عناصر الخطبة
1/من فضل العلم 2/مكانة العلماء وعظيم قدرهم 3/موت العلماء من أعظم المصائب 4/وجوب توقير العلماءاقتباس
هم أقمار الليالي إن خسفت, وهم ضياء النهار إن شمسه كسفت, وبهم النجاة -بإذن الله- إن الأمة انتحبت, وبموتهم وفواتهم ينتهي هذا كله؛ لأن موتهم ثلمة, وعلى الأمة غمة, قال أيوب السختياني: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله قضاؤه على الخلق وقع, أحمده -سبحانه- وأشكره عدد ما خلق وصنع, وأستعينه وأستهديه وأستغفره؛ وهو الغافر لمن تاب إليه من كل تقصير, ومن كل ذنب له العبد جَمع, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, هدى الناس إلى العلم ورفع به من رفع, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أقام الله به الدين ونفع, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه حتى الواقعة تقع.
ثم أما بعد: فأوصيكم إخوة الدين ونفسي المقصرة بتقوى الله رب العالمين, خلق البشر من طين, ورزقهم من كل زوجين اثنين, وأعطى كل من سأله من السائلين, فاتقوه وعودوا إليه -أيها المسلمون- لعلكم تفلحون, فما الحياة الدنيا إلا إلى حين ثم تموتون, ثم إلى ربكم ترجعون؛ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- بأن العلم ميراث عظيم, وما قام هذا الدين إلا على قاعدة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1 - 5], والأنبياء ورسل رب السماء, لم يورثوا درهما ولا دينارا؛ إنما ورثوا العلم, فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ, وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ؛ رضًا بما يصنعُ, وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ, حتَّى الحيتانِ في الماءِ, وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ, وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ, إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنَّما ورَّثوا العلمَ, فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ"(رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد, وصححه الألباني).
فعلماء الأمة لهم فضل عظيم على أهلها بعد نبيها, فلولاهم بعد الله ما بلغ هذا الدين كل مكان, ولا عرَف عمومه وخصوصه كل إنسان, ولاندثر الحق من سالف الزمان, وقد أقر لهم بخشيته رب السماء, فقال -عز من قائل- كريما: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)[فاطر: 28], فلن يعرف حقهم وقدرهم إلا من جالسهم, وزار حياضهم, واستقى من معين أنهارهم, وشنف آذانه بجميل كلامهم, فبيان الحلال من الحرام اختصاصهم, وتمييز المستحب من المكروه ينالهم, وإظهار المباح للسائلين يطالهم, والمسؤولية العظمى فيما يخص الدين في أعناقهم.
هم أقمار الليالي إن خسفت, وهم ضياء النهار إن شمسه كسفت, وبهم النجاة -بإذن الله- إن الأمة انتحبت, وبموتهم وفواتهم ينتهي هذا كله؛ لأن موتهم ثلمة, وعلى الأمة غمة, قال أيوب السختياني -رحمه الله-: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي"؛ يريد العلماء منهم.
فالعلم -أيها الأحبة- لا يرفع من الكتب ولا ينزع من الصدور؛ إنما يقبض بموت العلماء, فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ, ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ, حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا, فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ؛ فضلُّوا وأضلُّوا"(رواه البخاري), فموت العالم, مصاب جلل, ويسبب كبير خلل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
بارك الله لي ولكم في السنة والكتاب, وهداني وإياكم لما فيهما من خير وصواب, وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور التواب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله له نُسلم, أحمده -سبحانه- وأشكره هو المنعم, وأشهد أنه الإله الحق المُكْرِم, وأن محمدا عبده ورسوله بها نجزم, صلى الله وسلم عليه ما بقي لله مسلم, وبعد:
يامن لربه يستسلم: اتق الله تُكفى وتَسْلم؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: إن العلماء لهم عظيم قدر, وبصلاحهم يصلح بإذن الله كل أمر, وإن كانوا في الحق مع ولاة الأمر؛ سيتحد الصف, وينزل على الخلق من الله اللطف, وكل شر وسوء سيكف؛ لذا محال أن يفي بحقهم كل وصف, قال الإمام أحمد -رحمه الله- في وصف العلماء: "يدعون مَن ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم مِن قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم مِن ضال تائه قد هدوه!", وقال ابن القيم-رحمه الله- عنهم: "هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمهات بنص الكتاب".
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- كثير الدعاء للشافعي -رحمه الله- فسأله ابنه عبد الله: "يا أبتِ! أي شيء كان الشافعي؛ فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟!", فأجاب -رحمه الله-: "يا بنيّ! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما عوض", ليت شعري أباق مثل هذا أم تقضى؟!.
حفظ الله علماء الأمة ورعاهم, ورحم من مات منهم, والفردوس الأعلى من الجنة أعطاهم, وأختم بلسان حال الجميع إن مات عالم من سابق أو لاحق، بقولي:
الموت كأس كل الناس شاربه *** والعلم إرث لمن أبقاه في الناسِ
قد مات فذ جميع الخلق تعرفه *** أعطى من الجد جهدا دون مقياسِ
إن مات شيخ فنحن اليوم نفقده *** لكن خيرا عظيما له يبقى كنبراسِ
ثم الصلاة على المبعوث من مضر *** ما عم نور الدنا من بعد إغلاسِ
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم