فتح عمورية

ناصر بن محمد الأحمد

2011-03-09 - 1432/04/04
عناصر الخطبة
1/ سبب فتح عمورية 2/ غيرة المعتصم على محارم الله 3/ خطة المعتصم لفتح عمورية 4/ مآسٍ معاصرة ولكن لا ملبي

اقتباس

اجتمعتْ كلُّ العساكر بقيادة المعتصم عند عمُّوريَّة، وهي مدينةٌ عظيمة كبيرة جدًّا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، فركب ودار حولها دورة كاملة، وقسَّمها بين القُوَّاد، جاعِلاً لكلِّ واحد منهم أبراجًا مِن سورها، وذلك على قدْر كثرة أصحابه وقلَّتهم، وصار لكلِّ قائدٍ منهم ما بين البُرجَيْن إلى عشرين برجًا، أمَّا أهل عمُّوريَّة فقد تحصَّنوا داخل أسوار مَدِينتهم، متَّخذين ما استطاعوا من الحيطة والاحتراز ..

 

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

فيا أيها المسلمون، قصة سبب فتح عمُّوريَّة قصة مشهورة، عندما صرخت المرأة الهاشمية ونادت: وامعتصماه! وذلك عندما أغار إمبراطور الروم على بعض الثغور الإسلامية؛ فخربها وأحرقها، وأسر أهلها، وسبى من النساء المسلمات أكثر من ألف امرأة، ومثَّل بِمَنْ صار في يده من المسلمين، وسمّل أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، فكان الرد الحاسم فتح عمُّوريَّة، عندما علم المعتصم بصيحة المرأة الهاشمية التي نادت: وامعتصماه!

انتهز ملك الروم البيزنطيين انشغال الجيوش الإسلامية في بعض الأطراف، فخرج في مئة ألف من جنده، فانقضَّ على مدينة "زِبَطْرَة"، وأعمل فيها السيف، وقتل الصغير والكبير بلا إنسانية ولا رحمة، وسبى النساء بعد ذبح أطفالهن، ثم أغار على "مَلَطْيَة" فأصابها ما أصاب زِبَطْرَة، فضجَّ المسلمون في مناطق الثغور كلها، واستغاثوا في المساجد والطرقات، ودخل إبراهيم بن المهدي - رحمه الله - على المعتصم، وأنشده قصيدة يذكر فيها ما نزل بزِبَطْرَة ومَلَطْيَة والثغور، ويحضُّه على الانتقام، ويحثُّه على الجهاد، فقال:
يَا غَيْرَةَ اللهِ قد عَايَنْتِ فانْتَهِكي ** هَتَكَ النِّساء وما مُنهن يرتكبُ
هَبِ الرِّجالَ على أَجْرَامها قُتِلَت ** ما بالُ أطْفالِها بالذَّبْح تُنْتَهَبُ؟!

فاستعظم المعتصم ذلك لما بلَغَه الخبر، وبلغه أن هاشميَّة صاحتْ وهي في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجاب وهو على سريره: "لبَّيكِ لبَّيكِ"، ونادى بالنفير العام، ونهض من ساعته.

ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية عن ملك الروم أنه: "سَبَى من المسلمات أكثر من ألف امرأة، ومثَّل بمَن صار في يده من المسلمين، وسمّل أعينهم وقطع آذانهم وأنوفهم".

فنادى المعتصم في العساكر بالرحيل إلى الغزو، واستدعى القاضي والشهود، فأشهدهم أن ما يملكه من الأموال، ثلثه صدقة، وثلثه لولده وثلثه لمواليه، وتساءل قائلاً: أيُّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل له: عمُّوريَّة، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القُسطنطينية، فسار باتجاهها، بجهاز عظيم من السلاح والعدد وآلات الحصار، وبجحافل أمثال الجبال، ولَمَّا دخَل الجيش الإسلامي بقيادة المعتصم بلاد الروم، أقام على نهر اللاّمِس، وهذا النهر كان هو الحد الفاصل بين الخلافة العباسية والدولة البيزنطية في آسية الصغرى، وعلى ضفتيه كانتْ تتم مبادلة الأسرى، فبعد أن وصلت الطليعة إلى الموقع المقصود، حُفرت الخنادق، فقد كان النظام يقضي بألاَّ يعسكر الجنود قبل أخْذ الحيطة من الهجوم المفاجئ، فإذا ما وصَل الجيش الرئيسي نُصبت الخيام في نظام بديع رائع، وخططت الشوارع والميادين، وأقيمت الأسواق، كما لو كان المعسكر مدينة عامرة، وكانت توزَّع الأرزاق، فتوقد المطابخ، وتنصب عليها القدور، مع بث مفارز الرَّصد والدوريات المتحركة، ويقسمون الجند إلى عدَّة نوبات؛ بحيث يظلُّ قسم منهم جاهزًا دومًا على ظُهُور الخيل، لمشاغلة العدو ريثما يستعد الباقون، ويُضاف إلى كلِّ ذلك أفراد الحرس الدَّاخلي الذين كانوا يُفاجَؤُون في محارسهم ليلاً؛ للتأكُّد مِن يقظتِهم، وكان هؤلاءِ يستلمون الحراسة بالمناوَبة، وكانتْ نوبة حرس أوَّل الليل أطول مِن نوبة آخره عادة.

اجتمعتْ كلُّ العساكر بقيادة المعتصم عند عمُّوريَّة، وهي مدينةٌ عظيمة كبيرة جدًّا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، فركب ودار حولها دورة كاملة، وقسَّمها بين القُوَّاد، جاعِلاً لكلِّ واحد منهم أبراجًا مِن سورها، وذلك على قدْر كثرة أصحابه وقلَّتهم، وصار لكلِّ قائدٍ منهم ما بين البُرجَيْن إلى عشرين برجًا، أمَّا أهل عمُّوريَّة فقد تحصَّنوا داخل أسوار مَدِينتهم، متَّخذين ما استطاعوا من الحيطة والاحتراز.

وعلم المعتصم من عربي متنصِّر - تزوج في عمُّوريَّة وأقام بها - أنَّ موضعًا من المدينة جاءه سيل شديد؛ فانهار السُّور في ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامله في عمُّوريَّة أن يبني ذلك الموضع ويعيد تشييده، فوجّه الصُّنَّاع والبنَّائين فبنوا وجه السُّور بالحجارة حجرًا حجرًا، وتركوا وراءه من جانب المدينة حشوًا، ثم عقدوا فوقه الشُّرَف، فبدا كما كان، ولما علم المعتصم بذلك أمر بضرب خيمته تجاه هذا الموضع ونصب المجانيق عليه، وبدأت المجانيق الضخمة تعمل عملها؛ فانفرج السُّور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عمُّوريَّة انفراج السور دعَّموه بالأخشاب الضخمة، كل واحدة إلى جانب الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسَّر، فيهرَع المحاصَرون لتدعيم السور بأخشاب ضخمة جديدة؛ ليحموا السور من الانهيار، وعندما توالتْ قذائف المجانيق على هذا الموضع الواهن انصدع السور، فكتب عامل عمُّوريَّة إلى ملك الروم كتابًا يعلمه فيه بأمر السور، وحرج الموقف، وقوَّة الحصار، ووجَّه الكِتاب مع رجل يُتقن العربية، ومعه غلام رومي؛ كي لا يُكشف أمره عند اجتياز صفوف الحصار، فإن تحدَّث معه عربي مسلم أو سأله يُجيبه بالعربية؛ كي لا يُشَكَّ في أمره، وأخرج الرجلين من مكان مسيل ماء، فعبرا الخندق الذي يلي السور، فلما خرجا من الخندق، أنكرهما الجند، فسألوهما: من أين أنتما؟ فأجابا: نحن من أصحابكم، نحن منكم جنديان في جيش أمير المؤمنين المعتصم، فقالوا لهما: مِنْ أصحاب مَنْ أنتما؟ فلم يعرفا أحدًا من قُوَّاد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاؤوا بهما إلى المعتصم، وفتَّشهما، فوجد معهما كتابًا إلى ملك الروم يعلمه فيه عامله على عمُّوريَّة أنَّ جند المسلمين أحاطوا بعمُّوريَّة في جَمْعٍ كبير، وقد ضاق به الموضع، وأنه قد اعتزم على أن يركبَ ويحمل خاصَّة أصحابه على الدَّوابِّ التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلاً على حين غرة ويخرج ومن معه، فيحمل على المسلمين كائنًا ما كان بعدها، أُفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه مَنْ أُصيب، حتى يتخلَّص من الحصار، مهما كانت النتائج.

وفي صباح اليوم التالي أمر المعتصم بالرجلين الأسيرين، فأداروهما حول عمُّوريَّة ليحدِّدا مقر عاملها ومكان وجوده، فقالا: يكون في هذا البرج، فأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلاً ونهارًا، وشدَّدها، وأمر أن تكونَ بين الجند تناوُبًا، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابِّهم بكامل أسلحتهم، تحسُّبًا من أن يُفتح باب مِن أبواب عمُّوريَّة ليلاً، أو أن يتسلَّل من خلالها إنسان، فلم يزل جند المعتصم يبيتون كذلك بالتناوب على ظهور الدَّوابِّ في السلاح، ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين البرجين، من الموضع الذي وُصف للمعتصم أنه لم يُحكم عملُه، ودوَّى في فضاء عمُّوريَّة صوتٌ اهْتَزَّ له جنباتها إثر تهدُّم جانب السور، فطاف رجالٌ بالجند المسلمين يبشرونهم بأنَّ الصوت الذي سُمِعَ صوت السور قد سقط، فطيبوا نفسًا بالنصر.

وتنبه المعتصم إلى سعة الخندق المحيط بعمُّوريَّة وطول سورها، فدفع لكلِّ جندي شاة؛ لينتفع من لحمها، وليحشو جلدها ترابًا، وطرحها في الخندق؛ كي يتمكن من الوُصُول إلى السور.

وفي صباح يوم جديدٍ من الحصار بدأ القتالُ على الثُّلْمَة التي فُتحت في السور، ولكن الموضع كان ضيقًا لم يمكنهم من اختراق الثُّلْمَةِ، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانتْ مُتفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض، وجعلها تجاه الثُّلمة، وأمر أن يُرمى ذلك الموضع لتتَّسع الثُّلمة، ويسهل العبور، وبقي الرَّمي ثلاثة أيام، فاتَّسع لهم الموضع المنثلم، وكان الموكَّل بالموضع الذي انثلم من السور رجلاً من قوَّاد الرَّوم فقاتل وأصحابه قتالاً شديدًا باللَّيل والنهار، والحرب عليه وعلى أصحابه ولم يمدّه عامل مدينة عمُّوريَّة ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى إلى قومه وقال: إن الحرب عليَّ وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلاَّ قد جُرح، فصَيِّروا أصحابكم على الثُّلمة يرمون قليلاً، وإلاَّ افتضحتم وذهبت المدينة، فأبوا أن يمدُّوه بأحد، وقالوا: سَلِمَ السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد، فاعتزم وأصحابه على أن يخرجوا إلى المعتصم، ويسألوه الأمان على أهلهم، ويسلِّموا إليه الحصن بما فيه من المتاع والسلاح، فلما أصبح خرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، فأوصله بعضُ الجند المسلمين إليه، وأعطاه المعتصم ما أراد من أمان له ومن بجهته من الرجال، ثم ركب حتى جاء فوقف حذاء البرج الذي يقاتل فيه عامل عمُّوريَّة، فصاح بعض الجند بالعامل، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس العامل ها هنا، فغضب المعتصم لكذبهم وتوعَّدهم، فصاحوا: هذا العامل، فصعد جندي على أحد السلالم التي هيِّئت أثناء الحصار، وقال للعامل: هذا أمير المؤمنين فانزل على حكمه، فخرج من البرج متقلِّدًا سيفًا، حتى وقف على البرج، والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، ودفعه إلى الجندي المسلم الذي صعد إليه، ثم نزل ليقف بين يدي المعتصم، فضربه المعتصم بالسوط على رأسه، ثم أُمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهانًا، فأوثق هناك ليعلن سقوط عمُّوريَّة بيد المعتصم وجنده، وذلك بعد حصار دام خمسة وخمسين يومًا، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223 هـ، ثم أمر المعتصم بطرح النار في عمُّوريَّة من سائر نواحيها فأُحرقت وهدمت، وأحرق ما بقي بعد ذلك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب؛ لئلا يتقَوَّى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، وعاد بعدها المعتصم بغنائم كبيرة وكثيرة جدًّا لا تُحَدُّ ولا تُوصَف، مُنتصرًا ظافرًا، رادًّا على ملك الروم فعلته، كاسرًا مخالبه التي تطاولتْ على زِبَطْرَة، ومستجيبًا لصيحة الهاشمية الحرَّة عندما صرخت: "وامعتصماه"، فخلَّصها وقتل الرومي الذي لطمها.
وكتب أبو تمام قصيدته المشهورة بمناسبة هذا الفتح العظيم لمدينة عمُّوريَّة، وقد كرَّر إلقاءها ثلاثة أيام أمام المعتصم، وحوله المهنئون وعلية القوم، حتى قال له المعتصم: لِمَ تجلو علينا عجوزك؟ ويجيب أبو تمام: حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين، فأمر له بمئة وسبعين ألف درهم، عن كل بيت منها ألف درهم.

السَّيفُ أصْدَقُ أنْباءً مِنَ الكُتُب ** في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللعِبِ
بيضُ الصَّفائِحِ لا سُودُ الصَّحائِفِ في ** مُتُونِهنَّ جِلاءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْماحِ لامِعَةً ** بَيْن الخَمِيسَيْن لا في السَّبْعةِ الشُّهُبِ
أيْنَ الرِّوايَةُ أمْ أينَ النُّجُومُ وَمَا ** صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
فَتْحَ الفُتُوح تَعَالى أَنْ يُحِيطَ بِهِ ** نَظْمٌ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطُبِ
فَتْحٌ تُفَتَّحُ أبْوابُ السَّمَاءِ له ** وَتَبْرُزُ الأَرْضُ في أثْوابِها القُشُبِ
يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عمُّوريَّةَ انْصَرَفَتْ ** مِنْكَ المُنَى حُفَّلاً معْسُولَةَ الحَلَبِ
أَبْقَيْتَ جَدَّ بني الإسْلامِ في صَعَدٍ ** وَالمُشْرِكينَ وَدَارَ الشِّرْكِ في صَبَبِ
لَقَدْ تَرَكْتَ أَمِيرَ المُؤمنينَ بِهَا ** لِلنَّارِ يَوْمًا ذَلِيلَ الصَّخْر والخَشَبِ
غَادَرْتَ فيها بَهِيمَ اللَّيْلِ وهْوَ ضُحًى ** يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ
حَتَّى كَأَنَّ جَلابِيبَ الدُّجَى رَغِبَتْ ** عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبِ
لَوْ يَعْلَمُ الكُفر كَمْ مِنْ أَعْصُرٍ كَمَنَتْ ** لَهُ العَوَاقِبُ بَيْن السُّمْرِ والقُضُبِ
تَدْبِيرُ مُعْتَصمٍ بالله مُنْتقِمٍ ** للهِ مُرْتَقِبٍ في اللهِ مُرتَغِبِ
رَمَى بِكَ اللهُ بُرجَيْها فَهَدَّمَها ** وَلَوْ رَمَى بِكَ غَيْرُ الله لَمْ يُصِبِ
لَبَّيْتَ صَوْتًا زِِبْطَرِيًّا هَرَقَتْ لَهُ ** كَأْسُ الكَرَى وَرُضَابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
أَجَبْتَهُ مُعْلنًا بالسَّيْفِ مُنْصَلِتًا ** وَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَمْ تُجِبِ
حَتَّى تَرَكْتَ عَمُودَ الشِّرْكِ مُنْعَفِرًا ** وَلَمْ تُعَرِّجْ على الأَوْتادِ والطُّنُبِ
وَلَّى وَقَدْ أَلْجَمَ الخَطِّيُّ منْطِقَهُ ** بِسَكْتَةٍ تَحْتَها الأَحْشَاءُ في صخَبِ
والحَرْبُ قَائِمَةٌ في مَأْزقٍ لَجِجٍ ** تَجْثُو القِيَامَ به صُغْرًا على الرُّكَبِ

إلى آخر ما قاله أبو تمام في قصيدته العصماء التي ما أن يقرأها المسلمُ حتى يشعر بِنَشْوة الأيام الخالدة التي علتْ فيها رايةُ الإسلام خفَّاقة فوق هامات الشِّرك.

فنسأل الله - جلَّ وتعالى - أن يعجلَ بفَرَج أمة محمد - صلى الله عليه وسلم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه مِنَ الآيات والذِّكر الحكيم، أقول ما قلتُ، فإن كان صوابًا فمِنَ الله وحْدَه، وإن كان غير ذلك فمِنْ نفسي ومنَ الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنَّه كان غفَّارًا.

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ لله على إحسانه.

أما بعدُ، فيا أيها المسلمون، أما اليوم والأمة تعيش حالةً منَ الذُّلِّ والهوان والخور، لَيْتَها ترجع إلى تاريخها وتقرأ عندما ارتفعتْ في تاريخنا الإسلامي أصواتُ استنجاد، وانطلقتْ صرخات استغاثة، رفعتْها حناجرُ المظلومين، وأطلقَتْها أفواه المحْرُومين، كان الجوابُ الثابت عن كلِّ تلك الصرخات ثابتًا لَمْ يتغيرْ، وهو المسارعةُ للإغاثة والمساعدة، ولم يحدثْ قطُّ أن ماتتْ في أمتنا رُوح الحميَّة وفضيلة النجدة، حتى في أشدِّ لحظات ضعْفِها وتَمَزُّقها.

ولَعَلَّ أول تلك الأصوات المستغيثة التي صدحتْ في أذُن التاريخ، هو صوت المرأة الأنصارية المسلمة التي غدر بها يهود، في سوق بني قينقاع، فكشفوا بعض عورتها، فصاحتْ وصرختْ واستَنْجدَتْ، فجاءها الجوابُ مِنَ القائد الأولِ لهذه الأمة المُجاهدة، محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم، وزحف - عليه الصلاة والسلام - بجنود الحق يدكُّ أوْكَار اليهود، حتى مزقهم كل ممزق.

ثم جاءتْ صرخةُ الهاشمية الحُرَّة التي غدر بها الروم فأسروها، فصاحتْ صيحتها التي غدت مثلاً: "وامعتصماه"، فأجابها المعتصم من عراق التاريخ والأمجاد، وجهَّزَ جيشًا قادَهُ بنَفْسه، واقتحم به عمُّوريَّة - وهي تركيا حاليًّا - فحرَّك الجيش الإسلامي من العراق حتى تركيا، ولم يرجعْ إلا بالأسيرة المسلمة وهي حُرَّة عزيزةٌ.

وأيضًا من هناك، مِن وراء البِحار، مِن الأندلس الخضراء، صدح صوتُ امرأة مسلمة، غدر بها الأعداءُ فأسروها، فصاحتْ: واغوثاه بك يا حَكَم، تقصد الحَكَم الأول بن هشام الأول ملِك قرطبة، وانطلق النداءُ يُجَلْجِل في أرْجاء الكَوْن، حتى بلغ الحَكَم ملك قرطبة فصاح مِنْ فَوْق عرشِه، وتَحَرَّك من فوْرِه على رأس جيشٍ يعشق الموت في سبيل الله، حتى دهم العدو في عُقر داره، وخلُص إلى الأسيرة المسلمة، وقال لها: هل أغاثك الحكم يا أختاه؟ فانكبت الأسيرة تُقبِّل رأسه، وهي تقول: والله لقد شفى الصدور، وأنكى العدو، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله، وأعزَّ نصْره.

ولله در الحجاج بن يوسف الثقفي، يوم بلغه صوت عائلة مسلمة أسرها الديبل في أعماق المحيط الهندي، فصاحتْ في أسرها: يا حَجاج، وانطلقت الصرخةُ تهزُّ أوتار الكون، حتى بلغت العراق، بلد النخوة والكرامة والنجدة، فصاح الحجاج بأعلى صوته، وللتاريخ أذُن تسمع، وأرسل جيشًا عظيمًا جعل عليه أعظم قواده، محمد بن القاسم، وتحرَّك الجيش المسلم، يحدوه صوت المرأة المسلمة المظلومة، حتى اقتحم بلاد الديبل - وهي كراتشي حاليًّا - وقتل ملكها وعاد بالمرأة المسلمة حُرَّة عزيزة.

واليوم ما أكثر أصوات الاستغاثة والاستنجاد، التي تُطلقها أفواه المظلومين، وترفعها حناجرُ المسحوقين مِن أمتنا، ابتداءً مِن أطفال العراق ونسائه وشيوخه المظلومين، الذين تتفنَّن قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية الظالمة في تعذيبهم وإذلالهم، وما فضائح سجن أبي غريب عنا ببعيدة! ومرورًا بأطفال فِلَسْطين الحبيبة وشيوخها ونسائها، الذين يتفنَّن اليهود أيضًا في ذبْحِهم، وتكسير عظامهم، وبقر بطونهم، وتهديم بيوتهم، وتجريف أراضيهم، وها هي مآسي رفح وغزَّة التي تقشعرُّ منها الأبدانُ مستمرة تحت سمع وبصر أهل النخوة والنجدة - زعموا!

وانتهاءً بمآسي المسلمين في أفغانستان وكشمير والشيشان والبلقان، وغيرها مما يشيب لهولها الولدان، ولا تزال الجرائمُ مُستمرة، ولا تزال طاحونة الموت والدمار تدور رحاها على هذه الأمة، ولا تزال آلاف الحناجر من النساء والأطفال والشيوخ تستصرخ وتستنجد وتستنصر أن وا مُعتصماه، و: وا إسلاماه.

أفلم يعدْ في الضمير المسلم متَّسعٌ لنصرة طفل مظلوم؟ أولَم تبقَ في النخوة العربية والإسلاميَّة بقية لإغاثة امرأة ثكْلى؟ وهل هانتْ قِيَم النخْوة والرجولة والمروءة في أمتنا إلى الحد الذي صار فيه ذبحُ الأطفال، وبقر بطون الحوامل، وقتْل المصلِّين في المساجد وهم سجود وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها - أمرًا عاديًّا ومألوفًا؟

إنَّ حال الأمة اليوم يصدق عليها ما وصف به أحدُ الشعراء المعاصرين بقصيدة كتبها بعد نكبة 48م، والتي قال في مطلعها:

أمَّتي هَلْ لَكِ بيْن الأمم ** مِنْبَرٌ للسَّيْفِ أو للقَلَم
أَتَلقَّاكِ وطرفي مطْرِقٌ ** خَجَلاً مِنْ أمْسَكِ المنْصَرِمِ
"ألإسرائيل" تَعْلُو رايةً ** في حِمَى المَهْد وظلِّ الحَرَمِ
كَيْفَ أغْضَيْتِ على الذُّلِّ ولَمْ ** تَنْفُضي عنكِ غُبَارَ التُّهَم
أوَ ما كنت إذا البغْي اعتدى ** موجة من لهبٍ أو من دمِ
فيم أقدمتِ؟ وأحجمت؟ ولم ** يشتفِ الثأرُ ولم تنتقمي
اسمعي نوح الحزانى واطربي ** وانظري دمع اليتامى وابسمي
واتركي الجَرحى تداوي جُرحها ** وامنعي عنها كريمَ البلسمِ
رُبَّ "وامعتصماه" انطلقت ** ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهُم لكنها ** لم تلامس نخوة المعتصم
لا يُلام الذئب في عدوانه ** إن يكُ الرَّاعي عدو الغنمِ

ولكن الأمل كبير بِعَوْن الله، فالأمةُ لَم تَمُتْ، بالرغم من كل مظاهر الضعف والذلة والغثائية البادية، فإن في بطولات المجاهدين والمقاومين الرائعة، وتضحياتهم المشرّفة، والتفاف الجماهير الإسلامية حولهم، واحتضانها لهم، وتفاعلها معهم، في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها من بلاد المسلمين المظلومة - لَخَيْر دليل على ذلك، وسيأتي يوم لا نشك في أن تنتصر فيه الجماهيرُ المؤمنةُ على أعدائها، وتنتقم من جلاَّديها، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].

اللهم..
 

 

  

 

المرفقات

عمورية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات