عناصر الخطبة
1/ منزلة الصبر ومكانته 2/ من ثمار الصبر 3/ أنواع الصبر 4/ مما يعين المسلم على الصبراقتباس
ومن يتأمل حال المتفوقين الناجحين يرى أنهم وصلوا إلى تحقيق أمنياتهم وأهدافهم بالصبر، والجد والاجتهاد والمصابرة، فإذا كان أرباب الدنيا وعمالها من رؤساء، ومهندسين، وعمال وأطباء ومربين صبروا وتحملوا من أجل تحقيق أهدافهم - فكيف يريد المسلم أن يحقق هدفه من تحقيق العبادة، ودخول الجنان من غير تعب أو صبر، بل بالراحة والكسل والدعة فهذا من المحال، بل ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي امتدح الصابرين، وجعلنا لنعمه من الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين والصالحات، وأن محمداً عبده ورسوله يصلي عليه أهل الأرض والسموات، ورضي الله عن سادات ديننا وكبراء أئمتنا بالحق أبي بكر عمر وعثمان وعلي، وبقية الصحابة والقرابة والتابعين إلى يوم الدين، أوصيكم ونفسي الخاطئة أولا بطاعة الله، وأحثكم على طاعته ولزوم أوامره، وكثرة مخافته، فإن التقوى شعار المؤمنين، ودثار المتقين ووصية الله في وفيكم أجمعين.
وبعد:
أيها المسلمون: أمرنا الله بالصبر، وحثنا على التخلق به، وبين لنا جزائه وفضله، وما للصابرين من الجزاء العظيم والمكانة الرفيعة. قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157]، ويكفي في فضل الصبر أن الله لم يحدد له جزاء محددا بل قال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، وبين أن الصابرين هم المتقون (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]، ومن عظيم فضل الصابرين أن الله معهم يؤيدهم وينصرهم ويحبهم قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
أيها المؤمنون: إن الصبر ضرورة من ضروريات الحياة، فلا بد لكل إنسان في هذه الحياة من صبر لتحصي أسباب المعيشة، وخوض غمارها، وقد خلق الله الإنسان؛ ليكابد الحياة وصعوبتها وآلامها، ومن يتأمل حال المتفوقين الناجحين يرى أنهم وصلوا إلى تحقيق أمنياتهم وأهدافهم بالصبر، والجد والاجتهاد والمصابرة، فإذا كان أرباب الدنيا وعمالها من رؤساء، ومهندسين، وعمال وأطباء ومربين صبروا وتحملوا من أجل تحقيق أهدافهم؛ فكيف يريد المسلم أن يحقق هدفه من تحقيق العبادة، ودخول الجنان من غير تعب أو صبر، بل بالراحة والكسل والدعة فهذا من المحال، بل بعيد المنال.
عباد الله: إن قدوتنا في هذا الخلق الرفيع، وهذا الصرح المنيع هو رسولنا المكرم وأسوتنا ألمعظم فقد تحمل وصبر من أجل هداية الناس إلى الحق، واستعذب المر، واستسهل الصعب، وتحمل أنواعا من البلاء وأصنافا من الضراء، حتى وصفه ربه بأنه ذو خلق عظيم.
جاء في الحديث الصحيح عبدالله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا. قال "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ". قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا".
أيها المسلمون: إن من أعظم الثمار التي يجنيها المسلم من الصبر والتحمل والمصابرة تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، ومحو الخطايا، ودخول الجنان، قال تعالى مبينا حال الصابرين وأعمالهم، ومالهم: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:22-24].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" رواه الترمذي.
أيها المسلمون: إن للصبر أنواعا معينة لا بد على المسلم أن يطبقها، ويعمل بها حتى يكون من الصابرين حقا، ومن جملتهم وفي عدادهم.
وأولى تلك الأنواع: الصبر على الطاعة، والمأمور؛ لأن النفس جبلت على محبة الراحة، والدعة والاستراحة، فلا بد من الصبر على أداء العبادة، فالزكاة عبادة يحتاج المسلم إلى الصبر فيها التغلب على داء الشح والبخل، وأخرجها بطيب نفس، والصلاة عبادة تحتاج إلى الصبر وأدائها في وقتها وفي الجماعة، واستحضار النية والخشوع، وقد أمرنا بذلك فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] وما أعظم فقه سيدنا عمر، وأقوى فراسته حينما قال: "إني لأجهز جيشا وانأ في الصلاة"، فقد جمع بين عبادتين هما: الجهاد وقتال العدو، والخشوع في الصلاة، وهذا من اعظم أنواع الصبر والمصابرة.
ومن الصبر -يا عباد الله- الصبر على المعصية ودواعيها، وأسبابها وفتنتها، وأن يقمع نفسه الأمارة بالسوء، ولأن النفس مجبولة على حب العاجل، ومخالفة العقل، وطاعة الهوى، وخاصة في زماننا الذي أصبح القابض على دينه، المتمسك بهدي الإسلام كالقابض على الجمر؛ لكثرة المشغلات، وقوة المغريات، ووسائل الاتصال الحديث التي يسرت سبل الفاحشة، وسهلت طرق ارتكابها، بل أصبح الوصول اليها أيسر ما يكون، فكل ما حوله يذكره بها، ويدعوه إليها ويزينها في عينه، ويحسنها إلى نفسه وقلبه، فيحتاج المسلم إلى رصيد قوي من الصبر والتقوى، وصحبة الصالحين والأخيار، وتأمل حال سيدنا يوسف فقد توفرت كل دواعي المعصية وأسبابها، من الخلوة وجمال المرأة، ودعوته له اليها، وفي بيتها وملكها، وبعده وغربته عن أهل ودياره، ولكن لعظمة إخلاصه، وتقواه وخشية لم ينجذب إليها، ولم يقع في فريستها ومصيدتها (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:23-24].
فتجملوا -عباد الله- بالصبر وتخلقوا به، وفي الحديث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غضّ بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه" ومن الصبر أيضا: الصبر على الاقدار وما تنزل به، وما تصيب من فقد ولد أو مال أو جاه أو وظيفة، ومن أعظم ما يعين على الصبر هو الإيمان بأن كل شيء مقدر ومكتوب (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11].
أيها المسلمون: البدار البدار إلى العمل الصالح، والعلم النافع، وصحبة الأخيار وتلاوة آيات الذكر مع الأبرار، فقد أقبلت -والله- الفتن تموج كموج البحر، وتلطم أمواجها العاتية كل من لم يتسلح بسلاح الإيمان أو يتحصن بنور الصبر والقرآن، وربما خطفته أو جرفته بعيدا، فكونوا -رحمكم الله- عن الفتن والبلايا من الصابرين الصادقين، ولصحبة الأخيار من السابقين، ولنعمه من الشاكرين، والمرابطة للصلاة في الساجد مع الجماعة من الحاضرين، والحذر الحذر من اتباع خطوات الشيطان، ومشاهدة الأفلام الاباحية من القنوات الفضائية، التي تتسابق إلى عرض ما يغضب الرحمان، ويوجب الخسران.
نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني وإياكم تحت لواء سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: قال -تعالى- في محكم التزيل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول -ما أمره الله-: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسوله.
ثم اعلموا -وفقني الله وإياكم للخير- إن مما يعين المسلم على الصبر، وتحمل البلاء: النظر إلى جزاء الصابرين، وما أعد الله لهم من الكرامة في جنات النعيم، وقد بشر الله الصابرين بثلاث كل واحدة منها خير مما يتحاسد عليه أهل الدنيا، فقال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
وعن صهيب -رضي الله عنه-: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان له خير، وإن أصابه ما يكره فَصَبَر فكان له خير، وليس كل أحد أمره كله له خير إلا المؤمن".
ومما يعين على الصبر أيضا: إن يتأمل حال السابقين الأولين، بل يتأمل حال الأنبياء والمرسلين وكيف أن الله ابتلاهم واختبرهم فكان معولهم الصبر، وسلاحهم اليقين، وزادهم التقوى، فهذا سيدنا أيوب ابتلي بالمرض سنين عديدة، وأزمنة مديدة فكان لسانه بالذكر منشغلا، وقلبه بالشكر قائما، وبدنه بالصبر ثابتا، وفقد أعز ما يملك من ولد ومال وثروة فما زاده إلا يقينا (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44].
وجاء في السيرة عن امرأة من الصحابيات الجليلات، كانت تصرع فطلبت من رسول الله الدعاء فماذا أجابها استمعوا الى الحديث: عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتْ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ" فقال: فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا".
ومما يعين على الصبر: أن يقيس المسلم حاله على غيره من بني جنسه ممن فقد الأهل والأصحاب والزوجة والأحباب في بلاد المسلمين اليوم فيحمد الله أن ما أصابه من ضرر أقل بكثير مما أصاب غيره، وليعلم أن من لم يصبر صبر الكرام، فلا بد من الصبر في كل الأحوال والتخلق به عند فقد الثروة والجاه والأموال، وعليه أن يسال الله العافية في الدنيا والآخرة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا" البخاري.
هذا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ حيث أمركم الله في القرآن بذلك؛ فإن الله قال قولاً كريمًا تعظيمًا لشأن نبينا وتعليمًا لنا وتفهيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
فأيها الراجون شفاعته: أكثروا من الصلاة على نبيكم؛ فإن صلاتكم نور على الصراط حين تمرون عليه، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم