عناصر الخطبة
1/مخالطة الناس والصبر على أذاهم 2/حث الإسلام على العفو والصفح 3/العفو مِن شِيَم أهل الكرم 4/العفو عند المقدرة وستر السيئة من أخلاق المرسلين.اقتباس
فالذي يملك نفسه عند الغضب هو الشديد الممدوح عند العقلاء، وليس الشديد بالذي ينتقم لنفسه.. ينبغي أن يكون المسلم إذا نفخ في قلبه الشيطان نار الغضب أن يتذكر فضل العفو وأن يحتسب ذلك عند الله فيدفعه ذلك للغضّ عن المسيء...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله…
أما بعد فيا أيها الناس: إن الإنسان في هذه الحياة مأمور بمخالطة الناس، والصبر على أذاهم، وإنه حال المخالطة لا بد أن يواجهه مَن لا يحسن التعامل مع الآخرين أو من يعامله بما لا يرتضيه من الاحترام وإعطائه المنزلة اللائقة به، وبهذا يتفاضل الناس، وتتبين أخلاق الرجال في معاملة الناس على اختلاف أجناسهم، ولهذا أمر المسلم أن يسير في أعلى المقامات، وأعلاها المعاملة بالصبر على ما يصدر منهم، أو أن يعاملهم بالمثل قال –سبحانه-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)[النحل:129]؛ فأباح لهم القصاص وهو العدل، وندَب إلى الفضل وهو العفو فقال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى:40]؛ أي: لا يضيع ذلك عند الله بل يجزيه عنه بما لم يخطر له على بال؛ كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا".
ولو انتصر المسلم على مَن ظلمه بأخذ حقه من غير اعتداء فلا سبيل عليه، وإن كان الأفضل له أن الصبر؛ كما قال -سبحانه: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)[الشورى:41]؛ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم.
وقد روى في الأثر: "من دعا على مَن ظلمه فقد انتصر"؛ رواه الترمذي من حديث أبي الأحوص، عن أبي حمزة -واسمه ميمون- ثم قال: "لا نعرفه إلا من حديثه، وقد تُكُلِّمَ فيه مِن قِبَل حفظه".
وبيَّن -سبحانه- أن الحرج والعنت (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[الشورى:42]؛ أي: يبدؤون الناس بالظلم. كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "المستبَّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَد المظلوم".
وروى ابن أبي حاتم بسنده قال: إن محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة، فأُخِذْتُ فانطلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال: "حاجتك يا أبا عبد الله". قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي. قال: ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد، استعمل صديقًا له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشورى:42]؛ فقال: صدق والله ونصح، ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي. قال: نعم.
عباد الله: إن الله -تعالى- لما ذمَّ الظلم وأهله وشرع القصاص، قال نادبًا إلى العفو والصفح مُرَغِّبًا الناس فيه؛ فقال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) أي: صبر على الأذى وستر السيئة، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُور)[الشورى:43]؛ قال سعيد بن جبير: "يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها، أي: لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل".
فالذي يملك نفسه عند الغضب هو الشديد الممدوح عند العقلاء، وليس الشديد بالذي ينتقم لنفسه أخرج الشيخان من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ".
وهكذا ينبغي أن يكون المسلم إذا نفخ في قلبه الشيطان نار الغضب أن يتذكر فضل العفو وأن يحتسب ذلك عند الله فيدفعه ذلك للغضّ عن المسيء كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف:201]؛ يخبر –تعالى- عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم (إِذَا مَسَّهُمْ)؛ أي: أصابهم "طيف"، وقرأ آخرون: "طائف"، فسَّر ذلك بالغضب، ومنهم مَن فسَّره بمسّ الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم مَن فسَّره بالهمِّ بالذنب، ومنهم مَن فسَّره بإصابة الذنب. وقوله: (تَذَكَّرُوا)؛ أي: عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب. (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)؛ أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.
اللهم اجعلنا ممن إذا غضبوا تذكروا فإذا هم مبصرون، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله…
أما بعد؛ فيا أيها المؤمنون: إن الله -سبحانه- بسعة علمه، وعظيم عطفه، يدل الناس على ما فيه صلاحهم، ونجاحهم، ومن ذلك أن تعفو عمن ظلمك، وأن تكون خير الرجلين كما أخرج الشيخان من حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هذَا، وَيُعْرِضُ هذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ".
والعفو -عباد الله- مِن شِيَم أهل الكرم، وعلية القوم، فالكل يستطيع أن ينتقم ولكن الرجل الأبي هو الذي يعفو ويصفح، وقال بعض العلماء: "الناس رجلان؛ فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء، فمُرْه بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)[المؤمنون:96-98].
روى ابن أبي حاتم بسنده عن الفضيل بن عياض أنه قال: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل: "يا أخي، اعف عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله -عز وجل-؛ فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور".
وإن المرء إذا صبر عمن أساء إليه، وصفح عنه، وكل به الله ملكًا ينافح عنه، ومتى ما ردَّ عليه حضر الشيطان وذهب الملك روى أحمد في مسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: "إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان". ثم قال: "يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله، إلا أعز الله بها نَصْرَه، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة" (قال ابن كثير: وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى).
معاشر المسلمين: إن العفو عند المقدرة وستر السيئة من أخلاق المرسلين؛ كما قال يوسف -عليه السلام- لإخوته: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف:92]، مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث، الذي أراد الفتك به -عليه السلام- حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ -عليه السلام- وهو في يده صَلْتًا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف من يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل، وعفا عنه.
وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم، الذي سحَره -عليه السلام-، ومع هذا لم يعرض له، ولا عاتبه، مع قدرته عليه. وكذلك عفوه -عليه السلام- عن المرأة اليهودية -وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة- التي سَمَّت الذراع يوم خيبر، فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت فقال: "ما حملك على ذلك؟" قالت: أردت إن كنت نبيًّا لم يضرك، وإن لم تكن نبيًّا استرحنا منك، فأطلقها -عليه الصلاة والسلام-، ولكن لما مات منها بشر بن البراء قتلها به، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًّا.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن إبراهيم النخعي قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا. وقد أخرج أحمد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ -عز وجل- مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ إلا مَلأ جَوْفَه إيمَانًا"(حسنه ابن كثير).
اللهم اجعلنا ممن يصل مَن قطعه، ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه.
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم تقبل من الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم أبرم لهذه الأمة لأمر رشد، اللهم نج المستضعفين، اللهم من أراد بلادنا وولاة أمرنا بسوء فأشغله بنفسه يا كريم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم