فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (2) مدافعة الفتنة، وحسن الاختيار

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ما يمكن أن يستفاد من الفتن والمحن 2/ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببلية عثمان رضي الله عنه 3/ بداية هذه البلوى العظيمة 4/ تطاول الخوارج على عثمان وهو يخطب 5/ حصارهم لبيت الخليفة عثمان 6/ وعظ عثمان رضي الله عنه للخوارج وهو محاصر 7/ وصف حال عثمان قبل وحين مقتله 8/ قتلة عثمان ومآلهم 9/ فوائد من موقف عثمان من الفتنة

اقتباس

كانت بداية هذه البلوى العظيمة لهذا الخليفة الراشد بفتنة منكرة، أطلت برأسها في آخر خلافته، أشعل نارها المنافقون، وجعلوا حطبها الجهلة والرعاع من نزاع القبائل، وسفلة الأطراف والأراذل، قد امتلأت بالفتنة قلوبهم، وتواصوا بالشر فيما بينهم، فتراسلوا وتكاتبوا يسبون أمير المؤمنين، ويملئون صدور العامة عليه وعلى ولاته؛ جرّاء ..

 

 

 

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ? وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: في المحن والبلايا، والفتن والرزايا؛ معرفة عزّ الربوبية وقهرها، وذلة العبودية وكسرها (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156]،اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره، وقضائه وتقديره، لا مفر لهم منه، ولا محيد لهم عنه.

والمؤمن يبتلى بالشر كما يبتلى بالخير، وتصيبه الضراء كما تصيبه السراء؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا انقشعت سحابة المحن، وسكنت عاصفة الفتن كان في الناس مأجور وموزور، وسالم وموتور، وأعظم الوَتْر الوتر في الدين، ثم الوتر في النفس، ثم في الأهل والمال.

وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وُتِرَ في نفسه، وَوُتِرَ به أهله بعد شدة شديدة، ومحنة عظيمة، وبلوى كبيرة؛ أخبره عنها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفارق أصحابه رضي الله عنهم، فوقع الأمر كما أخبر بعد أكثر من ربع قرن من إخباره عليه الصلاة والسلام.

روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : أن عثمان رضي الله عنه أستأذن بالدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي موسى: " ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه "، قال أبو موسى: فجئته فقلت له: أدخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجنة على بلوى تصيبك رواه الشيخان، وفي رواية: قال أبو موسى: فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان، قال: ففتحت وبشرته بالجنة، قال: وقلت الذي قال، فقال: اللهم صبراً أو الله المستعنان، وفي رواية أخرى: أن عثمان رضي الله عنه حمد الله تعالى ثم قال الله المستعان.

وهذه البلوى التي أخبره بها النبي صلى الله عليه وسلم أصابته في آخر حياته رضي الله عنه، وهو شيخ قد بلغ من الكبر عتيا، وتحمل من أمور الأمة ما تحمل؛ فقابل بلواه بثبات عجيب، وصبر جميل، فلم يتزحزح عن إيمانه، ولا جزع من مصابه، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل دار الخلد مأواه.

كانت بداية هذه البلوى العظيمة لهذا الخليفة الراشد بفتنة منكرة، أطلت برأسها في آخر خلافته، أشعل نارها المنافقون، وجعلوا حطبها الجهلة والرعاع من نزاع القبائل، وسفلة الأطراف والأراذل، قد امتلأت بالفتنة قلوبهم، وتواصوا بالشر فيما بينهم، فتراسلوا وتكاتبوا يسبون أمير المؤمنين، ويملؤون صدور العامة عليه وعلى ولاته؛ جرّاء سياسات انتقدوها، وأفعال نقموها؛ كان الحق فيها مع عثمان رضي الله عنه، ولكنهم قوم يستعجلون، وأوباش إلى الفتنة يسارعون.

فاستفحل أمرهم، واستطار شرهم، فما عادت تكفيهم المراسلات والمكاتبات، ولا أشبعت قلوبهم المفتونة الأقوال والمشاتمات، فانتقلوا إلى التجمعات والخروج المسلح؛ فسار المفتونون، يقودهم المنافقون، ساروا من مصر إلى المدينة النبوية، عاصمة الخلافة، وموطن الخليفة.

فوصلوها وقد أضمر رؤوسهم الشر، وتشرب أتباعهم الفتنة، فوقعت أمور عظائم، وكثرت الأقاويل والشتائم التي أوذي فيها عثمان رضي الله عنه إيذاءً شديداً، حتى وقفوا عليه يوم الجمعة وهو يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقاطعوه في خطبته بالسب والشتيمة، ثم حصبوه بالحصى فشجوه وأدموه، وخر مغشياً عليه رضي الله عنه، وحمل إلى بيته، وهو إمام المسلمين في وقته, فطمع فيه الخوارج أكثر من ذي قبل، ولا سيما أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم كانوا في الحج وفي الثغور، والبقية الباقية منهم في المدينة لا تكفي لرد عدوان الخوارج.

فحاصروا عثمان رضي الله عنه في بيته، ومنعوا عنه الماء الحلو، فشرب الماء المالح في حصاره، وحالوا بينه وبين الصلاة في المسجد، وهو إمام المسلمين!! أيفعل ذلك بعثمان رضي الله عنه وهو المبشر بالجنة، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، وجهز جيش العسرة من خالص ماله حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم".

لقد منعوه الماء والصلاة في المسجد وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين، وهو إمامهم وولي أمرهم، وله عليهم السمع والطاعة، ولكنهم قوم مفتونون، قد أعمت الفتنة أبصارهم، ورانت على قلوبهم، فلم يميزوا بين رعاع وإمام، ولا عرفوا للصحابة فضلهم وهو من كبار الصحابة، بل من أوائلهم إسلاماً وهجرة، وجهاداً ودعوة!!

أطل عليهم رضي الله عنه من داره وهو محصور، وقد أحاطوا به شاهرين أسلحتهم، متربصين به، فناقشهم وجادلهم، ووعظهم وذكرهم وقال لهم: "أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله فقال: من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين وله خير منها في الجنة؛ فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلى فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، وله خير منها في الجنة؛ فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها" فأقروا له بذلك لكنهم ما استجابوا ولا سمعوا!!

طال حصاره رضي الله عنه حتى قارب أربعين ليلة، وعلم الخوارج أن الصحابة عائدون من الحج، وأن أهل الأمصار قد بلغهم ما يجرى في المدينة، فسيِّروا الجيوش لنصرة الخليفة، فاستعجلوا قتله رضي الله عنه قبل قدوم الحجاج، ووصول الجيوش من الأمصار.

وفي آخر يوم من عمره رضي الله عنه رأى في المنام أنه إن قاتلهم بمن معه من المهاجرين والأنصار وأبنائهم فهو منصور، وإن تركهم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فاختار القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لمن كانوا يحمونه من الصحابة وأبنائهم "أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده، وأن ينطلق إلى منزله" ثم قال لرقيقه: "من أغمد منكم سيفه فهو حر".

وعن أبي الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: "لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم"، قال: قلنا: أصلحك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس، فقال: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي هذا, فقال: إنك شاهد معنا الجمعة" رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

وروى أبو يعلى وعبد الله بن الإمام أحمد عن مسلمٍ أبي سعيد مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن عثمان أعتق عشرين مملوكاً، ودعا بسراويل فشدها لم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة "، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا قتل؛ فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحيي منه الملائكة؛ كما نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكفَّ يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً".

وثبت من غير وجه: أن أول قطرة من دمه سقطت على قول الله تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [البقرة:137] ويروى أنه وصل إليها في تلاوته حين دخل عليه الخوارج الأشقياء.

وروى ابن سعد أنه لما طعن رضي الله عنه قال: "بسم الله، توكلت على الله، وإذا الدم يسيل على لحيته، فقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول: سبحان الله العظيم، وهو في ذلك يقرأ المصحف، والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [البقرة:137] وأطبق المصحف وضربوه جميعاً ضربة واحدة".

وقد أقسم بعض السلف بالله تعالى : "أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولاً، أصابتهم دعوة سعد بن أبي وقاص حين دعا عليهم -وهو مجاب الدعوة- فقال: اللهم أندمهم ثم خذهم" وروى الطبراني بإسناد حسن عن يزيد بن حبيب رحمه الله تعالى قال: "ما مات أحد منهم حتى جُنَّ".

وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي! فقلت: يا عبد الله، ما سمعت أحداً يقول ما تقول، قال: كنت أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت، والناس يجيئون فيصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه فلطمته وسجيته، وقد يبست يميني، قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود" رواه اللالكائي في السنة.

نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله تعالى أن يعصمنا والمسلمين من الدماء المحرمة، وأن يتوفانا على الإيمان والسنة، إنه سميع مجيب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يجب ربنا ويرضى، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشكره على فضله وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وسلوه العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون: هدي الصحابة رضي الله عنهم خيرُ الهدي، وهم أصلح الأمة قلوباً، وأزكاهم أعمالاً، وأكثرهم علماً وفقهاً، فمن رام الهداية إلى الحق، فليسلك مسلكهم، وليستمسك بهديهم، ولينهل من فقههم وعلمهم.

وفي حادثة مقتل عثمان رضي الله عنه، وموقفه من تلك الفتنة العمياء: ما يدل على أنه -رضي الله عنه- كان من كبار فقهاء هذه الأمة، ومن أشدهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لسنته، وعملاً بقوله، ولم تفقده الفتنة صوابه، ولا خرج عن الاتباع قيد أنملة، رغم ما مرّ به من شدة ومحنة.

ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في استسلامه لقضاء الله تعالى وقدره، وحقنه لدماء المسلمين، وتقديم مصلحة الأمة على مصلحته الخاصة؛ بالاكتفاء بسفك دمه دون دم غيره، مع وجود من سيدافع عنه، ويقيه بدمه؛ لكنه رأى أن لا فائدة من ذلك، وأحس بدنو أجله؛ فكان شجاعاً، واجه الأمر لوحده، وأعفى المسلمين من تبعة ذلك، فحقن بفعله هذا دماءً كثيرة.

وأعظم من ذلك فقهاً وعلماً: أنه رفض التنازل عن الخلافة؛ تلبية لمطالب الخوارج، ولو كان في ذلك ذهاب نفسه؛ إعمالا للنصوص النبوية التي استحضرها في تلك الفتنة، وعلم ما فيها من العلم والفقه رغم ما هو فيه من الشدة والمحنة؛ فمن يثبت عقله كما ثبت عقل عثمان في فتنةٍ تجعل الحليم حيران؟!

روى أبو سهلة مولى عثمان رضي الله عنه أن عثمان قال يوم الدار حين حُصِر: «إن رسول صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً، فأنا صابر عليه، قال قيس ابن أبي حازم: فكانوا يرونه ذلك اليوم» رواه أحمد والترمذي، وقال :حسن صحيح.

وروت عائشة رضي الله عنها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا عثمان، لعل الله يقمصك قميصاً, فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه حتى يخلعوه" رواه الترمذي وقال: حسن غريب.

وفي لفظ للإمام أحمد: "إن الله لعله يُقَمِصُّك قميصاً فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه"، ثلاث مرات، قال النعمان بن بشير لعائشة: يا أم المؤمنين، فأين كنت عن هذا الحديث؟ فقالت: يا بني، والله أُنسيته.

رضي الله عن عائشة؛ نسيت هذا الحديث، فلما قتل عثمان تذكرته، ورضي الله عن عثمان ما نسيه رغم المصيبة التي ألمت به، وهذا من أعظم الدلائل على ثبات عثمان، وشدة امتثاله لوصايا النبي صلى الله عليه وسلم.

وروت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان يوماً فتنحى به، فجعل ُيسارُّه ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً وإني صابر نفسي عليه" رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

لقد كان عثمان رضي الله عنه مسدداً في رأيه، موفقاً في اختياره، وتجاوز الفتنة بأقل الخسائر، وأكبر المكاسب؛ فلقي الله عز وجل وقد حفظ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته، ولم تتلطخ يداه بدماء معصومةٍ محرمة، بل لم يسفك حتى دماء أعدائه الخارجين عليه، وهم يستحقون ذلك، وقُتِل ظلماً وعدواناً يجد عقبى ذلك يوم القيامة.

إن استمساكه رضي الله عنه بالخلافة حتى آخر قطرةٍ من دمه، مع عدم القتال عليها؛ كان الخيار الحسن بين شرين عظيمين؛ فلو قاتل عليها لسفكت دماء كثيرة من ضمنها دمه، فكانت الخسائر أكبر. ولو تنحى عن الخلافة لما وفى بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وفي تنحيه عنها فتح لباب شرٍ كبير على الأمة؛ إذ يتولى شؤونها الرعاع والدهماء، يقودهم أصحاب النوايا السيئة من المنافقين والمفسدين، فيعزلون من شاؤوا، ويولون من شاؤوا حسب أهوائهم، ومنصب الإمامة الكبرى ليس ألعوبة في أيدي السفهاء والدهماء، بل هو شأن كبراء الأمة وعقلائها وعلمائها من أهل الحل والعقد.

ولا يفتات على هذا الحق من عامة الناس، إلا من أُشرب الفتنة، كما أُشرب بنو إسرائيل العجل، ولا يطعن فيه لأجل دنيا لم يصبها إلا طلاب الدنيا، وعّباد الأموال والجاه، الذين إن أعطي أحدهم رضي، وإن لم يعط سخط، تعس فانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.

جعلنا الله تعالى هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، وهدانا صراطه المستقيم، وأصلح لنا أحوال الدنيا والدين.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد..
 

 

 

 

 

المرفقات

مقتل عثمان رضي الله عنه (2) مدافعة الفتنة، وحسن الاختيار1

مقتل عثمان رضي الله عنه (2) مدافعة الفتنة، وحسن الاختيار - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات