اقتباس
وبالفعل أحكم المسلمون الحصار على المدينة, وضربوا عليها طوقا أمنيا يصعب اختراقه, ونصبوا عليها المجانيق والدبابات, ومنعوا عنها أية إمدادات خارجية, وأهل دمشق ممتنعون عنهم أشد الامتناع, ويرسلون الى هرقل وهو مقيم بحمص يطلبون منه المدد؛ وهو لا
الأشلاء الممزقة:
بعد أن حقق المسلمون انتصارهم الهائل المدوي على جحافل الروم فى موقعة اليرموك الخالدة تفرقت قوات الروم وهى مذهولة لا تلوي على شيء من هول ما أصابها باليرموك:
فمجموعة توجهت الى حمص, وأخرى توجهت الى دمشق, وأخرى الى فلسطين, وتذامر الروم فيما بينهم, وقرروا ألا يجتمعوا فى جيش كبير مرة أخرى, بل ينقسمون الى عدة جيوش متفرقة, ولكنها أيضا كبيرة العدد مقارنة بجيوش المسلمين, وذلك من أجل تنظيم المقاومة ضد الزحف الإسلامى على أرجاء الشام كلها, حتى إذا كسر لهم جيش يبقى آخر لمواصلة المقاومة وهكذا, وقد مر بنا من قبل فى معركة اليرموك أن القيادة العامة لقوات المسلمين انتقلت من خالد بن الوليد الى أبي عبيدة بن الجراح على أن يكون خالد بن الوليد بمثابة المستشار الحربي لخطط القتال, فكتب أبو عبيدة للخليفة عمر بن الخطاب يسأله بأي البلاد يبدأ بعد انتصار اليرموك ؟ فأرسل إليه الخليفة عمر يقول إبدأ بدمشق؛ لأنها حصن الشام, وحاضرته, وبيت المملكة فقرر المسلمون فتح مدينة دمشق.
"فقه ترتيب الأولويات من الأمور الهامة واللازمة لقيام أي عمل, والمحافظة عليه, خاصة فى الأعمال الكبيرة التى تترتب عليها آثار على الدين والأمة, مثل الأعمال الجهادية والدعوية التى تحتاج لترتيب مستمر, وموازنة دائمة بين المصالح والمفاسد ".
ذكاء أبي عبيدة القائد:
اتبع القائد الجديد لقوات التحالف الإسلامية خطة ذكية وحكيمة فى نفس الوقت, أظهرت كفاءة حربية عالية, فلقد نظر الى موقع مدينة دمشق الجغرافي, ودرسه جيدا وعليه بنى سياسته الحربية, فلقد رأى أن مدينة دمشق تمثل قلب الشام ولها طريق إتصالات وإمدادات مع باقي مدن الشام, وهى فى نفس الوقت مدينة حصينة قوية بها الكثير من القوات الرومية, وأيضا مشحونة بالمؤن التى تكفيها للصمود أمام الحصار ولو طال, وعلى هذا وضع خطته على اتجاهين:
الاتجاه الأول: قائم على عزل مدينة دمشق عن باقي مدن الشام؛ بقطع طريق الإمدادات والمواصلات, ومن أجل تحقيق ذلك أرسل جيشا بين دمشق وفلسطين, وآخر بين دمشق, وثالثا الى منطقة فحل, ورابعا يكون بمنطقة برزة؛ ليكون ردءا لجيش المسلمين المحاصر لدمشق.
الاتجاه الثاني: إحكام الحصار على مدينة دمشق من كل اتجاه, ذلك لأن مدينة دمشق كان لها عدة أبواب؛ فوكل بكل باب قائدا من قواد المسلمين ومعه جزء من الجيش يحكم الحصار من ناحيته, حتى إذا إستطاع أحد القادة فتح مايليه من الأبواب تدفق معه باقي الجيش الى داخل المدينة.
وبالفعل أحكم المسلمون الحصار على المدينة, وضربوا عليها طوقا أمنيا يصعب اختراقه, ونصبوا عليها المجانيق والدبابات, ومنعوا عنها أية إمدادات خارجية, وأهل دمشق ممتنعون عنهم أشد الامتناع, ويرسلون الى هرقل وهو مقيم بحمص يطلبون منه المدد؛ وهو لا يملك لهم يدا, فالقوات المسلمة مربطة على طريق الإمدادات, فلما رأى أهل دمشق أن الروم لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا أبلسوا وفشلوا, وشدد المسلمون الحصار عليهم, وزاد الأمر عليهم سوءا بدخول فصل الشتاء, وقرب نفاذ المؤن من عندهم, ولكنهم مع ذلك صمدوا وواصلوا المقاومة والتصدي للحصار, ونظموا الدفاعات والحراسات على أسوار المدينة.
" نحن نعيد ونكرر أن المسلمين أولى بالصبر والثبات من عدوهم, وأولى بمواصلة التصدي لقوى الكفر والشر, ومقاومة جند الشيطان, ولا يعقل أن يكون أعداء الإسلام أجرأ من المسلمين على الموت وهم يموتون فى سبيل الطاغوت, والمسلمون لا جرأة لهم بينما هم يموتون فى سبيل الله - عز وجل - ".
مغامرة الأبطال:
"كثيرا ما يرى المسلمون على شاشات التلفاز مغامرات أبطال الخدع والوهم السينمائي التى تنتجها آلة الدعاية الصهيو صليبية ( هوليود )؛ فيفتح البلهاء أفواههم إعجابا بما رأوه, ويتنامى عندهم الإحساس بأن هؤلاء أبطال لا يقهرون, ويتمنى الواحد منهم لو كان مكان بطل المغامرة, وربما يعلق صورته على جدران حجرته, ويقضي الليالي الطويلة يتقمص شخصية البطل ويقلده فى حركاته وسكناته, وهذا هو عين ما يخطط له أعداء الإسلام لشباب أمتنا, ولهؤلاء نقول: اقرأوا تاريخكم, وأعرفوا أبطالكم الحقيقيين, وكيف كانت بطولاتهم حقيقية, وليست مزورة ولا مفبركة؛ فهي المجد والفخر".
كان أمير الحرب خالد بن الوليد يرى بحكم خبرته العسكرية الطويلة والفذة أن هذه المدينة الحصينة لن تسقط إلا من خلال ثغرة أو خطأ يقع فيه أهلها, فكان خالد لا ينام ولا يدع أحد من رجاله ينام، بل هو يرصدهم ليلا ونهارا, وله عيون واستخبارات تنقل له ما يستجد داخل المدينة ,وأحوال الحراسات صباحا ومساءا, وبقدر الله عز وجل وحده حدث فى ليلة من الليالي أن أحد القادة الرومان بالمدينة قد ولد له مولود؛ فصنع وليمة لأهل المدينة, وشرب الحراس ليلتهم حتى سكروا وناموا عن مواقعهم, وغفلوا عن حراساتهم, وفطن خالد بن الوليد لذلك الأمر؛ فاستعد لإقتحام المدينة فى عملية فدائية لا يقوم بها إلا أبطال الإسلام؛ حيث خرج هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وغيرهم من كتيبة خاصة فى الجيش معروفة بالشجاعة والفدائية الباهرة, فعبروا الخندق المائي سباحة, ثم نصبوا سلالم من الحبال – أحضروها معهم خصيصا لتلك المهمة البطولية – على شرفات أسوار المدينة بواسطة خطاطيف من حديد ثم صعدوا على الشرفات, فلما استووا على الأسوار أطلقوا صيحات مدوية بالتكبير, وكانت هذه هي إشارة هجوم الفيلق الإسلامي من هذه الناحية, وصعد الجيش كله على الحبال, وفي ذلك الوقت انحدر خالد وكتيبته البطولية على حراس الأبواب كالصاعقة؛ فقتلوهم جميعا, ثم فتحوا الباب الشرقي للمدينة, ودخل الجيش المسلم منه, واشتبكوا مع من تصدى لهم من المقاتلين.
لما سمع أهل المدينة أصوات التكبير أصابهم الفزع الشديد, ولم يدروا ما الخبر؛ ذلك أن كل من يذهب لاستطلاع الأخبار لا يعود لأنه يقتل, فهرع أهل كل باب ليسألوا الأمير المسلم المحاصر لهم الصلح, وقد كان المسلمون قد دعوهم الى الصلح من قبل على المشاطرة وهم يرفضون, فلما خرج أهل المدينة وطلبوا الصلح من القائد من قبل أبي عبيدة أجابهم لذلك, وهو لا يعلم أن خالدا قد فتحها عنوة من ناحية الشرق, والتقى الصحابة وسط المدينة, واتفقوا فيما بينهم أن تكون المدينة نصفها المفتوح عنوة خالصا للمسلمين, والنصف الآخر المفتوح صلحا مناصفة بينهم وبين أهل البلد.
ما أعظم أخلاقكم يا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
تذكر بعض الروايات التاريخية أن عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش كان بعد فتح مدينة دمشق, واستدلوا على صحتها أن خالدا هو الذي كتب الصلح مع أهل دمشق, ولا يكون ذلك إلا للأمير, واستدلوا أيضا على ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب قد كتب كتابا لأبي عبيدة بن الجراح يستنيبه على الشام على أن يكون خالد مشيرا للحرب, فلما وصل الكتاب الى أبي عبيدة بن الجراح كتمه عن خالد بن الوليد حتى فتحت دمشق, وبعدها بعشرين ليلة أظهر الكتاب لخالد, فقال له خالد:" يرحمك الله يا أخي مامنعك أن تعلمني حين جاءك ؟ " قال أبو عبيدة كلمات ينبغي أنت تكتب بماء الذهب: " أني كرهت أن أكسر عليك حربك يا أخي, وما سلطان الدنيا أريد, ولا للدنيا أعمل, وما ترى سيصير الى زوال وإنقطاع, وإنما نحن إخوان وما يضر الرجل ان يليه أخوه فى دينه ودنياه ".
ولا نملك مع هذا الكلام إلا أن نقول ما أعظم أخلاقكم يا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أعظم تجردكم وإخلاصكم ونيتكم الصالحة في خدمة الإسلام والمسلمين، ما أعظم تواضعكم وإيثاركم للآخرة علي الدنيا، ما أعظم مشاعر الإخوة الخالصة النقية فيما بينكم، وما أعظم إيمانكم بحقيقة الدنيا وزينتها وزخارفها، وكذلك حقيقة الآخرة، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا أن البشرية لم تعرف جيلاً فريداً متميزاً في أمر الدنيا والآخرة مثل جيل الصحابة، فرضوان الله عليهم، ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين علي من عادهم وسبهم وشتمهم واستهزئ بهم.
أهم الدروس والعبر:
1ــ فقه الأولويات من أهم أدوات الحاكم والقائد في سياسته للبلاد والعباد، كما أن حركة الجهاد الإسلامي لم تكن أعمالا عشوائية بلا نظام أو تخطيط كما يدعي أعداء الأمة من المستشرقين وأذنابهم، بل كانت منظومة متكاملة الأركان في التخطيط والتدبير والفكر الاستراتيجي الحكيم ويتضح هذا من أوامر الخليفة عمر بن الخطاب لجيوشه في الشام بالتوجه لفتح دمشق بعد انتصار اليرموك.
2ــ المسلمون أولي بالصبر والثبات من عدوهم لأنهم يقاتلون في سبيل الله، وعدوهم يقاتل في سبيل الطاغوت ثبات أهل دمشق في الحصار ورفضهم التسليم رغم قسوة الأوضاع وقلة المؤن.
3ــ صحابة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هم الأبطال الحقيقيين لأبناء الأمة الإسلامية، وهم القدوات الذين يجب علينا أن نربي أبناءنا علي التأسي بهم والاقتداء ببطولاتهم، والمواقف الكثيرة تدل علي ذلك من سيرة الفتوحات الإسلامية بطولة كتيبة خالد بن الوليد في اقتحام أسوار المدينة بكل فدائية وجراءة.
4ــ الأخلاق الرفيعة والفهم التام، والتجرد الخالص لله ولرسوله ولدينه، كانوا شعار الصحابة في كل مشاهدهم موقف أبي عبيدة مع خالد بن الوليد.
المراجع:
- الكامل فى التاريخ
- التاريخ الإسلامي
- المنتظم
- تاريخ الرسل والملوك
- البداية والنهاية
- فتوح الشام
- تاريخ خليفة بن الخياط
- موسوعة التاريخ الإسلامي
- فتوح البلدان
- تاريخ دمشق لابن عساكر
- محاضرات فى الأمم الإسلامية
- تاريخ الخلفاء
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم