عناصر الخطبة
1/المال الحلال نعمة 2/مالك الحقيقي ما قدمته للآخرة 3/فضل الصدقة وثمراتها 4/قدوات صالحة 5/آداب الصدقة 6/أهمية الصدقة في رمضاناقتباس
متى أردنا الاستمرار في هذه الصدقة، وكمال الأجر على هذه القربة؛ فلا نستكثر ما أعطينا، ولا نستعظم ما قدمنا، وحين نعطي المحتاج فأجملُ العطاءِ ما كان بوجه بشوش، وجانب متواضع، ونفس طيبة؛ فإن القليل بذلك كثير، والكثير مع عدمه قليل، ومراعاة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: كل منكم لديه مال يملكه قليلاً كان أو كثيرا، ومالُكم هذا منه تأكلون وتشربون، وتلبسون وتَستشفون، وتَرْكَبون وتَسكنون، ولكم به في الدنيا مآرب أخرى؛ فما أعظمَ المالَ نعمةً حين نجد به الكفاية عن الحاجة، والعز عن الخَلق، والراحة من العناء، والتخفيف من كثرة الهم والبلاء؛ عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"(رواه أحمد).
غير أن نعمة المال الحلال لا تكمل حتى يحوِّل منه صاحبه إلى دار الآخرة ليبقى رصيداً استثماريًا ينفعه في وقت عظم الحاجة إلى الحسنة الواحدة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:254]؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ قَلُوصَهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ"(متفق عليه).
فما أجلَّ نصيب المرء حين يكون له من ماله ما يقدمه بين يديه قبل لقاء ربه، فمالُه الحقيقي هو الذي أرسله إلى الدار الآخرة عبر بريد الصدقات الخالصات؛ فعَنْ مُطَرِّفٍ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)؛ قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟"(رواه مسلم).
يعني: قدمته إلى دار الجزاء:
أنتَ للمالِ إذا أمسكتَهُ ** وإذا أنفقتَهُ فالمالُ لكْ
عباد الله: إن الصدقة بالمال طاعة عظيمة، وقُربة جليلة؛ لما فيها من براهين الإيمان والسخاء، والانتصار على الهوى، وتحصيل الأجور، ودفع المكاره، وبها تُقضى الحاجات، وتُهَوَّن البليات، ويُعان على طاعة الرحمن؛ ولذلك جاء الحث عليها في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ دعوة إليها، وبيانًا لفضلها وثمراتها العاجلة والآجلة.
فإنكم-معشر المسلمين-عندما تقرؤون في القرآن والسنة تجدون نصوصًا كثيرة تتحدث عن الصدقات، فهل يليق بنا إذا مررنا بتلك النصوص ألا تهزّنا إلى الكرم في ميادين الخير، وألا تحثّنا على المسابقة إلى ذلك البر ولو بالقليل، فرُبَّ قليل سبق في الأجر الكثير، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ، فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ"(رواه أحمد).
فانظروا –رحمكم الله-في حال عباد الله الأخيار عندما كانت تمر بهم نصوص الوحي كيف كانوا يمتثلونها، ويبادرون إلى العمل بها؛ فعن أَنَسَ -رضي الله عنه- قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92]، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا، يَا رَسُولَ اللهِ، حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ"فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ(متفق عليه).
وعن يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ عن أبي الْخَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ - أَوْ قَالَ: يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ - قَالَ يَزِيدُ: "وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا"(رواه أحمد).
فيامن تريد الثواب الوفير، والأجر الكبير، والتجارة الرابحة، والأرصدة الصالحة؛ تصدق، إن الله يجزي المتصدقين.
ويا من يطلب دوام ظلال البركة على مالك، والسلامة من شدة المكاره في نفسك وأهلك وعيالك؛ اسق حديقة أعمالك بماء الصدقات، واجعل نصيبًا من حلالك مصروفًا في البر والخيرات.
ويامن أسرف على نفسه بركوب السيئات، وعظم تقصيره في عمل الحسنات، اتقِ غضب ربك في إنفاقك له فيما يحب؛ فعسى أن تغفر لك الخطيئات، وتقبل بصدق على الطاعات.
وأنت يامن تبغي الوقاية من النار يوم المعاد، اتقها واستتر منها بصدقاتك بين العباد، فنعمت الصدقة درعًا تحمي من عذاب الحياة الأخرى، وتدفع عن صاحبها مصائب الدنيا.
أيها الإخوة الفضلاء: قد يصيب بعضَنا شيء من البخل والإمساك، وتمنعنا من التصدق تأويلات، ونخشى من الحاجة في قادم الأيام، وهذا كله تثبيط للنفس عن الخير، ونفسٌ هذه حالها تحتاج إلى أن تسمع عن أحوال قدوات صالحة؛ لكي تنفث فيها روح النشاط إلى مد يد العطاء، وتتحرر من هذه القيود التي حبستها عن السخاء.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ"(رواه مسلم)، وقد ذُبحت يومًا في بيت رسول الله شاةٌ فتصدقوا بها، فسألهم عما بقي منها، فأخبروه أنه لم يبق إلا كتفها، فقال لهم: "بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا"(رواه أحمد). يعني: بقي لنا عند الله كلها حين تصدقنا به، وأما كتفها فسيذهب بأكلنا له.
قال الله: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النحل:96].
وعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟"، قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: "أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا"(رواه أبو داود).
واقرأوا في أخبار المتصدقين في الماضي والحاضر تجدوا عجبًا في عظم الكرم والجود.
عباد الله: إذا أردتم أن تتصدقوا فتصدقوا من المال الحلال، وأخلصوا لله في صدقاتكم في كل حال، ولا تجعلوها ابتغاء وجوه العباد، بل ابتغاء وجه رب العباد، وأنفقوا من أحسن كسبكم وأطيبه؛ لأنه هو الذي ينتظركم عند الله يوم لقائه، فماذا تحبون أن يكون لكم هناك؟ قال الله: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)[البقرة:267].
ولا تمنوا بالعطاء، ولا تؤذوا بأقوالكم أو أفعالكم مَن تعطون من الفقراء، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:262].
واعلموا -معشر المسلمين- أن أحسن الصدقات: ما كانت في خفاء؛ فبالإسرار تخلص النية لرب العالمين، ويحفظ ماء وجه المسكين، ففي الصحيحين في السبعة الأصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ".
والتمسوا بصدقاتكم القريب والجار، والأحوج والأتقى؛ فإنهم بصدقاتكم أولى، ومتى أردنا الاستمرار في هذه الطاعة، وكمال الأجر على هذه القربة؛ فلا نستكثر ما أعطينا، ولا نستعظم ما قدمنا، وحين نعطي المحتاج فأجملُ العطاءِ ما كان بوجه بشوش، وجانب متواضع، ونفس طيبة؛ فإن القليل بذلك كثير، والكثير مع عدمه قليل، ومراعاة مشاعر المحتاجين للصدقات، من أحسن القربات.
والموفق حقًا من عمل لنفسه -وهو مازال على هذه الحياة- صدقةً جارية يستمر نفعها أزمنة مديدة؛ بنى مسجداً، أو دار تعليم نافع، أو بيتًا لفقير، أو أوقف مزرعة على فقير أو مصالح جامع، أو حفر بئراً، أو طبع كتبًا نافعة، أو وزع مصاحف على من يقرأ فيها، فهذا من العمل الصالح الذي لا ينقطع أجره ما استمر النفع به.
وعلى المرأة ألا تحرم نفسها من فعل الصدقات؛ فهي تحتاج إلى ثمراتها في الدنيا والآخرة كما يحتاج الرجل؛ لأنها مكلفة مثله؛ فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للنساء في خطبة عيد: "تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ"، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ"، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ"(متفق عليه).
وليطمئن كل متصدق على ماله؛ فليس بالصدقة نقص، وليس فيها خسارة تدعو إلى البخل؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ:39].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"(رواه مسلم).
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجود والسخاء، وأن يتقبل منا ما قدمنا من عطاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: إن الصدقة في رمضان شأنها عظيم، وأجرها جزيل، وأثرها حسن جليل؛ فهي للمتصدِق ثواب وإصلاح نفس، وللمتصدَّق عليه فرح وتفريج كرب، فبها تيسير الصيام، والإعانة على القيام، فكم من فقير تزداد عليه المشقات في رمضان، فيجد في الصدقة عليه ما يخفِّف مشقاته، ويعينه على عبادته، فيحمد الله على نعمة الإسلام التي وجد في ظلها سخاء الأغنياء، ورحمتهم بالفقراء.
ولهذا كان جود نبينا عليه الصلاة والسلام في رمضان يتضاعف أكثر من غيره؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"(متفق عليه).
فما أعظم هذا الوصف بالجود من وصف! فحال رسولنا الجواد كما قيل:
تَعوَّدَ بَسْطَ الكفِّ حَتَّى لوَ اَنَّهُ *** أَرادَ انقبَاضًا لم تُطِعهُ أنَاملُهْ
هُو البَحرُ من أَيِّ النَّواحِي أتيتَهُ *** فَلُجّتُهُ المعروفُ وَالجودُ سَاحلُهْ
فحين تحس -أيها المسلم- ألم الجوع في رمضان عدة أيام فتذكّر آلام الجائعين طَوال العام، وحين تقرأ القرآن ستمر بك آيات كثيرة ترغِّب في الإنفاق والعطاء فاعمل بها متصدقًا على المساكين والفقراء، وأبشر بحسن الجزاء؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:29-30].
أيها المؤمنون: إن للصدقة في الإسلام أبوابًا أخرى غير باب المال؛ فالإصلاح بين الناس صدقة، وإعانة الخلق في حاجاتهم صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، والمشي إلى الصلاة صدقة، والنصيحة الصادقة صدقة، وذكر الله صدقة، وإقراض المستقرضين في الخير صدقة، وإنظار المدين المعسر صدقة، والعفو عنه صدقة، وإماطة الأذى، والشفاعة الحسنة من ذي الجاه، والعفو في الحدود والجراحات عمن يستأهل العفو؛ كل ذلك صدقة، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة:280].
وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"(متفق عليه).
وفي رواية: "فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى"(رواه مسلم).
فتصدقوا -رحمكم الله- صدقة خالصة تنالوا أجرا، وتصلحوا نفسا، وابذلوا منها لمحاويج المسلمين تُسعدوا بها قلوبا، وتفرجوا كروبا، وتخفِّفوا بها ثقل عناء، وتمسحوا بها دمعة شقاء، وأبشروا فما قدمتموه فهو لكم يوم القيامة؛ فإن أعَطيتم أُعطيتم، وإن زدتم زيد لكم، وإن اخترتم الطَّيب الكريم، لقيكم على أحسن ما يكون من الكرم والطِّيب.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإنفاق في مرضاته.
وصلوا على خير البشر...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم