات لو فقدت لَلَحِقَ بالناس حرج ومشقة، في عباداتهم؛ كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض، وما يلحق بالناس من حرج في عاداتهم، كالمأكل والمشرب والمسكن والملبس، ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي درجة التوسط، فالحد الأدنى منها يعد من الضروريات، والحد الأعلى من التحسينيات.
ج) التحسينيات:
تكون فيما يتعلق بمكارم الأخلاق (3). وهي: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، وهي: "خادم للأصل الضروري ومحسنة لصورته الخاصة" (4). وبها يظهر "كمال الأمة في نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها، أو في التقرب منها" (5).
كتب بواسطة: العمق
--------
(1) "الموافقات" (2/8).
(2) انظر: "الموافقات"، للشاطبي: (2/11)، "الأحكام" للآمدي (3/274).
(3) "الموافقات"، للشاطبي (2/11).
(4) "الموافقات"، للشاطبي (2/42).
(5) "مقاصد الشريعة"، لابن عاشور، (ص82).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم