فتشوا عن الرفق تسعدوا

حسان أحمد العماري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ ما أتعس الحياة وأشقاها عندما تُبنَى على العنف 2/ فضل خُلق الرفق بين المسلمين مع بعضهم البعض ومع غيرهم 3/ الرفق خُلق أصيل لا يتصف به إلا المؤمن

اقتباس

لقد حُرمنا الخير كله في كثير من جوانب حياتنا عندما تلاشى واختفى خُلق الرفق واللين من سلوكنا ومعاملاتنا على مستوى الأسرة والبيت وتربية الأولاد، وفي التعليم وفي العمل والوظيفة، وفي الحكم والسياسة وعلاقات الناس مع بعضهم البعض والقبائل والأحزاب والدول، فعصفت بنا الخلافات عصفاً وسفكت الدماء وأزهقت الأرواح، وقامت الحروب وذهب الأمن وحلّ الخوف وانعدمت الثقة بين أفراد المجتمع وضاقت النفوس حتى في حديثنا وكلامنا وحواراتنا ومناقشاتنا لا تجد في كثير من الأحيان إلا الشدة والغلظة والقسوة .. فأين الرفق؟!...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ  على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان  لا راد  لقضائه ولا معقب لحكمه .. أكرم مسئول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب مفرّج  الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب:

سهرت أعينٌ ونامت عيـون *** في شئون تكون أو لا تكونُ

فاطرح الهـمَّ مـا استطعت ***  فحمـلانك الهمـوم جنـونُ

إن ربًّا كفاك ما كان بالأمس *** سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ

 

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كثير الخير دائم السلطان، وأشهد  أن  محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه حملة العلم والقرآن وسلم تسليما كثيراً.

 

 أمَّا بَعْـد: عباد الله: لقد اعتنى الإسلام بحياة الأفراد والمجتمعات والشعوب، ودعا في كثير من أحكامه وتشريعاته وتوجيهاته إلى أن تكون هذه الحياة قائمة على الحب والتراحم والتسامح والتعارف والتعاون، وحذر من العنف والشدة والغلظة وكثرت الصراعات والاختلافات بين بني البشر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات/13]..

 

وما أتعس الحياة وأشقاها عندما تُبنَى على العنف والحروب والصراعات والكراهية والأحقاد والضغائن؛ إنها ستغدو جحيماً لا يُطاق، وعندها تتعطل كل القيم العظيمة والأخلاق الفاضلة، ويتوقف بناء الحياة وتفسد علاقات البشر وتذهب راحتهم وسعادتهم، فكان لزاماً على الناس جميعاً أن يدركوا خطورة ذلك على دينهم ودنياهم وآخرتهم، وأن يعودوا إلى أخلاق الإسلام وفضائله التي أخرجت أفراداً ومجتمعات وشعوب سعدت في حياتها وأسعدت الأمم من حولها ..

 

وإن من الأخلاق التي دعا إليها  الإسلام  وأكد عليها: خُلق الرفق بين المسلمين مع بعضهم البعض ومع غيرهم، بل حتى مع الكائنات والمخلوقات في هذا الكون الفسيح من حولهم ومن تتبع القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الصحابة وأخلاق المسلمين والأوائل يجد أن هذا الخلق له دور كبير في حياة الناس.

 

 وقد وصف الله نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخُلق وكيف أثَّر في قلوب أصحابه والقبائل والناس من حوله فقال –تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ, وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ, فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ, فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ, إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159] ..

 

وجاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي: أنه دخل المسجد، فدخل في الصلاة مع الصحابة وراء الرسول عليه الصلاة والسلام، فعطس رجل في الصلاة، فقال معاوية -وهو لا يعرف الحكم-: رحمك الله! فضرب الصحابة على أفخاذهم ينبهونه، قال: ويل أمي ماذا فعلت؟! يريدونه أن يسكت، فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام- يقول معاوية فدعاني -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً أحسن منه! ولا أعلم منه! ولا أرحم منه! ما نهرني ولا سبني ولا شتمني وضع يده على كتفي وقال: "إن هذه الصلاة لا تصلح للكلام، وإنما هي لقراءة القرآن والذكر والتسبيح".

 

أي تربية هذه؟ وأي رفق ولين ورحمة تعامل بها -صلى الله عليه وسلم- مع الآخرين من حوله؟ وأي أثرٍ وأي تغييرٍ حدث في حياتهم بسبب هذه المعاملة الراقية؟ وأي حباً اكتسبه -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم حتى قدم الواحد منهم ماله وأهله وحياته خدمة لهذا الدين؟  والرفق هو التلطف في الأمور، والبعد عن العنف والشدة والغلظة، ولين الجانب وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34].

 

 وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعطي حظه من الرفق, فقد أعطي حظه من الخير, ومن حُرم حظه من الرفق, فقد حرم حظه من الخير" (صحيح الجامع للألباني: 6055).

 

أيها المؤمنون/ عبـاد الله: لقد حُرمنا الخير كله في كثير من جوانب حياتنا عندما تلاشى واختفى خُلق الرفق واللين من سلوكنا ومعاملاتنا على مستوى الأسرة والبيت وتربية الأولاد، وفي التعليم وفي العمل والوظيفة، وفي الحكم والسياسة وعلاقات الناس مع بعضهم البعض والقبائل والأحزاب والدول، فعصفت بنا الخلافات عصفاً وسفكت الدماء وأزهقت الأرواح، وقامت الحروب وذهب الأمن وحلّ الخوف وانعدمت الثقة بين أفراد المجتمع وضاقت النفوس حتى في حديثنا وكلامنا وحواراتنا ومناقشاتنا لا تجد في كثير من الأحيان إلا الشدة والغلظة والقسوة .. فأين الرفق؟ 

 

قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". (مسلم: 2593)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" (مسلم: 2594).

 

لقد نهى القرآن عن القسوة وذمها، وذم من اتصف بها أشد الذم. فقد قص القرآن علينا قصة بني إسرائيل، ووجه الخطاب لهم بقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة البقرة: 74].

 

 بل ذكر القرآن أن قسوة القلوب عند بني إسرائيل، كانت عقوبة إلهية لهم على عصيانهم، ونقضهم مواثيقهم وعهودهم مع الله تعالى، كما قال سبحانه بعد أن ذكر ما أخذ عليهم من ميثاق: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ..) [سورة المائدة: 13] ...

 

أين ستذهب بنا هذه الشدة وهذا العنف على بعضنا البعض .. إلى أين تتجه حياتنا وأوطاننا؟! إلى متى يستمر هذا العنف وهذه القوة والشدة والغلظة سلوكيات قائمة في حياتنا؟! من يتحمل مسئولية الدماء والأرواح والمآسي التي تحدث للأطفال والنساء والرجال بسبب العنف والشدة والحروب والصراعات في بلادنا وبلاد المسلمين؟! من يتحمل الأزمة الاقتصادية وغياب كثير من السلع الضرورية والنزوح الجماعي للأفراد والأسر من المدن التي تشهد حروباً وعنفاً وصراعات بسبب أهواء نفسية ونزوات شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان؟!

 

 لماذا لا نكون كباقي شعوب ودول العالم التي تعلمت من دروس التاريخ والحياة أن العنف والشدة لا تبني مجتمع ولا تؤسس حضارة، ولا تصنع مجتمعاً منتجاً ولا وطناً آمناً؟ لماذا لا نعود إلى ديننا وقيمنا وأخلاقنا ونتنازل عن حظوظ أنفسنا ونتواضع لبعضنا البعض وتكون قوتنا ووحدتنا وجهودنا ضد أعدائنا .. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]..

 

اللهم ارزقنا الرفق في جميع أمورنا واهدنا إلى سواء السبيل ..

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانــية:

 

 عباد الله:  إن الرفق مِنَ المَطَالِبِ الحَيَاتِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ التِي لاَ تَسْتَقِيمُ الحَيَاةُ السَّوِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، يَتَأَلَّفُ بِهِ المَرْءُ القُلُوبَ، وَتَنْقَادُ لَهُ النُّفُوسُ، وَيَمْلكُ المودَّةَ والمَحَبَّةَ وَالإِجْلاَلَ، ولاَ غِنَى للمَرْءِ أَبَدًا مِنَ التَّحَلِّي بِهِ فِي مَعَامَلَةِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؛ والناس من حوله عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّه -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: "إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" (رواه أحمدُ وفي صحيح الجامع /303‌) ..

 

كل ذلك يؤكد أن الرفق في الإسلام خُلق أصيل لا يتصف به إلا المؤمن الحق, ولا يلتزم به إلا من عرف الإسلام معرفة الموقن بأنه الدين الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق ويرفع من شأن القيم والفضائل ويبني المجتمعات البناء السليم..

 

وإن بلادنا تحتاج منا  إلى توحيد جهودنا وطاقاتنا لبناء مستقبل أفضل لأجيالنا التي تنتظر من الكثير من العمل والبذل وإن من أهم ما يجب أن نقوم به هو: أن ننبذ العنف ونوقف هذه الحرب على البلاد والعباد، ونسعى لجمع الكلمة ورأب الصدع والدعوة إلى التراحم والتسامح، وحل المشاكل بالحوار والنقاش، وتغليب مصالح الأوطان على مصالح الأحزاب والجماعات والأفراد.. وعلينا التخلق بخلق الرفق في الأمور كلها .. قال عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمر أمتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ. وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أمر أمتي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ" (مسلم 6/7)..

 

 ففتشوا عن خُلق الرفق في نفوسكم، ومارسوه سلوكاً في حياتكم تسعد بلادكم وتتبدل أحوالكم وترضوا ربكم..

 

اللهم إنا نعوذ بك من الأمن من مكرك، ونسألك نفساً طيبة تعرف المعروف وتفعله، وتعرف المنكر وتجتنبه، اللهم إنا نعوذ بك من قول بلا عمل، ونعوذ بك من سوء الخاتمة، ومن مردٍّ مخزٍ أو فاضح.

 

اللهم إنا نسألك بصيرة في الدين، وحسن ظن مع حسن عمل، ونعوذ بك من أمنٍ مع سوء عمل، اللهم أصلح أحوالنا وألف بين قلوبنا واحقن دمائنا واحفظ بلادنا ورد كيد عدونا في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين  ..

 

 هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56] ..

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وارضَ  اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي،  وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 

 

المرفقات

فتشوا عن الرفق تسعدوا.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات