فتوحات الإسلام في رمضان

د عبدالعزيز التويجري

2025-03-14 - 1446/09/14 2025-03-17 - 1446/09/17
التصنيفات: رمضان الجهاد
عناصر الخطبة
1/رمضان شهر الجهاد والمجاهدة 2/غزوات وفتوحات مباركة في شهر رمضان 3/جهاد النفس في الثبات على الطاعات 4/ شروط العزة والنصر والتمكين

اقتباس

الإسلام منيعٌ لا يقبل الذلة والخنوع، والمسلم عزيز بدينه، قويّ بربه، وإلا فإن أتينا بعقائد هشة، وولاءٍ منقوص، وحجاب لنسائنا هشّ رقيق، وأصبحت مصادر التلقي والفتيا من مجهولي العلم والخُلق، وانهزمنا أمام المغريات أرباب الشهوات وممن يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيماً.. فأنَّى لنا..

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون، وضلّ بعدله وحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ كتب العزة والنصر لأوليائه، وَجُعِلَ الصَّغَارُ والذِّلَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْره، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمر ان: 200].

 

رمضانُ شهرُ الجهادٍ والمجاهدة، والصبرِ والمصابرة، والفتوحاتِ والانتصارات.

رمضانُ مولدًا للإِسلامِ ومُبتدَأَ نصرٍ لِلمسلمين، وَمَشرِقَ فتحٍ مِبينٍ، ومفتاحَ مَجدٍ كرِيمٍ.

 

فسل حُنيناً وسل بدراً وسل أُحدًا  ***  وخيبرا يوم هدوا ركن خصمِهِم

 يمرُّ عسكرهم والفتحُ يكنفه   ***  فتحسب الزهر في الأكمام كل كمي

 

في رمضان كانت غزوةُ بدرٍ الكبرى التي فرَّق الله بها بين الحق والباطل؛ وهو أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123].

 

     نحن بنو "بدرٍ" التي أصبحت  *** أمثولة النصر ولا فخرُ

       وكل نصر بعدها لم يكن *** غير جنى وهي له بذرُ

 

في رمضان كان الفتح الأعظم "مكة"، الذي بشَّر الله به محمداً؛ فقال -ممتناً عليه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[الفتح: 1]؛ ففتح الله لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القلوب بنزول القرآن في رمضان (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1]، وفتح له مكة بالتوحيد بالجهاد في رمضان.

 

   بفتحِ مكةَ تم النصرُ والغلبُ *** وسارعت لقبولِ الدعوةِ العربُ

 

في رمضان هُدِمَ هُبَلُ ومعهُ أَكثرُ مِن ثلاثِ مائةٍ وسِتِّينَ صنمًا حولَ الكعبَةِ المشَرَّفَةِ. في رمضان بَعثَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ لِيَهدِمَ العُزَّى فهدَمَهَا، وَفِيهِ بعثَ عَمرَو بنَ العَاصِ لِيَهدِم سُوَاعًا فهدَمَهُ، وَفِيهِ بَعَثَ سَعدَ بنَ زَيدٍ لِيَهدِمَ مَنَافًا فَهَدَمَهُ.

 

- في رمضان عودةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوةِ تبوك، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً.

 

- في رمضان.. فُتحت قلاع المجوس بقيادة الصحابي الجليل المثنى بن حارثة -رضي الله عنه-. قال ابن إسحاق: "وحمل عليهم المسلمون واحتز جرير بن عبد الله رأس قائد الفرس وقطعه، وهربت المجوس، وركب المسلمون أكتافهم، وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه، فقتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وذلت في هذه الموقعة رقاب الفرس، وتَمكَّن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة". قال ابن كثير: "وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام".

 

- في رمضان سيَّر الخليفةُ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حملةً بقيادة عبدالله بن أبي السرح لفتح جنوب إفريقيا، ونشر الإسلام في البلاد النصرانية.

 

- في رمضان أول أسطول بحري يغزو البحر... نَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يوماً في بيتِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا. (متفق عليه).

 

وتحققت هذه البشارة لما ولي عثمان الخلافة حين كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر، فخرج معه جماعة من الصحابة فيهم عبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان، وكان أول أسطول بحري في الإسلام، ففُتِحَت قبرص‏.‏ وعقب الغَزاة سقطت أم حرام الأنصارية‏ من بغلتها فاندقت عنقها فماتت شهيدةً ببشارة النبي لها.

 

- في رمضان انطلق قائد المسلمين طارق بن زياد بجيش لا يتجاوز اثنا عشر ألفًا، فوجد ملك إسبانيا قد جمع له مائة ألف، واتصلت الحرب بينهم فهزم الله المشركين، فقُتل منهم خلق كثير، ونصر الله المسلمين نصراً لا كفاء له.

 

- في طلائع شهر رمضان سنة أربع ومائة للهجرة، زحف عبدالرحمن الغافقي بجيشه وهناك التقى مع جيوش أوروبّا الجرارة، ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ البشرية كلها. وهي موقعة بلاط الشهداء لكثرة مَن استشهد فيها مِن المسلمين، وذلك لما انشغل المسلمون بالغنائم التف عليهم العدو فخر القائد صريعاً وتبعه الشهداء، وتكررت فيه مأساة يوم (أُحُد)؛ سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً. لكن أعقبها الله بمعركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تشافين فقُتل فيها من النصارى ما طبق وجه الأرض دماً، وانتهت بنصر عظيم وسحق للنصرانية في شمال الأندلس.

 

- في رمضان صرخت امرأةُ في الأسر "وامعتصماه"؛ فهب الخليفة المعتصم في صبيحة الجمعة من رمضان وصاح في قصره "النفير النفير"، واستدعى الشهود فأشهدهم أن ثلث ما يملكه صدقة للمسلمين، فسار في جحافل أمثال الجبال يقودها بنفسه.

        أتوك يجرون الحديد كأنما  ***  أتوا بجياد ما لهن قوائم

 

  فحاصر عمورية حتى انهدت حصونها ودخلوا المدينة قهراً، وتفرقت الروم، وأخذ المسلمون أموالاً لا تُحدّ ولا تُوصَف، ولما رأى شاعر الإسلام أبو تمام حصون الروم تتهاوى بأيدي المسلمين صاح بأعلى صوته:

 

   السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ   ***  في حدّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

   خَلِيفَةَ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ  ***  جُرْثُومَةِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ

   أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كاسِمِهمُ  ***  صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ

 

- في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان التقى قائد المسلمين المظفر قطز بجحافل التتار في عين جالوت، ولما رأى قطز عصائب التتار قال لمن معه: "لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم". والتقى الصفان، وتبارز الشجعان، واقتتل الفريقان قتالاً عظيماً، فعقر جواد السلطان قطز، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، فلما ظهرت بوادر النصر استشهد الملك المظفر قطز، وأعز الله المسلمين، وأخزى التتر الملحدين، وكسر شوكتهم، ولم تقم لهم بعدها قائمة.

 

ملَكنا فعَدلْنَا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين.

 

 - في هذا الشهر المبارك سحق قائد المسلمين صلاح الدين النصارى في معركة حطين المدوية، واسترد بعدها بيت المقدس وضرب الجزية عليهم.

ميراثُنا في فتى حِطّينَ أين مضى *** وهل نهايتُنا يُتْمٌ وحِرمان

 

- أما رمضان سنة سبعمائة واثنين من الهجرة؛ فقد كان له نبأ في قطع جماجم التتار الملاحدة في موقعة شقحب، التي شارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت الغلبة فيها للمسلمين.. قال ابن كثير -رحمه الله-: "وحرّض ابن تيمية السلطان على القتال وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الجنود والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، يتأول فيه حديث أبي سعيد "إنكم ملاقو عدوكم والفطر أقوى لكم".

 

ورفرفت راية الإسلام عالية *** تطوف من حولها أطياف ماضينا

نصارع الكفر أيا كان مبعثه *** ولا نقلد مشبوها ولينينا

 نرى الحياة حياة في عقيدتنا *** وما سواها فزقوما وغسلينا

 

لنا نحن المسلمين كل أرض يُتلَى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان. لنا المستقبل.. والمستقبل لنا. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7]، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51].

 

الإسلام منيعٌ لا يقبل الذلة والخنوع، والمسلم عزيز بدينه، قويّ بربه، وإلا فإن أتينا بعقائد هشة، وولاءٍ منقوص، وحجاب لنسائنا هشّ رقيق، وأصبحت مصادر التلقي والفتيا من مجهولي العلم والخُلق، وانهزمنا أمام المغريات أرباب الشهوات وممن يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيماً.. فأنَّى لنا (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)[آل عمران: 165].

 

 نستغفر ربنا ونتوب إليه؛ إن ربنا رحيمُ ودود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليمًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: إذا كان الأوائل في رمضان فتحوا القلوب بالقرآن، والبلدان بنشر الإسلام؛ فماذا عن مَن لا يقوى أن يوقظ نفسه لفريضة الصلاة، أو يختم القرآن كل ثلاث، أو يكفّ نفسه عن الحرام، أو يخرس لسانه عن دعوة ونصيحة للمسلمين. هذه شروط العزة والنصر والتمكين، قال جرير بن عبدالله: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم"(متفق عليه).

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، فمن اتقى ربه فاز وسعد، ونال يوم الجزاء جميل ما وُعد، فأخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة، وبادروا بالأعمار صالح الأعمال، واغتنموا ما بقي من الأيام، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فأجلّوا ربكم، فإن ربكم رحيم ودود، لطيف مجيد.

 

وأكثروا من الدعاء لأنفسكم وأهليكم وأُمتكم بالصلاح والحفظ والنصر والتمكين، وعلى عدوكم وعدوّ المسلمين بالخزي والمحق والخسران المبين.

 

ثم صلوا وسلموا على عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

فتوحات الإسلام في رمضان.doc

فتوحات الإسلام في رمضان.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات