عناصر الخطبة
1/منزلة العلماء ومكانتهم 2/المصيبة في رحيل علماء الأمة 3/بعض ما يجب على الأمة تجاه العلماءاقتباس
إن وجود العلماء في الأمة حفظ لدينها، وصون لعزتها وكرامتها؛ لأنهم السياج المتين الذي يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، وهم ورثة الأنبياء في أممهم، وأمناؤهم على دينهم، وهم شهداء الله في الأرض، وهم أهل خشية الله، وهم الوسيلة في...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس: العلماء هم سرج الظلام، وهم قادة العوام، وهم مصابيح الدجى، وهم حملة الدين، وبهم تحفظ الأمم، وبهم ينتشر العلم، وبهم يحذر الناس من الفتن، فلا غنية للناس عنهم طرفة عين، كيف وهم لا يستطيعون عبادة ربهم إذا أشكل عليهم شيء إلا بفتاويهم.
ومتى فقدت الأمة أمثال هؤلاء، فقد فقدت شيئا عظيما، فلا ريب أن موت العلماء خطب جلل، ورزية عظيمة، وبلاء كبير؛ إذ الأشخاص كلما كان دورهم عظيماً، وأثرهم كبيراً؛ كانت المصيبة بفقدهم أشد.
وما كان قيس هلْكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما
لكنها سنة الله الجارية والماضية في عباده، الموت لا محيد عنه ولا مفر؛ لكن فرق كبير بين موت إنسان من عامة الناس لا يشعر بفقده إلا أهله وأقاربه فيترحمون عليه، ويدعون له بالمغفرة، وبين موت علم من أعلام الأمة، وحبر من أحبارها، يستفيد الناس من علمه وفتاواه، ويعبدون الله على بصيرة، ويتعاملون بينهم على ما شرع الله.
لعمرك ما الرزية فقد مال *** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شخص *** يموت بموته خلق كثير
أخرج الإمام الترمذي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، وفي رواية له ولأبي داود: "فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير".
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا، والعلم يحتاج إليه في كل وقت".
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل -رحمهما الله-: "قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف أو منهما من عوض".
فوجود العلماء في الأمة حفظ لدينها وصون لعزتها وكرامتها؛ لأنهم السياج المتين الذي يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، وهم ورثة الأنبياء في أممهم، وأمناؤهم على دينهم، وهم شهداء الله في الأرض؛ شهداء بالحق أنه لا إله إلا الله وحده، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].
وهم أهل خشية الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28].
وهم الوسيلة في تبيين الأحكام: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[النحل: 43]، وأهل الذكر هم العلماء الذين يستعان بفهمهم على فهم مراد الله ومراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)[العنكبوت: 43]؛ لأنهم ورثة الأنبياء في العلم والفقه والفهم.
وما كان الله ليهلك أمة من الأمم وفيها المصلحون، كما قال جل في علاه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117].
وإذا كانت هذه منزلة العلماء في الأمة والدين؛ أفلا يجدر بنا أن نأسف على فقدهم وموتهم؟ ففقدهم ليس فقدًا لرجل صالح فحسب، ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة.
اللهم اغفر لعلمائنا الأحياء منهم والأموات، واجزهم عنا خير ما جزيت عالما عن أمته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: لا تزال الأمة تفقد عالما تلو الآخر، والناس يشعرون بفقدهم، وما حل بهم من نقص، ويسألون الله الخلف المبارك لهم، فالأمة ولاّدة، ليست بعقيم، والأمل بالله كبير أن يخرج من أرحام الصالحات من يخلف العلماء، وقد فسر العلماء قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)[الرعد:41] بأنه خراب الأرض وقلة بركاتها؛ وذلك بموت علمائها وفقهائها، وأهل الخير منها، وقد تلقى العلماء هذا التفسير بالقبول كما ذكر ذلك الحافظ أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله-، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري": "فدلَّ هذا على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء".
قال ابن مسعود -رضي الله- عنه يوم مات عمر: "إني لأحسب تسعة أعشار العلم اليوم قد ذهب".
وقيل لسعيد بن جبير: "ما علامة هلاك الناس: قال: إذا هلك علماؤهم".
ونقل عن علي وابن مسعود وغيرِهما قولهم: "موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
وقال سفيان بن عيينة: "وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم".
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها *** وإن أبى، عاد في أكنافها التلف
وهذا لا يعني القنوط والتشاؤم والتطير، فقد مات من قبل سيد العلماء، وإمام الأتقياء؛ محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده صحابته النجباء وأتباعهم النبلاء، ولم يزل دين الله باقياً ظاهراً، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها -بإذنه تعالى-، ولكن المقصود هو بيان مكانة العلماء في الأمة، وأن يعرف الناس منزلتهم عند الله وعند رسوله، وأن الخير قريب منهم ما بقوا بينهم، ليستفيدوا من هديهم وينهلوا من علمهم، وينزلوهم المنزلة اللائقة بهم من التقدير والتكريم والرجوع إليهم فيما يشكل عليهم، وأن يعلموا أنهم آمنةٌ لهم، فيجب علينا معرفة حق العلماء على الأمة، معرفة حقهم وهم أحياء قبل أن يموتوا، فليس من الأمة من لم يعرف لعالم حقه، فنبذل لهم المعروف، ونكف عنهم الأذى، ونصون أعراضهم عن الغيبة والنميمة.
اللهم احفظ لنا علماءنا، وبارك فيهم، واخلف من مات منهم بأبرك منه يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم