عناصر الخطبة
1/أهمية ومكانة إطعام الطعام 2/ثمرات إطعام الطعام 3/هدي السلف الصالح في إطعام الطعام 4/أهمية تفقد حاجات المحتاجيناقتباس
من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها أَوْلَتْ معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدَّتْ كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتَّبت عليه الأجور العظام، وسبب ذلك..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها أَوْلَتْ معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدّتْ كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتبت عليه الأجور العظام؛ فالطعام ضرورةٌ لا انفكاك للإنسان عنها، ولا يُصبَر على فقدها، واختلال هذا الجانب يؤدي إلى الاضطراب والفتن وذهاب الأمن، والتاريخ القديم والمعاصر يدلان على ذلك؛ فكثير من الاضطرابات على مر التاريخ نتجت بسبب البطالة، والفقر والجوع.
ومن أجل ذلك كان إطعام الطعام شعيرة من شعائر الإسلام تدلُّ على كريم معدن الإنسان، وتحمي المحرومين وتمنع من المهالك، ونحن -معاشر المسلمين- مدعوون بكتاب ربنا وسنة نبينا إلى أن نكون أولَ من يُعنَى بذلك؛ قال الله -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان:8-9].
ومن تدبر في أوائل الخطاب النبوي المكي في المرحلة السرية -يوم لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا حرٌّ وعبد- وجد الأمر بإطعام الطعام لازمًا؛ فقد سأله عمرو بن عَبَسَة: ما الإسلام؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "طِيبُ الْكَلاَمِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ"(مسند أحمد 19454، وصححه الألباني).
فكان إطعام الطعام حاضرًا في أول خطابات الدعوة المكية، ولما هاجر إلى المدينة كان أول خطاب له -صلى الله عليه وسلم- فيها فيه ذكر الطعام؛ فعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما دخل المدينة يقول: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(سنن ابن ماجه (3251) وصححه الألباني).
عباد الله: إن إطعام الطعام وإشباع الجائع، عبادة قد تكون عادية وسهلة، لكن قدرُها عظيم؛ لأنها جُعلت السمة الخيرية المميزة لهذا الإسلام.
وقد أرشدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى أن إطعام الطعام من خير الأعمال وأحبها إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال خير؟ فقال: "إدخالك السرور على مؤمن؛ أشبعت جوعته، أو كسوت عورته، أو قضيت له حاجته". (رواه الطبراني وحسنه الألباني لغيره).
وعن صهيب الرومي -رضي الله عنه- قال: كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَرَدَّ السَّلَامَ"(مسند أحمد:23971، وصححه الألباني)، فلو كانت هذه الشعيرة والعبادة نُصب أعيننا لما بقي بيننا جائع ولا عارٍ ولا ذو حاجة.
ولإطعام الطعام ثمرات عدة وفوائد كثيرة، منها:
الثمرة الأولى: جلب المودة والمحبة: إن إطعام الطعام ودعوة الناس إليه مما يجعل بينهم محبة لمن أطعمهم، يجعل فيهم محبة لمن أطعمهم، وإهدائهم له إثر عجيب، فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا"(حسنه الألباني).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام, وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"(رواه البخاري)، فإطعام الطعام وبذل السلام على من تعرفه ومن لا تعرفه يُزيل الوحشة ويُبعد المرء عن الخصال المذمومة من الكبر والاحتقار، ونحوهما.
وكذا فإن إطعام الطعام يسل السخيمة، وينفي الضغينة, ويصّير البعيد قريباً، والعدو صديقاً، والبغيض ولياً، والثقيل خفيفاً.
الثمرة الثانية: دفع نوائب الدّهر: والدليل على ذلك أن لمّا رجع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى خديجة أول بعثته خائفًا، وقال: "قد خشيتُ على نفسِي"، فقالت له: "كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف". (رواه البخاري).
وقولها: "وتقري الضيف": معناه إطعام الضيف وسقايته.
الثمرة الثالثة: دخول الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: فَأَنْبِئْنِي بِأَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "أَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَأَفْشِ السَّلَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَصَلِّ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ"(البيهقي في شعب الإيمان (3874) وصححه الألباني).
ولم يجعل الشرع إطعام الطعام سببًا لدخول الجنة فقط بل جعله من موجباتها؛ فعن أبي شريح -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله: أخبرني بشيء يوجب لي الجنة. قال: "طِيبُ الْكَلَامِ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ"(البيهقي في شعب الإيمان (4943) وصححه الألباني)، فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة.
ولم ينتهِ الوفاء والجزاء بدخول الجنة فحسب؛ بل أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من خير غرف الجنة وأعلاها تكون لمن أطعم الطعام؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ"(الحاكم في المستدرك (270) وصححه ووافقه الذهبي والألباني).
الثمرة الرابعة: النجاة من النار، والنجاة من أهوال القيامة تكون به: قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)[البلد:11-16].
وقال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)[الإنسان: 8-11]؛ ففي اليوم العبوس الذي تعبِس فيه الوجوه، يأتي إطعام الطعام سببًا في النجاة من النار؛ فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"(متفق عليه).
عباد الله: ولقد كان للسلف الصالح ذوق رفيع في إطعام إخوانهم المحتاجين، ومما ورد عنهم في ذلك أن الخير يبحث عن بيت يُطعَم فيه الطعام؛ فكان الحسن إذا دخل عليه إخوانه أتاهم بما عنده، وربما قال لبعضهم: "أخرج السلة من تحت السرير" فيخرجها فإذا فيها رطب فيقول: "إنما ادخرته لكم".
قال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون فرحب بنا، وقال: ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم.. ولكن سأطعمكم شيئًا لا أراه في بيوتكم فجاء بشهدة -شيء كالحلوى- وكان يقطع بالسكين ويطعمنا.
قال الأعمش: "كان خيثمة يصنع الخبيص -كالحلوى- والطعام الطيب، فيدعو إبراهيم ويدعونا معه ويقول: كلوا ما أشتهيه، ما أصنعه إلا لكم!".
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها الإخوة: إن إطعام الطعام في نظر العاقل المحتسب ليس عطاء لمن أخذه فحسب؛ وإنما هو شكر لله -سبحانه وتعالى- الذي أغناك وأفقر غيرك، والذي دعاك إلى هذا وهو الذي سيجازيك عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي "(صحيح مسلم 2569).
آه لو أدرك المسلمون حقيقة إسلامهم، ولو التزموا به!! لتحركوا بحثًا عن المحتاجين، ولتفقدوا جيرانهم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"(الطبراني في الكبير (751) وصححه الألباني).
وتأملوا معي -أيها الإخوة- هذا الحديث وهو أوسع في دلالته على المواساة وإطعام الطعام، وبذل الخير للمحتاج؛ فعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان معه فضل ظَهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له"، قال: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"(صحيح مسلم: 1728).
ولو فعلنا ذلك لما شهدت بلاد المسلمين مجاعة ولا فقرًا، لذا فلنحذر من الإنفاق في أمور لا ضرورة لها، ولنتجنب الإنفاق على أشياء حرمها الشرع علينا، وعلينا أن نهتم بفقراء المسلمين؛ بإطعام جائعهم، وتفقد منكوبيهم ومشرديهم؛ فما أجمل الشعور بآلام المحتاجين والمعسرين!.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وحسنوا أخلاقكم مع الخلق ما استطعتم، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، واعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم