اقتباس
وقد حث -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- على العمرة، وبيّن ما فيها من الفضل؛ ففي العمرة كفارة للذنوب، ومحو للآثام، وهي تنفي الفقر، وتبارك في المال، إن كانت خالصة لوجهه الكريم، يرجو بها العبد الأجر والثواب من الله العلي الحكيم؛ ففي الموطأ والصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عباد الله، إن الله -تعالى- شرع لعباده عبادات، وأناطها بالقدرة والإمكان، إما بالبدن أو المال؛ فاتقوا الله ما استطعتم.
لكن، لرحمة الله -تعالى- بعباده ولطفه بهم، عوضهم عند عدم المقدرة عبادات أخرى تكون مماثلة لها في الأجر والثواب، ومن ذلك أن الله -تعالى- أمر بالحج وأوجبه على من استطاع إليه سبيلا، فقال: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:97]، وشرع الاعتمار لمن لا يتمكن من الحج وكان قادرا على العمرة، ففي الصحيح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة من الأنصار يقال لها أُمُّ سِنَانٍ: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟"، قَالَتْ: نَاضِحَانِ كَانَا لأبِي فُلانٍ زَوْجِهَا حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكَانَ الآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلامُنَا، قَالَ: "فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً"، أَوْ: "حَجَّةً مَعِي".
فهذه المرأة لم تتمكن من الحج مع زوجها؛ لانعدام الراحلة فوجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- للعمرة في رمضان، حيث تعدل حجة في الأجر والثواب.
وقد حث -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- على العمرة، وبيّن ما فيها من الفضل؛ ففي العمرة كفارة للذنوب، ومحو للآثام، وهي تنفي الفقر، وتبارك في المال، إن كانت خالصة لوجهه الكريم، يرجو بها العبد الأجر والثواب من الله العلي الحكيم؛ ففي الموطأ والصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وروى أهل السنة وأحمد في السنة عن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإن متابعة بينهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث"، أي: خبث الحديد.
فحري بك يا من نويت محو ذنوبك، وكان لديك سعة في مالك، أن تعتمر إن لم تكن ممن لم يتيسر لك الحج؛ ففي ذلك الأجر الكبير، والنفع العظيم في دينك ودنياك.
ففي الأحاديث المتقدمة يتضح فضل العمرة وأثرها العظيم في تكفير السيئات ومحو الذنوب، وفيها استحباب مواصلة الاعتمار مرة بعد أخرى؛ لما في قوله: "كفارة لما بينهما" من الترغيب في الإكثار منها؛ ليتكرر الغفران بتكرارها.
والمعتمر -عباد الله- في إعماره يكون طائعا لله، ما يخطو خطوة إلا كانت في مرضاة الله ومحابه، فهو إما أن يكون ملبيا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا" رواه الإمام الترمذي.
أو يكون طائفا بالبيت، فيبشر بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من طاف بالبيت أسبوعا -أي: سبعة أشواط- لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة".
أو يكون مصليا في البيت الحرام، فيدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه".
فكل حركاته في ذاك المكان الطاهر عبادة لله الواحد القاهر، فاحرصوا -عباد الله- على العمرة، فهي من الأعمال الجليلة، والعبادات العظيمة، التي تتعلق بتقديس أعظم وأول بيت وضع للناس، وقد شبهها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحج -الذي هو أحد أركان الإسلام- في بعض الأعمال كالإحرام وغيره.
ففي الصحيحين، عن يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة وعليه جُـبّة، وعليه أثر خَلُوق - أو قال: أثر صُفرة- فقال: يا رسول الله، كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: "اخلع عنك هذه الْجُـبّة، واغسل عنك أثر هذا الخلوق -أو قال: أثر الصفرة- واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" متفق عليه.
ثم اعلم -عبد الله- أن أحسن الاعتمار ما كان في رمضان، إذ هو شهر القربات والعبادات؛ لاجتماع شرف الزمان والمكان، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، وفي رواية: "حجة معي".
وفي صحيح ابن خزيمة قال: أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحج، فقالت امرأة لزوجها: حجني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: ما عندي ما أحجك عليه. قالت: فحجني على ناضحك. قال: ذاك يعتقبه أنا وولدك. قالت: حجني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس سبيل الله. قالت: فبع تمرتك. قال: ذاك قوتي وقوتك.
فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، أرسلت إليه زوجها، فقالت: أقرئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام ورحمة الله، وسله: ما تعدل حجة معك؟ فأتى زوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن امرأتي تقرئك السلام ورحمة الله، وإنها كانت سألتني أن أحج بها معك، فقلت لها: ليس عندي ما أحجك عليه، فقالت: حجني على جملك فلان فقلت لها: ذلك حبيس في سبيل الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنك لو كنت حججتها فكان في سبيل الله". فقالت: حجني على ناضحك فقلت ذاك يعتقبه أنا وولدك، قالت: فبع تمرتك فقلت ذاك قوتي وقوتك، قال: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجبا من حرصها على الحج، وأنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقرئها مني السلام ورحمة الله، وأخبرها أنها تعدل حجة معي عمرة في رمضان".
وأما ما يعتقده كثير من الناس أن السنة الاعتمار في شهر رجب فهذا لم يرد عليه دليل من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ بل تخصيصه بذلك من البدع، كما ذكر كثيرٌ من أهل العلم. وقد جاء في الصحيحين أن عائشة -رضي الله عنها- أنكرت أن يكون -عليه الصلاة والسلام- اعتمر في رجب، فقالت: "ما اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رجب".
أما إذا اعتمر المسلم في هذا الشهر، أي شهر رجب، اتفاقا، من غير قصد لذلك، أو أنه لم يتيسر له الأمر إلا فيه، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في تخصيصه بالعمرة دون سائر الشهور.
أسأل الله أن يرينا الحق حقا فنتبعه، ويرينا الباطل باطلا فنجتنبه. والحمد لله رب العالمين...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: اعلم -عبد الله- أن من الأحكام التي تختلف فيها العمرة عن الحج أنها تصح في جميع أوقات العام، وفي كل آناء الليل والنهار، وتختلف عن الحج، فأعمالها قليلة، منحصرة في: الإحرام، والتلبية، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ثم الحلق أو التقصير، وهو آخر أعمالها، يتحلل المعتمر منها.
فأما الإحرام فهو نية الدخول في النسك، لا مجرد لبس لباس الإحرام، فعليه: يجوز أن يلبس المعتمر ثوب الإحرام في مكان إقامته، لكنه يحرم وينوي نية وعزما من الميقات الذي يأتي عليه، فيقول: لبيك عمرة، ثم يلبي بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ومن أعمال العمرة -عباد الله- الطواف بالبيت، ويدخل بخشوع وخضوع وتعظيم لله -عز وجل-، وشكرا للمنعم الذي منّ بها عليه، ويسر له دخول بيته، فيستلم الحجر الأسود بيده اليمنى، ويقبله إن تيسر له ذلك، يفعل ذلك تعظيما لله -عز وجل-، واقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك".
فإن لم يتمكن من كثرة الزحام من تقبيله واستلمه بيده فله أن يقبل يده، ففي الصحيحين، من حديث نافع قال: "رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله". فإن لم يتيسر إليه ذلك أشار إليه ولا يؤذي أحدا.
ثم يطوف بالبيت سبعة أطواف، يكبر ويدعو ويذكر الله ويعظمه، والسنة للرجل في هذا الطواف الاضطباع في جميع طوافه، وذلك أن يظهر كتفه الأيمن ولا يغطيه بالرداء، ويرمل في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية، والرمَل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى.
وبعد الطواف يتجه نحو مقام إبراهيم فيقرأ: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، ثم يصلي ركعتين خلفه إن تيسر، وإلا في أي مكان من المسجد، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد، ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسر له.
ثم يصعد إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قال: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:158]، فيرقى على الصفا حيث يرى الكعبة فيستقبلها، ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموضع: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". يكرر ذلك ثلاث مرات، ويدعو بينها.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيا حتى يصل إلى العلم الأخضر، فيسرع بقدر ما يستطيع إن تيسر له ذلك، من غير أذية أحد، حتى يصل إلى العلم الثاني، ثم يمشي على عادته حتى المروة، فيرقى عليه من غير أذية أحد حتى يصل إلى العلم الثاني، ثم يمشي على عادته حتى المروة فيرقى عليها ويفعل ما فعل في الصفا، ثم يرجع إلى الصفا يمشي في موضع مشيه ويسرع في موضع إسراعه، فإذا أتم له سبعة أشواط ينتهي بالمروة، من الصفا إلى المروة شوط ومن المروة إلى الصفا شوط آخر، حلق رأسه أو قصره، والحلق أفضل، ففي الموطأ والصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين".
وبهذه الأعمال -عباد الله- تمت عمرته، وحل منها حلا كاملا تباح له جميع محظورات الإحرام، وبين هذا وذاك سنن ومستحبات ينبغي على المسلم المحافظة عليها، والاقتداء بخير من حج واعتمر، والقائل: "لتأخذوا عني مناسككم".
ولا تنس -عبد الله- إن زرت مدينة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- أن تتأدب بآدابها، وتعرف لها حقها وقدرها، واستغل إقامتك فيها بالصلاة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام.
واحذر من الوقوع في البدع والآثام، وعليك بمتابعة سنة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام.
أسأل الله أن يتقبل من المعتمرين عمرتهم، ويردهم إلى ديارهم فائزين برضوان الله ومرضاته، وجنانه وجناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين. وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم