فضل الله على العباد بتحصيل أسباب الرشاد

فيصل بن جميل غزاوي

2024-06-28 - 1445/12/22 2024-06-29 - 1445/12/23
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/من فضل الله على عبده توفيقه للرشاد 2/بعض أسباب تحصيل الرشد 3/وسائل معرفة العبد أنه على سبيل الرشاد 4/دأب المسلم سعيه في تحصيل الخير وبذله 5/وجوب استشعار المسلم لحاجته لربه

اقتباس

عبدَ اللهِ: سَلْ نفسَكَ بصدق: "هل أنتَ على سبيل الرشاد وجادَّة الحق؟"، فإن كنتَ مستجيبًا لربك، محبًّا للإيمان، مُقبِلًا على الطاعات، مُبغَضًا للمعاصي، فاحمد الله على تفضله عليه، وإحسانه إليك، والزم الاستقامة، وتضرع إلى ربك أن يثبتك على الْهُدَى...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المنفرِد بالخَلْق والإيجاد، عمَّ برحمتِه جميعَ العبادِ، وخصَّ أهلَ طاعتِه بالهداية إلى سبيل الرشاد، أحمدُه -سبحانه-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، هدَى به من الضلالة، وأرشَد به من الغواية، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه ومَنْ سلَك طريقَ الْهُدَى والسداد.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، فمن اتقى الله -تعالى- جعَل له هُدًى يتبصَّر به من العمى والجهالة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْحَدِيدِ:28].

 

عبادَ اللهِ: إنَّ من توفيق الله لعبده أن يجعله سالكًا سبيلَ الرشاد، مسدَّدًا في قوله وعمله، داعيًا إلى الخير ودالًّا عليه، وهذا فضلٌ كبيرٌ، ومقامٌ رفيعٌ، وضِدُّ ذلك أن يضِلَّ المرء عن سبيل النجاة والهداية ويَسْلُكَ مسالكَ الغوايةِ، وشتانَ بينَ الحالينِ، قال -سبحانه-: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[الْبَقَرَةِ:256]، وقال -تعالى-: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)[الْأَعْرَافِ:146]، وانظروا الفرق بين من ألهمه الله الرشد وهداه للحق، ومن ليس فيه رشد قط؛ فهذا خليل الله إبراهيم -عليه السلام- الذي أهله الله لخلته، وأخلصه لاصطفائه، وهداه إلى سبيل الرشاد، أخبر -تعالى- عنه بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ)[الْأَنْبِيَاءِ:51]، وذاك فرعون لعنه الله، الذي ليس في شأنه وحاله هُدًى ولا رشد، وإنَّما هو جهل وضلال، وكفر وعناد؛ إذ قال الله عنه: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)[هُودٍ:97]، فنفى عنه الرشد، وذلك تجهيل لمتبعيه؛ حيث شايَعُوه على أمره، وعدَلُوا عن اتباع نبي الله موسى -عليه السلام- الهادي إلى الحق، إلى اتباع من ليس في اتباع رشد.

 

عبادَ اللهِ: اعلموا -أرشدني الله وإيَّاكم لطاعته- أنَّ لإدراك الرشد وتحصيله أسبابًا، يأتي في مقدمتها الاستجابة لدعوة الإيمان والطاعة، قال -تعالى-: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ:186]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَدَ"، واتباع القرآن يهدي إلى الحق وسبيل الصواب، كما قال -سبحانه- عن مُؤمِنِي الجنِّ: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)[الْجِنِّ:1-2]، قال ابنُ تيميةَ -رحمه الله-: "مَنْ تدبَّر القرآنَ طالبًا الْهُدَى فيه تبيَّن له طريقُ الحقِّ".

 

وإن ممن يوفق لسبيل الخير وإصابة الطريق المستقيم، مَنْ وصفَهم اللهُ بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ:69].

 

ومن سبل نيل الرشاد طلب العلم النافع، كما قال الله -تعالى- على لسان موسى للخضر -عليهما السلام-: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[الْكَهْفِ:66].

 

ومن طُرُق اكتساب الرُّشْد: سؤالُ اللهِ -سبحانه- تلك المنزلةَ؛ فقد سألَها الفتيةُ المؤمنةُ حين أَوَوْا إلى كهفهم؛ (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ:10]، وأَمَر اللهُ -تعالى- نبيَّه -عليه الصلاة والسلام- بذلك السؤال إذ يقول: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ:24]، وامتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ربه؛ فكان يسأل ربّه الرشد ويقول: "اللهمَّ أَلهِمْني رُشدي، وقِنِي شَرَّ نفسي".

 

عبدَ اللهِ: سَلْ نفسَكَ بصدق: "هل أنتَ على سبيل الرشاد وجادَّة الحق؟"، فإن كنتَ مستجيبًا لربك، محبًّا للإيمان، مُقبِلًا على الطاعات، مُبغَضًا للمعاصي، فاحمد الله على تفضله عليه، وإحسانه إليك، والزم الاستقامة، وتضرع إلى ربك أن يثبتك على الْهُدَى، وأَحِبَّ للناس ما تُحِبُّ لنفسِكَ، وَاسْعَ في نفع الخلق وهدايتهم، بدلالتهم إلى الطريق السوي، العدل الرضي، فكم من ناصح أمين، أسدى لغيره النصح والإرشاد، فأجاد وأفاد؛ فمن ذلك ما جاء في قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، فقال له ذلك العالم: "ومَنْ يحول بينك وبين التوبة"، ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر، يعبد الله فيه، فلما فعل الرجل ذلك أدركه الموت في أثناء الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة؛ فما أعظم الانتفاع بإرشاد هذا العالم.

 

ومن أمثلة ذلك ما نقل من إرشاد وتوجيه لوكيع بن الجراح -رحمه الله- في إنشاد من شكا إليه الحال قائلًا:

شكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظي *** فأرشَدَني إلى ترك المعاصي

وأخبَرَني بأنَّ العلمَ نورٌ *** ونورُ اللهِ لا يُهدى لعاصي

 

عبادَ اللهِ: جاء في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، لَيُصَلُّونَ على معلِّم الناسِ الخيرَ"، والمقصود بمعلم الناس الخير هم العلماء والدعاة وكل من يرشد الناس إلى ما يقربهم من الله -تعالى-، وما فيه نجاتهم في الآخرة، كما أن النافع من الدروس والخطب والوصايا والأمثال، والرسائل والكتب والنصائح والمواعظ، كلها تدخل في باب الإرشاد.

 

معاشرَ المسلمينَ: إن مما يمتاز به المجتمع المسلم، أن يشيع بين أفراده روابط متينة وأخلاقيَّات سامية؛ كالتآخي والمحبة والتناصح والإرشاد، فشأن المسلم أن يحرص على هداية الخلق، ولا يألو جهدًا في دلالتهم على الخير، وتوجيههم إلى طريق الصواب، مستشعِرًا أن الإرشاد أداة إصلاح وهداية، وهو من النصيحة التي هي من حقوق الأُخوَّة الإيمانيَّة، وينبغي أن يكون باعثه للقيام بهذا العمل، هو وجه الله وطلب مرضاته، وألا يضيق صدره إن لم يستجب لإرشاده، وإن لم يعمل بتوجيهاته، فإن ذلك لا يضيره شيئًا، ولا يضيع أجره.

 

قد قلتُ ما سمعتُم، وأستغفِر اللهَ لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أرشَدَنا إلى طريق الحق والهداية، وأنجانا بفضلِه من سُبُل الباطل والغواية، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: ما أعظم منة الكريم المنَّان، حين يُحبِّب إلى عبده الإيمانَ، ويُزيِّنه في قلبه، ويُبَغِّض إليه الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، يقول الله -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الْحُجُرَاتِ:7-8]، والذين فقَدُوا صفةَ هؤلاء المؤمنينَ، وحادُوا عن سبيل الراشدينَ، قد ضلوا، وما كانوا مهتدين، فمن لم يؤمن بالله حق الإيمان، فليس براشد، ومن لم يستجب للحق ويذعن لربه واتبع هواه فليس براشد، ومن كذب بآيات الله وأعرض عنها فليس براشد، ومن عادى الرسول وخالف منهجه من بعد ما اتضح له الحق فليس براشد، ومن استكبر في الأرض بغير الحق فليس براشد، ومن آثر الحياة الدنيا وزينتها وسعى لها، وغفل عن الآخرة وترك العمل لها، فليس براشد.

 

أيها المسلمون: لنستشعِرْ شدةَ حاجتنا، وعِظَمَ ضرورتِنا، وشدةَ افتقارِنا إلى ربنا، وأنَّه -سبحانه- هو الذي هدانا إلى طريق الحق واجتبانا، ونحن بحاجة إلى أن يصلح الله شأننا كله، ويثبتنا على الدين، لا غنى لنا عن ذلك طرفة عين؛ فنحن ندعوه دائمًا في الصلاة وغيرها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الْفَاتِحَةِ:6].

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا -عبادَ اللهِ- على الهادي البشير والسراج المنير، كما أمركم بذلك العليم الخبير: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56]، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، اللَّهُمَّ انصر الْمُسْتَضْعَفِينَ والمجاهدينَ في سبيلكَ والمرابطينَ على الثغور وحماة الحدود، واجعل بلدَنا هذا آمِنًا مطمئنًّا رخاء وسعة وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى من الأقوال والأفعال، يا حي يا قيوم، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده لهداكَ وتقواكَ، اللهمَّ أنجِ المستضعفينَ من المؤمنين في فِلَسْطين وفي كل مكان، اللهمَّ اشف مرضاهم وعاف مبتلاهم واحقن دماءهم وارحم موتاهم، وتقبَّلْ في الشهداء قتلاهم، اللهمَّ أطعمهم من جوع وآمِنْهم من خوف، اللهمَّ فرِّج همَّهم واكشف كربَهم وارحَمْ ضَعفَهم واجبر كسرَهم، واربط على قلوبهم وأَنزِلِ السكينةَ عليهم، اللهمَّ انصرهم ومكِّن لهم، واجعل دائرة السوء على مَنْ بغى عليهم، واشدد وطأتك على مَنْ آذاهم وتسلَّط عليهم يا سميع الدعاء.

 

(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ:10]، اللهمَّ أَلْهِمْنَا رشدَنا وأَعِذْنا مِنْ شرِّ أنفسنا، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ النبيين.

 

 

المرفقات

فضل الله على العباد بتحصيل أسباب الرشاد.doc

فضل الله على العباد بتحصيل أسباب الرشاد.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات