فتح عمورية .. معركة العزة الإسلامية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

معركة عمورية إذا ما قورنت بغيرها من معارك الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري تعتبر معركة دفاعية قليلة الأثر من الناحية الإستراتيجية، فغاية أمرها أنها دمرت إحدى المدن البيزنطية فقط لا غير، ولم تحقق فتحًا ثابتًا لها، ولكنها بمقاييس العزة والكرامة كانت بعيدة الأثر؛ إذ أثبتت أن الدم المسلم ليس رخيصًا أو مهدرًا كما يحدث الآن، وأن أرواح المسلمين الغالية وراءها مطالب يسعى للأخذ بثأرها واسترجاع حقها ..

 

 

 

 

مقدمة

الأزمة الحقيقية التي تعيشها أمة الإسلام في وقتنا الحاضر هي في المقام الأول أزمة في الإيمان, الذي هو المحرك الأساسي لحياة الإنسان -خاصة المسلم- لأن الإيمان إذا ما دخل القلوب وملأها فإن آثاره وأعراضه تفيض على الجوارح والسلوكيات والتصرفات وردود الأفعال, وبغياب الإيمان تغيب معظم أسلحة المسلم -إن لم تكن كلها- ومن أعظم ما فقده المسلمون الأن بضعف إيمانهم العزة والكرامة, وكلاهما أقوى أسلحة المؤمن في حربه ضد أعداء الإسلام, وبغيابهما أصبح المسلمون مثل الجثة الهامدة, بل مثل الأموات الذين لا يسمعون ولا يتحركون, ولا تهزهم الأحداث, ولا تؤرقهم الدماء المراقة, والأعراض المنتهكة, والمقدسات الأسيرة, ولا يقض مضاجعهم بكاء اليتامى, وعويل الأرامل, ودموع الأزواج الذين يرون زوجاتهم يغتصبن أمام أعينهم ولا يملكون لهم يدًا, هذا رغم أن الإسلام يفرض علينا أن نتحلى بالعزة والكرامة, وأن نتمثل قول الله -عز وجل-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8], ولعل السبب الرئيس لضياع العزة والكرامة من قلوب المسلمين الآن أنهم قد التمسوا العزة والكرامة من عند غير الله -عز وجل-, تمامًا كما فعل المنافقون من قبل, وعندها أذلهم الله -عز وجل-, وأوكلهم إلى أنفسهم وعدوهم, وصدق الفاروق عمر عندما قال: إنا كنا أذل أمة على وجه الأرض فأعزنا الله بالإسلام, فمتى ابتغينا العزة في غير دين الله أذلنا الله, ونحن نذكر من التمس العزة من عند أمريكا وأوروبا وغيرهم, ومن التمس العزة في القومية العربية والقبلية, ومن التمس العزة في مال أو جاه أو عشيرة, كل هؤلاء نذكّرهم بقول الحق: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر: 10]، ثم نذكرهم بهذا اليوم العظيم من أيام الإسلام الخالية.

حلف الشيطان:
 

واجهت الدولة العباسية في مطلع القرن الثالث الهجري -وبالتحديد سنة 203 هـ- فتنة هائلة, كادت أن تقتلع جذور الدولة العباسية من أساسها, وهددت الوجود الإسلامي في منطقة ما وراء النهر بالهضبة الإيرانية كلها, وهي فتنة (بابك الخرمي)، وهو رجل فارسي اتبع مذهب الإباحية, وروج له حتى تبعه الكثير من سكان الجبال ممن يغلب عليهم الجهل والشقاوة, وكان بابك هذا داهية من دواهي الزمان، استطاع أن يستغل ميل الناس للشهوات والغرائز, ودخل عليهم من هذا الباب حتى استغوى الكثيرين, ثم ما لبث أن تحول من مذهب إباحي إلى قوة عسكرية نظامية قوية, واتبع أسلوب العنف والشدة, والسفك الشديد لدماء وأموال المسلمين, وبدأ يكوّن مملكة كبيرة تكون نواة إعادة مملكة فارس المجوسية القديمة, والتى أزالها المسلمون في أيام الصحابة الأولين.

لم ينتبه المسلمون في بداية الأمر لخطورة دعوة بابك الإباحية، حتى تحولت الدعوة لحركة عسكرية, وهذا الأمر يكشف مدي خطورة التساهل والتغافل عن الأفكار الإلحادية المفسدة في المجتمعات الإسلامية، فتجرد له الخليفة المأمون العباسي, وظل يرسل له الجيش تلو الآخر, ولكن لم يستطع القضاء عليه, فلما حضرت المأمون الوفاة أوصى خليفته وأخاه المعتصم بالله أن يواصل قتال بابك الخرمي, وأن يقضي على هذا المذهب الخبيث, وبالفعل تجرد الخليفة المعتصم بالله لحرب بابك الخرمي وأتباعه الإباحيين, وأرسل إليه خيرة قواد الدولة العباسية وأمهرهم الواحد تلو الآخر حتى استطاع في النهاية أن يضيق الخناق على بابك, وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الوقوع, وعندها أرسل بابك الخرمي برسالة إلى توفيل بن ميخائيل ملك الروم البيزنطيين يعلمه فيها أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه, ولم يبق على بابه أحد, ويعلمه أنه إن أراد الخروج إليه فليس في وجهه أحد يمنعه, وظن بابك أن ملك الروم إن تحرك يكشف عنه ضغط المسلمين عليه, وبالفعل خرج توفيل في جيش جرار يفوق المائة ألف, والتحق بجيشه الآلاف من أتباع بابك الخرمي من سكان جبال أرمينيا بآسيا الصغرى, وأغاروا على مدينة (زبطرة)، فأوقع بأهلها مذبحة كبيرة, ومثل بجثث القتلى: فسمل العيون, وقطع الأنوف والآذان.

((وهذا يوضح مدى الحقد والغل الذي يعتمل في قلوب أعداء الإسلام ضد المسلمين, وأنهم إذا ما أتتهم الفرصة فسوف يفرغون شحنات الكراهية الممتلئة بها قلوبهم, وهذا يفسر لنا عدم تحرك مشاعر أي أحد من دعاة الحرية والتقدم والديموقراطية عندما يقتل الآلاف والملايين من أبناء المسلمين، في حين يبكون ويولولون على حقوق الخراف التي يذبحها المسلمون في عيد الأضحى, وأيضًا هذا يبين مدى العلاقة بين أعداء الإسلام على اختلاف نحلهم ومللهم, واجتماعهم على حرب المسلمون حتى وإن كان بعضهم لبعض عدوًا)).

رد فعل المعتصم:

لما خرج ملك الروم وفعل ما فعل بأهل الإسلام طارت الأخبار إلى الخليفة المعتصم بالله, وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم قائلة: (وامعتصماه), وكان المعتصم وقتها جالسًا على سريره, فانتفض واقفًا وقال: (لبيك لبيك), وجرى في قصره وهو يقول بأعلى صوته: (النفير النفير) ثم ركب دابته, وأخذ معه حقيبته وزاده, وانطلق بفرسه وحده كالأسد الكاسر لا يلوي على شيء, ولولا أن أدركه القادة والأعيان لسار وحده, وقالوا له: لابد من أن تعبئ الجيش, وتجمع الناس, فوافق المعتصم بالله على ذلك, واستدعى القضاة والشهود وأهل العدالة, وأشهدهم على نفسه بأن ميراثه: ثلث لولده, وثلث للمجاهدين في سبيل الله, وثلث لله تعالى, وأنه لن يعود من جهاده حتى ينتصر للمسلمين, وينتقم من أعداء الإسلام.

((وقد يعجب المرء من قوة وعزة وكرامة المعتصم, وسرعة استجابته, ولكن هذا الأمر عادي جدًا على قلوبهم ونفوسهم الأبية؛ لأن هذا هو الإسلام, وهذا ما أمرنا به, فالعزة والكرامة ليست مسألة طارئة أو عارضة على قلوب المخلصين من المسلمين, بل هو أساس وأصل ثابت في قلوبهم, ونحن نعجب من ذلك في زماننا, فنستغرب إذًا هذه الاستجابة الفورية لنداء الأسارى والحيارى, ونرى أن هذا مثال شامخ لا يدرك أبدًا, رغم أن من يقرأ هذه الحقبة التاريخية يرى أمثلة رائعة بل لا تقل روعة عن موقف المعتصم بالله, ولكنها الذلة التي خربت قلوبنا ونفوسنا)).

سار المعتصم بما تجهز عنده من المسلمين بأقصى سرعة لإنجاد المسلمين بـ(زبرطة), ولما وصل إلى المدينة وجد أن مجرم الروم قد رجع إلى بلاده, فجعل المعتصم مدينة زبرطة قاعدة لتجميع الجيوش, وأرسل في مدائن الإسلام يدعوهم للجهاد ضد الروم, ثم سأل المعتصم عن أمنع وأحصن بلاد الروم, فقيل له: عمورية, وهي مدينة لم يعرض لها أحد من قبل ظهور الإسلام لوقتنا الحالي, وهى عين النصرانية, وأشرف عند الروم من القسطنطينية, فاستعد المعتصم وقرر الهجوم على عمورية؛ لتأديب الكافرين المعتدين, وزجرًا لهم عن العودة لمثلها, وجهز المعتصم بالله جيشًا لم يسبق إليه, وحشد أفضل وأقدر قواده الأبطال, ووضع خطة محكمة للقتال, حيث قسم الجيش إلى ثلاثة أجزاء, كل جزء يدخل على بلاد الروم من اتجاه مختلف, في شبه كماشة طاحنة على أرض الروم, وجعل قائده (الأفشين) على جزء, وقائده الآخر (أشناس) على الجزء الثاني, وقاد المعتصم الجزء الثالث.

خطة الهجوم على عمورية:

بعد أن وضع المعتصم خطة الهجوم على عمورية قدم الجزء الذي يقوده الأفشين, وأمره أن يدخل من ناحية مدينة (سروج), ثم منها الى أرمينيا حتى يصطدم مع ملك الروم توفيل بن ميخائيل, في حين أمر قائده الآخر أشناس أن يدخل من ناحية (مرج الأسقف) ليهجم على ملك الروم من خلفه, وبالتالي يقع توفيل بين كماشة المسلمين, واستطاع الأفشين أن يسبق أشناس, ويصطدم مع الروم الذين فوجئوا بقوة الصدمة الإسلامية في القتال, ففر كثير من جنود الروم من أرض القتال, واستطاع توفيل أن يتخلص من المأزق بصعوبة شديدة وعاد إلى معسكره, وضرب أعناق المتخاذلين في القتال, وأرسل في جميع أنحاء مملكته يأمر بالنفير العام للوقوف في وجه الحملة الإسلامية على بلاده, ولما وصلت الأخبار للمعتصم بهذا النصر الكبير للأفشين على توفيل سر به جدًا, وأرسل إليه وإلى أشناس يأمرهم بالتجمع على مدينة عمورية بعد أن أصبح الطريق مفتوحًا إليها.

اجتمع المسلمون عند عمورية, كانت مدينة شديدة التحصن, عالية الأسوار, لها أبراج قوية, فقام المعتصم بتقسيم قادة جيوشه على أبراج المدينة: كل واحد منهم يتولى الحرب والهجوم من ناحيته, وحدث شيء عجيب, بل هو أمر من عند الله؛ ليعلم به المسلمين من أين يأتي النصر, ذلك أن رجلاً من المسلمين قد أسره الروم من قبل, وأجبروه على التنصر، فتظاهر بذلك تحينًا لفرصة الهرب, فلما نزل المسلمون على المدينة, وضربوا عليها الحصار هرب هذا المسلم, وطلب الدخول على المعتصم وأخبره بنقاط ضعف المدينة -خاصة في جزء معين من أسوار المدينة- فأمر المعتصم بالتركيز على هذا الجزء فانصدع السور.

كان أمير عمورية رجلاً اسمه (ناطس), وقد شعر بوطأة الحصار الإسلامي عليه, فأرسل برجلين من طرفه إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل يطلب منه الإمدادات والنجدات السريعة, ولكن استطاعت المخابرات الإسلامية القبض على هذين الرجلين, وعرفوا منهما خطة ناطس في كبس المسلمين ليلاً, فرد المعتصم على ناطس بحيلة ذكية, حيث أمر بالهدايا والأموال لهذين الرجلين, وأوقفهما في مكان يراه الروم؛ ليعلموا أن هذين الرجلين قد خانا الروم, وقبلا الأموال والهدايا؛ ليدب اليأس والهزيمة النفسية في قلوب الروم المدافعين عن المدينة, ويعلموا أن لا ملجأ لهم من سيوف المسلمين وحصارهم إلا التسليم, وهذا ما وقع بالفعل بعد ذلك.

فتح عمورية:

بعد أن فرق المعتصم قواده على أسوار المدينة وأبراجها وكان قد أمر كلاً من قائديه الكبيرين الأفشين وأشناس أن يتولى أحدهما القتال يومًا والآخر في اليوم الذي يليه, وهكذا بنظام الطاحونة القتالية, ما أرهق المدافعين عن المدينة -خاصة من يتولى الدفاع عن المنطقة الضعيفة, التي سبق أن دل عليها المسلم الهارب من المدينة- حيث ركز عليها المسلمون هجومهم, وكان القائد الرومي الموكل بالدفاع عن تلك المنطقة اسمه (وندوا), وقد أصيب معظم رجاله أثناء قتالهم ضد المسلمين, فاجتمع مع ناطس أمير عمورية, وطلب منه إمدادات من الرجال ليستريح رجاله قليلاً, ويداووا جراحهم, ولكن ناطس رفض بشدة, وشتم وندوا, فعندها عزم وندوا على الخروج للمسلمين؛ ليطلب لنفسه ولرجاله الأمان على أموالهم ودمائهم على أن يفتح لهم الطريق من ناحيته.

بالفعل خرج وندوا واجتمع مع المعتصم, وطلب منه الأمان, فأمنه المعتصم, وأعطاه ما أراد, وأمر الجنود بالهجوم على أسوار المدينة بمنتهى القوة حتى انصدع السور من الناحية الضعيفة، ولم يكن به مدافعون كما هو متفق عليه مع وندوا, ودخل المسلمون كالسيل المنهمر, وحاول الروم التصدي لهم, ولكن هيهات هيهات, وأوقع بهم المسلمون هزيمة منكرة, ونزل ناطس من حصنه, واستسلم لجيش المعتصم, فأخذه المسلمون أسيرًا, وأمر المعتصم بهدم المدينة وإحراقها بالكلية حتى أصبحت أثرًا بعد عين؛ انتقامًا من أعداء الإسلام على ما فعلوه في حق بلاد المسلمين وأبناء المسلمين, وأخذ أهل مدينة عمورية كلهم أسرى, وباعهم بأبخس الأثمان؛ ليتأدب أعداء الإسلام ويرتدعوا بعدها.

((وهذا ما يجب على المسلمين أن يفعلوه مع أعدائهم المجرمين المعتدين؛ ليعلموا أن للإسلام حاميًا, وعن حرمته مدافعًا, ولثأره طالبًا, فيرتدعوا أن يعودوا لمثلها, وذلك مصداقًا لقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة: 123].

معركة عمورية إذا ما قورنت بغيرها من معارك الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري تعتبر معركة دفاعية قليلة الأثر من الناحية الإستراتيجية، فغاية أمرها أنها دمرت إحدى المدن البيزنطية فقط لا غير، ولم تحقق فتحًا ثابتًا لها، ولكنها بمقاييس العزة والكرامة كانت بعيدة الأثر؛ إذ أثبتت أن الدم المسلم ليس رخيصًا أو مهدرًا كما يحدث الآن، وأن أرواح المسلمين الغالية وراءها مطالب يسعى للأخذ بثأرها واسترجاع حقها، مهما كانت العواقب.

وقد احتفى الناس والشعراء والعلماء بهذه المعركة الشهيرة، ورأوا فيها إنقاذًا لماء وجه المسلمين ونصرًا مظفرًا على ألد أعداء المسلمين وقتها -الدولة البيزنطية-، وقد أنشد الشاعر الكبير أبو تمام قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

السيف أصدق إنباءً من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب

وقد عفا الإمام أحمد بن حنبل عما اقترفه الخليفة المعتصم بحقه بعد فتح عمورية؛ تقديرًا لشهامته ودفاعه عن أعراض المسلمين ودمائهم.

المصادر والمراجع/

1- تاريخ الطبري

2- الكامل في التاريخ

3- المنتظم

4- البداية والنهاية

5- فتوح البلدان

6- سير أعلام النبلاء

7- النجوم الزاهرة

8- تاريخ الخلفاء

9- التاريخ الإسلامي

10- محاضرات في تاريخ الدولة العباسية

11- أطلس تاريخ الإسلام
 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات