عناصر الخطبة
1/فضل العلم والعلماء 2/اهتمام الإسلام بالعلم والترغيب فيه 3/حقوق العلماء على الأمة 4/خطورة القدح في العلماءاقتباس
لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلم اهتمامًا بالغًا؛ لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلم أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إنَّ علماء الأمة هم ورثة الأنبياء، وقُرَّة عين الأولياء، رفعهم الله بالعلم، وزينهم بالحِلْم، بهم يُعرف الحلالُ من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، هم أركان الشَّريعة وحُماة العقيدة، ينفون عن دين الله تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضَّالين، فكم من طالبِ علمٍ علموه، وتائهٍ عن صراط الرُّشد أرشدوه، وحائرٍ عن سبيل الله بصَّروه ودلّوه.
والعلماء هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسْفَر عنها الظلام أبصروا.
أيها المسلمون: يكفي العلماء شرفًا وفضلاً اقترانُهم باسم المولى -سبحانه- واسم ملائكته في قوله: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)[آلعمران:18]؛ فلما قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، دلَّ على أن هذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.
وفي شرف العلم أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114], فلو كان شيئًا أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله المزيد منه؛ كما أمر أن يستزيده من العلم.
وهنيئاً لَهُمْ شهادةُ اللهِ بأنَّهمْ أشدُّ النَّاسِ خشيةً لهُ، قالَ -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر:28].
أيها المسلمون: لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلم اهتمامًا بالغًا؛ لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلم أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- تدعُو إلَى العلم والمعرفةِ وتنوِّهُ بقيمةِ القراءةِ، لأنَّهَا أعظمُ وسائلِ اكتساب العلم، فقدْ قالَ -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5].
وحثَّنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- علَى طلبِ العلم؛ وجعلَهُ طريقاً إلَى الجنَّةِ، ففي صحيح مسلم قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "... ومن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ، وما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ وحفّتهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده ..." الحديث.
عبادَ اللهِ: هَا هوَ نبينا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يصوِّرُ مكانةَ العلم والعلماء؛ فيقولُ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ".
وأخبرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلم النَّافعَ، في الصحيحين قالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".
عبادَ اللهِ: ولئنْ كانَتْ هذهِ درجةُ العلم والعلماء فحريٌّ بنَا أنْ نُجلَّهُمْ ونعرفَ قدرَهُمْ ومنْزلتَهُمْ، يقولُ سيد العلماء وإمامُ الأنبياءِ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الحسن: "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقَّهُ". وإنَّ مِنْ حقِّ العلماء علينَا: احترامَهُمْ، والتواضعَ لهمْ، ولينَ القولِ، والجانبِ لهمْ.
إخوة الإسلام: وتمس الحاجة إلى الرجوع إلى أهل العلم في كل وقت، وخاصة في أوقات الفتن والمحن، وخاصة العلماء الكبار الذين زادتهم الأيام علماً وصقلتهم التجربة خبرة ودراية.
وليُعلم -رعاكم الله- أن العلماء كغيرهم من الناس ليسوا بمعصموين، وقد يخطئون لكن المهم في الأمر من الذي يقدر هذا الخطأ، ويقول: إن العالم أخطأ أم لم يخطئ، وما الموقف الصحيح في حين رؤية خطأ العالم، فيقال: إذا أخطأ العالم فلا ينسب الخطأ للإسلام، ويعالج الخطأ بالحكمة، وعدم القدح في العالم، فيبين الخطأ بالطريقة المناسبة مع حفظ مكانته، فهذه كتب العلماء مملوءة بالردود فيما بينهم في كتب الفقه والحديث وغيرها، ولا تجدهم يضللون بعضهم البعض، بل يحفظون مكانة العالم، وهكذا كان السلف الصالح والأئمة يتعاملون مع العالم.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء-: "ثم إن الكبير من العلماء إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ولا نطرحه، وننسى محاسنه، –نعم- ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك".
نسأل الله السلامة والعافية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون: العلماء كغيرهم من الناس ليسوا بمعصموين؛ فقد يخطئون لكن المهم في الأمر من الذي يقدر هذا الخطأ، ويقول: إن العالم أخطأ أم لم يخطئ، وما الموقف الصحيح في حين رؤية خطأ العالم، فيقال: إذا أخطأ العالم فلا ينسب الخطأ للإسلام، ويعالج الخطأ بالحكمة، وعدم القدح في العالم، فيبين الخطأ بالطريقة المناسبة مع حفظ مكانته وفضله، إذا كان هذا مقررًا، فثمة أمور مهمة تذكر في هذا المقام:
منها: أن البعض -هداهم الله- يستعجل في بث زلة العالم دون ترو أو تثبت، وكم من فتاوى ومقولات نسبت لبعض أهل العلم تبين كذبها وزورها.
إن التقنية ووسائل التواصل الحديثة مع ما فيها من فوائد كبيرة إلا أنها سرعت من منظومة الإشاعات، وبدأ البعض يتفنن فيها في الطعن في أهل العلم بغير وجه حق.
لماذا تحولت -يا رعاكم الله- هذه المواقع التي تسمى بمواقع التواصل الاجتماعي إلى مستنقع للغيبة والنميمة، والنقد اللاذع غير البناء، والتي لم يسلم منه حتى أهل العلم وأصحاب الفضل.
ثم من الذي يُقدِّر خطأ العالم، ويقول: إن هذا العالم أخطأ، وذلك العالم على صواب؟!.
إخوة الإسلام: الله سبحانه يقول في محكم التنزيل: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[الأنبياء: 7]؛ ففي هذه الآية: دلالة على أن الذي يُسأل في مسائل الشريعة هم أهل العلم، فيخطئ كثيرا من يخوض في العلم من غير أهله، والعلم الشرعي كغيره من التخصصات لا يجيده إلا أصحاب التخصص.
ومع ذلك -وللأسف الشديد- أنه أصبح يتكلم في العلم من لا يجيده، فيأتي بالعجائب، ومعلوم أن العلوم الشرعية لها أصولها وأحكامها وأدلتها التي تحتاج إلى العالم بأحكام الشريعة الفاهم لمقاصدها القادر على استنباط الأدلة وفق تلك المعالم.
أيها المسلمون: والواجب في الأحكام الشرعية الرجوع إلى الدليل الذي يحسم ذلك الخلاف؛ كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء:59]، وقال -تعالى-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ)[الشورى:10].
وكما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
كما أن من أمور المسلَّمة شرعًا الوقوف عند الدليل الشرعي، والالتزام به، قال -تعالى-: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
والحكمة من الحكم الشرعي قد تغيب عن البعض، فربما يتردد في تطبيق الحكم المبني على الدليل الشرعي بحجة أن الزمان تغير أو غير ذلك، وشبهة الرد الحكم بحجة تغير الزمان حجة واهية؛ لأن الدليل الشرعي المبني على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أصلح للعباد مما سواه، وفيه من الحكم الجلية، وربما الخفية الكثير مما يعرفه المسلم المتبع للدليل والمتجرد من هواه.
عباد الله: إنَّ النيل منَ العلماء وإسقاط حقهم وكرامتهم، يُحَقِّقُ ما يسعى إليه أعداءُ المسلمين، وعلى رأسهم اليهودُ، الذين جعلوا طمس هُويَّة العلماء، ومسخ مكانتهم من أهمِّ أهدافهم، التي يَسْعَون إلى تحقيقها؛ إذ إنَّهم يعلمون أن في تشويه صورة العلماء سبيلاً لتحقيق مآربهم، والوصول إلى أهدافهم، وإذا استخفَّ الناسُ بعلمائهم، فحَدِّث عن الفوضى ولا حرج، وحدِّث عن فساد الأخلاق ولا حرج، وحدِّث عن نشوء المنكرات والمخالفات.
فعلينا -أيها الإخوة- أن نحفظ للعلماء مكانتهم وفاعليتهم في قيادة الأمة، وأن نتأدب معهم، وأن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن، وألا نسيء الظن فيهم، وإن لم نأخذ بأقوالهم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم