فتح جزيرة رودس (928هـ - 1522م)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

بعد أن طرد المسلمون الصليبيين من بلاد الشام إلى غير رجعة سنة 691هـ، انتقلت فلول الحركة الصليبية إلى ثلاثة مراكز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، الأول في دولة أرمينية في قليقية بالأناضول، والثاني في جزيرة قبرص حيث آل لوزينان الذين ظلوا يحكمون الجزيرة منذ سنة 586هـ حتى فتحها المماليك سنة 829هـ، والثالث في جزيرة رودس حيث دولة الفرسان الاستبارية أو فرسان القديس يوحنا.

 

 

 

 

 أصل نشأة جماعة الرهبان المحاربين:

 

نشأت الفكرة الأولى لجماعات الرهبان المحاربين أو الفرسان سنة 463هـ/1070م عندما أسس بعض التجار الإيطاليين جمعية خيرية في بيت المقدس، كانت تشرف على كنيسة بيت المقدس، مهمتها الأولى العناية بمرض الحجاج النصارى، وكان لهؤلاء التجار الإيطاليين علاقات قوية بالدولة الفاطمية الخبيثة، وقد نجحوا في الحصول على تسهيلات وامتيازات في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله تتمثل في السيطرة على أحد الأحياء القريبة من كنيسة بيت المقدس، فشيدوا بها ديرًا كبيرًا وألحقوا به المستشفى.

 

كان الذي يتولى الإشراف والخدمة في هذه المستشفى هيئة منظمة يرأسها راهب إيطالي يدعى جيرار أطلق عليه فيما بعد لقب حامي فقراء المسيح، وقد أطلق على هؤلاء الرهبان اسم فرسان المستشفى أو الاستبارية بعد تحريف اللفظ الإنجليزي إلى اللغة العربية، وقد انضمت هذه الجماعة تحت لواء بابا روما مباشرة.

 

وقد لعبت هذه الجماعة وبالإضافة إلى جماعة الفرسان الداوية أو فرسان المعبد دورًا خطيرًا ومؤثرًا للغاية في الحروب الصليبية الشهيرة على العالم الإسلامي في القرون الوسطى، وخاصة جماعة فرسان الاستبارية لنشأتها قبل وصول أولى الحملات الصليبية بحوالي ثلاثين سنة، وخبرتها الميدانية والاجتماعية ببلاد الشام، لذلك لما احتل الصليبيون بيت المقدس سنة 491هـ، قدمت هذه الجماعة عونًا كبيرًا للحركة الصليبية، واعتبرت بمثابة القلب النابض الذي يبث الروح الصليبية ضد الإسلام والمسلمين، وكان لنشأة هاتين الجماعتين – الاستبارية والداوية – كنظام يجمع بين الرهبنة والعسكرية صدى كبير في كل أنحاء أوروبا وانتظم في سلكها الآلاف من الراغبين في قتال المسلمين، وكانوا بالفعل أشد الناس عداوة وحربًا للإسلام والمسلمين.

 

 المماليك وجزيرة رودس:

 

دولة الفرسان الاستبارية قد تكونت في جزيرة رودس عقب سقوط عكا سنة 691هـ، وكان لملوك قبرص آل لوزنيان دور كبير في تكوينها، وذلك لاتفاق العقيدة والنهج والفكر بين الطرفين، فكلاهما يؤمن بأهداف وأساسيات المشروع الصليبي القديم ضد العالم الإسلامي، ومن ثم حدث نوع من التعاون السياسي والتنسيق الحربي ضد المسلمين في مصر والشام، فالأسطول القبرصي الذي هجم على الإسكندرية سنة 763هـ وارتكب المجزرة الشهيرة في التاريخ كان يضم عددًا كبيرًا من فرسان الاستبارية من رودس كما اشترك كثير منهم في الدفاع عن جزيرة قبرص عندما هاجمها المماليك، وأيضًا ساهموا بنصيب كبير في فدية ملك قبرص الأسير «جانوس» كي يطلق المماليك سراحه.

 

وقد أيقن فرسان رودس أن انتصار المماليك على القبارصة سنة 829هـ ما هو إلا جرس إنذار شديد اللهجة بقرب حلول الدور عليهم، وكان سلطان المماليك الأشرف برسباي الذي فتح قبرص يلهج بذلك كثيرًا، ومن ثم أخذ الروادسة في الاستعداد بتحصين القلاع والأسوار والأبراج خشية الهجوم المفاجئ للمماليك، كما بثوا العيون والجواسيس من نصارى مصر والشام لمعرفة نية المماليك واستعداداتهم الحربية، ونظرًا لانشغال السلطان برسباي بالاقتتال مع شاه رخ بين تيمور لنك المغولي أمنت جزيرة رودس من الهجوم المملوكي حتى سنة 843هـ.

 

عندما جلس السلطان سيف الدين جقمق على عرش الدولة المملوكية جعل قضية فتح رودس في الدرجة الأولى لاهتماماته، فبدأ بأولى حملاته على الجزيرة سنة 843هـ بأسطول صغير أغلبه من المتطوعين لجس نبض دفاعات الجزيرة، وقد كشفت تلك الحملة عن الاستعدادات القوية والدفاعات الحصينة لفرسان الاستبارية، فعادت الحملة وفي نية سيف الدين إرسال الثانية، وبالفعل بعد ثلاث سنوات أي في سنة 846هـ أرسل الثانية وكانت أكبر من الأولى ويقودها الأمير أينال العلائي الذي صار سلطانًا فيما بعد، وانطلقت الحملة البحرية من دمياط واتجهت إلى بيروت وطرابلس حيث انضم الأسطول الشامي ثم توجهت إلى قبرص لأخذ التمويل اللازم، ثم انطلقت الحملة بحذاء ساحل آسيا الصغرى باتجاه جزيرة رودس، ولكن حدث أن جزيرة صغيرة بساحل آسيا الصغرى تسمى (الحصن الأحمر) وكانت تابعة لفرسان الاستبارية، فأطلقت مدافعها نحو الحملة الإسلامية، فأثار هذا العمل الطائش غضب المسلمين فاتجهوا نحوها وحطموها بالكلية مما أثر على ذخيرة الحملة الإسلامية، واقترب فصل الشتاء، فعادت الحملة دون أن تحقق هدفها.

 

لم ييأس سيف الدين جقمق من فشل الحملتين السابقتين فأرسل الثالثة وأنفق عليها أموالاً طائلة، وعين لها قائدين، واحدًا للقوات البرية، وهو أينال العلائي، والآخر للقوات البحرية وهو تمرباي، وسارت الحملة لهدفها مباشرة، وتمكن المسلمون بعد قتال عنيف من النزول على بر الجزيرة وحاصروا عاصمتها، دخلوا في حرب عصابات حامية طيلة أربعين يومًا، في تلك الأثناء انتفضت أوروبا كلها ووقفت خلف فرسان الاستبارية وأرسلت إمدادات كثيرة إلى رودس، وصمدت العاصمة بفضل ذلك أمام الهجوم الإسلامي الشديد، وأخذت مؤن المسلمين وذخيرتهم تقل وتنفد بسرعة، واضطروا في النهاية لرفع الحصار والعودة إلى مصر.

 

ولم يعد المماليك بعدها لمحاولة فتح رودس بسبب الاضطرابات الداخلية المتكررة والصراع على كرسي الحكم، وأيضًا بسبب ظهور قوى بحرية جديدة كان لها قدم السبق في السيطرة في البحر المتوسط شمالاً وهم الأتراك العثمانيون، وفي المحيط الهندي والبحر الأحمر جنوبًا وهم البرتغاليون.

 

 الدولة العثمانية وجزيرة رودس:

 

جزيرة رودس تقع قريبًا من ساحل آسيا الصغرى ناحية الجنوبي الغربي منها، وبالتالي كانت قريبة من ثغور الدولة العثمانية، ومع تنامي واتساع الدولة العثمانية وسيطرتها على مصر والشام بعد إسقاطها للدولة المملوكية، أصبحت الدولة العثمانية أكبر دولة إسلامية في العالم، لذلك كان يتعين عليها أن تتصدى لأي تهديدات تنال من هيبة ومكانة الدولة الأكبر في العالم الإسلامي.

 

كانت جزيرة رودس جزيرة مشاكسة فرسانها الاستبارية يجوبون البحار مثل القراصنة يهاجمون السفن الإسلامية أينما وجدت فينهبونها، وبالأخص السفن التجارية القادمة من مصر والشام، كما يهاجمون أيضًا سفن الحجاج، ومع تزايد خطرهم، وقطعهم لخطوط المواصلات البحرية العثمانية، فقرر السلطان سليمان القانوني في مستهل ولايته سنة 928هـ أن يضع حدًا نهائيًا لهذه الجزيرة الصليبية المعادية وقد ساعده في تحقيق هدفه عدة أمور:

 

1-انشغال أوروبا بالحرب الكبرى بين شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة وفرانسوا ملك فرنسا.

 

2-تحالف العثمانيين مع البنادقة ضد الجزيرة المشاغبة، وقد تضرر البنادقة بشدة من جرائم قراصنة رودس وتوقفت تجارتهم مع الشرق بسبب ذلك.

 

3-تطور ونمو البحرية العثمانية منذ عهد سليم الأول.

وفي سنة 928هـ/1522م انطلقت الحملة البحرية العثمانية الكبيرة ضد الجزيرة الصليبية ولم تصمد دفاعات الجزيرة أمام ضخامة الهجوم العثماني حيث دكت مدافع البحرية العثمانية حصون وقلاع الجزيرة، فاستسلموا على الفور، ولأن السلطان سليمان كان مشهورًا بالعفو والتسامح، فقد أعطى فرسان الاستبارية حرية الانتقال من رودس حيث شاءوا بشرط ألا يتعرضوا للسفن العثمانية والإسلامية بسلب أو نهب، فذهبوا إلى جزيرة مالطة، وغلب عليهم الاسم فصاروا يعرفون بفرسان مالطة.

 

طبعًا الذي فعله السلطان العثماني سليمان القانوني كان صحيحًا من وجهة نظر الإنسانية والمروءة وأخلاق العفو عند المقدرة، ولكنه كان خطأ شرعيا وسياسيًا واستراتيجيًا فادحًا، فالمتعين في حق هؤلاء الأعداء المعاندين هو القصاص العادل والإعدام العاجل، فلقد كانوا من أشد الناس عداوة ونذالة وكراهية للإسلام والمسلمين، مصرين ومعاندين قد نذروا حياتهم لمحاربة الإسلام والمسلمين مهما كانت بلادهم أو عرقياتهم، عربًا أتراكًا هنودًا بربرًا، كل ما هو مسلم فهو هدف أول لعدوان هؤلاء الفرسان الرهبان، لذلك كان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- لا يترك لهم أسيراً ولا يقبل لهم فداءًا، من يأسره منهم يقتله على الفور؛ لشدة عداوته للإسلام والمسلمين، وقد أثبتت الأيام صدق هذا الكلام، فقد انتقل فرسان الاستبارية إلى مالطة، ووضعوا أنفسهم تحت خدمة الإمبراطور شارلكان، واستأنفوا حربهم ضد العالم الإسلامي وظلوا على عداوتهم حتى العصر الحديث.

 

فلقد حدث تطور كبير في حركة فرسان الاستبارية، حيث عرفوا بفرسان مالطة، وتوسعوا وكبرت أعدادهم وصاروا من أقوى الهيئات الكنسية على مستوى العالم لهم سفراء ومبعوثين في 140 دولة، ولهم مؤسسات خدمية واجتماعية واقتصادية وأيضًا عسكرية على مستوى العالم، ويكفي أن نعرف أن جماعات المرتزقة الذين استأجرتهم أمريكا بعد احتلالها لبلاد العراق لمواجهة المقاومة الإسلامية هناك مثل جماعة بلاك ووتر [الماء الأسود] ينتمون إلى جماعة فرسان مالطة، وقد صرح الرئيس العام لجماعة بلاك ووتر واسمه «برنس جون» أن هدف جماعتهم محاربة المسلمين والقضاء عليهم في كل مكان.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات