فضل الحوقلة ودلالتها

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ فضل الحوقلة بقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) 2/ ثوابها 3/ محتواها 4/ معناها 5/ تأثيرها

اقتباس

رحلة الإنسان على هذه الأرض عناء وكبَد، أعداء يتربصون، وحساد يشمتون، وجبابرة يقهرون، ونفس خوؤنة، وشيطان يعد ويمنِّي، ويصد ويغري، وشهوات تخطف، وشبهات تعصف، وآمال تشوق النفس، وطموحات تتطلب الجهد، والإنسان كبد كلِ هذا، ومرمى كلِ سهام البلايا، ومن رحمة الله تعالى به أنه لم يتركه بلا هداية؛ بل هداه إلى سبل الحصانة، وأرشده إلى طرق الإعانة، وبين له نهج الكفاية، على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام؛ فما من سبيل يحقق به المطلوب إلاَّ دل عليه ..

 

 

 

 

عباد الله: رحلة الإنسان على هذه الأرض عناء وكبَد، أعداء يتربصون، وحساد يشمتون، وجبابرة يقهرون، ونفس خوؤنة، وشيطان يعد ويمنِّي، ويصد ويغري، وشهوات تخطف، وشبهات تعصف، وآمال تشوق النفس، وطموحات تتطلب الجهد، والإنسان كبد كلِ هذا، ومرمى كلِ سهام البلايا، ومن رحمة الله تعالى به أنه لم يتركه بلا هداية؛ بل هداه إلى سبل الحصانة، وأرشده إلى طرق الإعانة، وبين له نهج الكفاية، على ألسنة رسله -عليهم الصلاة والسلام-، فما من سبيل يحقق به المطلوب إلاَّ دل عليه، ولا من طريق يحتمي به العبد إلاَّ وأرشد إليه، فاللهم لك الحمد.

عباد الله: ألا إنَّ أعظم تلك السبل وأشرفها، وأجل تلك الطرق وأعلاها، ذكرُه تعالى، ومن خيرها وأبركها كلمة "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله "، تلك الكلمة العظيمة، والحقيقة الناطقة، والعقيدة الثابتة، جاءت الأحاديث النبوية بتفضيلها، ونطقت ببركتها، وعظيم ثوابها، فهي عظيمة الثواب، نفيسة الأجر، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلاَ أَدُلُّكَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ؟! قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ"، فثوابها مدخر في الجنة نفيس كما أنَّ الكنز أنفس الأموال، فهي من أنفس أعمالكم، وأنفس ثوابكم، فليكن لكم في الجنة منها كنوز.

وهي كلمة الوقاية والكفاية والهداية من الله تعالى للعبد، فحين يخرج من بيته فيذكرها لا يصل إليه الشيطان ويتنحى عنه هناك بعيداً، فلا يقول سوءاً، ولا يقعد -بإذن الله- عن خير، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضِيَ اللهُ عَنْه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ". فالزمها في كل مخرجك من بيتك.

وهي من أعظم ما ذكر وأجله وأوسعه، فعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلاَمًا أَقُولُهُ. وفي رواية ابن أبي أوفى: يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلّم القرآن فعلِّمني شيئاً يجزيني. قَالَ: " قُلْ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"، قَالَ هَؤُلاَءِ لِرَبِّي. فَمَا لِي؟ قَالَ: " قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي" زاد ابن أبي أوفى "وعافني" فأخذها الأعرابي وقبض كفيه. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد ملأَ يديه بالخير". عشر كلمات قد امتلأت بها كف الأعرابي خيراً! ما أعظم ذكر الله تعالى! وهي كلمة ملازمة لذكر الله تعالى بالتوحيد والتسبيح والتحميد، حري بذاكرها أن تستجاب دعوته، ويغفر له ذنبه.

وهي من الباقيات الصالحات، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله "، رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرُه . وهي غراس الجنة كما روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم.

وهي باب من أبواب الجنة، فإن كان الصيام له باب، والجهاد له باب، وسائر الطاعات لها باب، فإن "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" باب من تلك الأبواب، روى أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم عن قيس بن سعد بن عبادة أنَّ أباه دفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمه قال: فمرَّ بي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد صلّيت فضربني برجله وقال: "ألا أدلُّك على باب من أبواب الجنة؟" قلت: بلى، قال: "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله".

ومما جاء في فضلها عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: مَنْ قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ رَفَعَ اللهُ عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الضَّرَّاءِ، أَدْنَاهُ الْفَقْرُ . هذه جملة من فضائلها، وقبس من ثوابها، كاف في لزومها، شاف في الترغيب إليها.

عباد الله: إنَّ هذه الفضائل الجزيلة، والمثوبة الجليلة، لهذه الكلمة العظيمة، هي لأنها تحمل التوحيد كله بكل أنواعه، في طياتها ربوبية الله تعالى وملكه و أسمائه الله تعالى وصفاته وألوهيته تعالى، وتضم حقيقة العبد وجلالة الرب في كلماتها، فيها الدعاء، فيها الإيمان بالقضاء والقدر، فيها حقائق دينية عظيمة، ولا سبيل إلى معرفة دقيق دلالاتها إلا ببيان معناها، فإنَّ معناها أنه لا حول -أي حيلة أو تحول أو قدرة- للعبد إلاَّ بالله تعالى، ولا قوة له في شيء إلاَّ بالله تعالى .

نعم: فلاَ حَوْلَ لعبد عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللهِ وإعانته، وَلاَ قُوَّةَ لعبد عَلَى طَاعَةِ اللهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ وتوفيقه.
ولا حول لعبد عن خلق ذميم، ووصف قبيح، ومسلك مشين، إلاَّ بحول الله وقوته.
ولا قوة لعبد على حركة خير، ولا إرادة بر، ولا قيام بمعروف، إلاَّ بحول الله وقوته.
ولن يبلغ عبد مطلبه إلاَّ بحول الله وقوته، وكما قال علي: إنا لا نملك مع الله شيئاً، ولا نملك من دونه، ولا نملك إلاَّ ما ملَّكَنا مما هو أملك به منا. تلك حقيقة هذه الكلمة وتفسيرها عند علي -رضي الله عنه- وهي كذلك .

ففي هذه الكلمة إعلانٌ بالحقيقة الملازمة لكل مخلوق، وهي الافتقار التام إلى الله تعالى، والاعتراف بالعدم الكامل، عدم القوة، وعدم العلم، وعدم الفهم، وعدم كل شيء لولا الله تعالى؛ إنه الانسلاخ من رؤية الذات لشهود تمام الملك والحمد لله تعالى.

إنها كلمة إسلامٍ واستسلامٍ لله تعالى، كلمة تفويض وتبرّؤٍ من الحَول والقوَّة إلاَّ بالله، كلمة توكل خالص، إعلانٌ أنَّ العبدَ لا يملك من أمرِه شيئاً، وليس له حيلةٌ في دفعِ شرٍّ، ولا قوّةَ في جلبِ خيرٍ إلاَّ بإرادة الله، وقد جاء في الحديث: "إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، قال الله: أسلم عبدي واستسلم"، رواه الحاكم بإسناد قال الحافظ ابن حجر: "قوي". إنها كلمة تُبَاعِدُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَبَيْنَ العُجْبِ وَالكِبْرِ .

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

وحين ينسى الإنسان الفقير المُعْدِم حقيقة هذه الكلمة وتغيب عن نفسه الحوقلة تنتفش نفسه لخير حصله، وغنى سيق إليه، أو ذريةٍ وهب إياها، أو عقارات أعطيها، أو مناصب بلغها، فلا يرى في كل ذلك إلاَّ ذاته، وينسى ربه، ويغيب عن منته عليه، فيفاخر الخلق بالقول والفعل، ويقول: أنا أكثر مالاً وأعز نفَراً! ويتعاظم جحوده ويشتد طغيانه، فحينئذ يتقارب منه الهلاك، وحقت عليه من ربه كلمة السخط والعذاب، كما حاقت بالأول حين أعطي جنتين بأنهارها العذاب، وثمارها الرطاب، وخيرها المدرار فقال لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وأخذ في المفاخرة والاستكبار يترقى درجاً في سلم الكبرياء الزائف، ويهبط قاعاً فقاع في وحل الغرور والجحود، فدخل جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ، وقال كلمته الماحقة المشؤومة: مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا! وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً!.

لقد كفر برجوعه عن الله تعالى وكونه إلى جنته، وفوق ذلك لا زال كبرياؤه يتعاظم، وسفاهته تتفاقم، فيظن أنَّ له عند الله تعالى منقلباً حسناً، وهو على هذا الكفر وهذا الحجود! إنه لم يكن يعيش حقيقة هذه الكلمة الإيمانية "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، ولا يعرف قاموسُ كلماته كلمة التوحيد والافتقار، وهو كذلك لا يعرفها الإنسان إذا تضخمت رؤيته لنفسه، ونسي ربه، وكانت خاتمة كبريائه الزائف، وعاقبة انتفاشه المغرور أن أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا! وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا.

إنها نهاية أليمة قاسية، إنها نهاية كل تفاخر دون الله تعالى، إنها عاقبة كل نعمة أعجب بها العبد فنسي ربه ورأى نفسه، عاقبة كل عبد نسي هذه الكلمة الحقة "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، وغاب عنها قولاً وحالاً.

إنَّ الإنسان حين ينعطف إلى الوراء زمناً بعيداً ليرى أين كان، ومن أي شيءٍ كان، وإلى أي شيء يكون، فيرى أنه كان عدماً، لم يكن شيئاً مذكوراً، تراباً تائهاً في ذرات الرمال، غائباً في متاهات الزمان، ثم تحين ساعة تكوينه وإنشائه فيجيء من ماء مهين بعد أن خُلِق من طين! ويترقى في الخلق ولا زال في الغياب حتى يأتي ميعاد بزوغه فيخرج إلى الحياة بسمعٍ ولمَّا يكن له سمع، وببصرٍ ولمَّا يكن له بصر، وبفؤادٍ ولمَّا يكن له فؤاد، ويصبح رجلاً، يخاصم، ويملك، ويجادل! عجباً والله!.

إنَّ الإنسان حين يلتفت إلى هذا الوراء يعرف حقاً أنه لا شيء لولا ربه تعالى، وتستقر في نفسه حقيقة هذه الكلمة "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، ويستقيم سلوكه، وتصحح تصوراته، كما قال صـاحب هذا الرجل: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا) [الكهف:37-39].

وعلى هذا السبيل كان سلف هذه الأمة يقيمون هذه الوصية في أنفسهم، فهذا عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَثْلُمُ حَائِطَهُ أَيَّامَ الرُّطَبِ، فَيُدْخِلُ مَنْ شَاءَ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَهُ يُرَدِّدُ: مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ حَتَّى يَخْرُجَ. وكان مَالِكٌ يقول: يَنْبَغِي لِكُلٍّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا.

فحري بنا أنْ نقولها حين الطاعة فنعلن أن لاَ حَوْلَ بِنَا عَلَى العَمَلِ بِالطَّاعَةِ إِلاَّ بِاللهِ، ونقولها في ترك المعصية فنعلن أن َلاَ قُوَّةَ لَنَا عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ إِلاَّ بِاللهِ، ونقولها حين نحب أن ننال شيئاً فنعلن أن لا قوة لنا إلاَّ بالله ولا حول لنا إليه إلاَّ بالله، ونقولها حين نود أن نمتنع مما نكره فنعلن أن لا حول لنا في رده إلاَّ بالله، ولا قوة لنا في دفعه إلاَّ بالله. فوالله! لاَ تَأْخُذُ مَا تُحِبُّ إِلاَّ بِاللهِ، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِمَّا تَكْرَهُ إِلاَّ بِعَوْنِ اللهِ؛ بل أنه -وربِّي!- لاَ يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ مِلْكٍ وَلانِعْمَةٍ إِلاَّ بِاللهِ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ، فعضُّو عليها النواجذ وعلموا أهليكم إياها، يُعْصَمُوا ويفلحوا.

 

 

 

 

المرفقات

الحوقلة ودلالتها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات