فابتغوا عند الله الرزق

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ انشغال الناس بقضية الرزق وتخاصمهم فيه 2/ الرزق قدَريٌّ مكتوب يُبتغَى من عند الله 3/ التربية النبوية على طلب الرزق بالحلال 4/ تصحيح مفهوم الرزق 5/ زيادة الرزق بشكر الله عليه وزواله بكفرانه 6/ السعي لطلب الرزق والموازنة بينه وبين العبادات 7/ الدعاء سبب من أسباب الرزق   

اقتباس

إنَّ الرزق -أيها الأفاضل- الذي يُعترَف لله تعالى به ليس فقط عندما ترى مالاً بين يديك، أو ترى سيارةً فارهةً تركبُها، أو ترى بيتاً مُنيفاً، إنَّ ولدَك رزقٌ يُشكَرُ الله تعالى عليه، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)، وإن سمعك وبصرك ولسانك أرزاق كذلك ..

 

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليلُه، وخيرتُه من خَلقِه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّهُ رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثَّر به بعد القِلَّة، وأغنى به بعد العَيْلة، ولمَّ به بعد الشتات، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظَر، ووعت أذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: جعل الله عباده في هذه الدنيا معتمدين عليه -جل وعلا- في طلب أرزاقهم، وإن قضية الرزق اليوم قضية تشغل كثيرا من الناس، فكم من إخوة اختلفوا وتقاطعوا بعد موت أبيهم بسبب اختلافهم على المال والميراث وهو الرزق الذي ساقه الله إليهم! وكم مِن أخٍ كان مصاحبا لأخيه فاختلف هو وإياه في تجارة أو مال فانقطعت بينهما أواصل الرحم في طلب الرزق.

وكم مِن شريكَيْن كانا متصافيَين متحابَّيْن فإذا بهما يختلفان بسبب طلب الرزق! وكم من رجل اختلف مع زوجته على نفقة حتى أدى ذلك إلى طلاقها وتفرُّق الأسرة وتشتت الأولاد، وكل ذلك يدور على الرزق.

وكم من إنسان قُطِعت يدُه بسبب جَرْيِهِ وراء رزق لم يصل إليه! وكم مُلِئَتْ المحاكم اليوم من متعدِّين! وامتلأت عنابر السجون من مسجونين! كل ذلك بسبب تكلُّف بعضهم طلب الرزق، سواءً كان من حلال أو من حرام.

أيها الأحبة الكرام: قال الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) [هود:6]؛ فجعل الله -جل وعلا- هذه الآية قاعدةً وقانوناً عاماً لجميع الناس : رزقك على الله -جل وعلا-، إن لم تطلب رزقَك طلبك رزقُك كما يطلبُك أجلُك.

وقديما قال إبراهيم -عليه السلام- لقومه: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) [العنكبوت:17]، فكان يأمرهم بألا يرزقوا مِن آلهتهم، ولا مِن كُبَرائِهم، ولا من الملأ الذي يسيطرون عليهم، إنما يبتغونه من ربنا -جل وعلا-.

وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الإنسان وهو في بطن أمه يُكتَبُ رزقه، في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، قال: "إن أحدكم يُجْمَعُ خلقُهُ في بطن أمِّه أربعين يوما نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسَلُ إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقيّ أم سعيد" رواه البخاري ومسلم.

فرزق العبد -أيها الأفاضل- يُكتَبُ على الإنسان منذ أن يكون في بطن أمه، علَّم ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلمٌ من حديثِ أبي ذر، يقول الله تعالى: "إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّمَاً، فلا تَظَالموا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكُم؛ يا عبادي، كلُّكم جائع إلا مَن اطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمْكُم -يعني الرزق في الطعام عند الله-"، قال: "يا عبادي، وكلكم عارٍ إلا من كسَوتُهُ، فاستكسوني أكسكم".

فجعل الله تعالى في هذا الحديث الرزق، سواء كان طعاماً او كساءً أو منصبا، أو كان عدلاً في العطاء بين الناس، جعل كلَّ ذلك معَلَّقاً بربنا -جل في علاه-.

ذكر يونس بن عبيد قال: كنت جالساً يوما وبين يديَّ طعامٌ ولحمٌ، قال: إذ أقبلَتْ إليَّ هِرَّةٌ مُسرِعَةٌ فاختطفت قطعةً مِن اللحم وذهبَت بها، قال: فقمتُ أتبعها لأنظر أين تأكلها، وهل تُطعِم شيئا من صغارها، قال: فإذا هي تدخل إلى مكان مهجور بجانب البيت، قال: فجعلتُ أرقبها فأقبلَت إلى جحر قديم فوضعت قطعة اللحم عنده، فصاحت ثم ذهَبَتْ، قال: فجعلت أرقب، فإذا ثعبان عظيم يخرج من هذا الجحر وكان أعمى، جعل يتشمم الموضع حتى قبض بفمه على قطعة اللحم ودخل بها، قال: عندها تذكرت قول الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6].

أيها الإخوة المسلمون: ولقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يوضح هذه المسألة، ويُقنع بها أصحابه، فكان ينهاهم دائما عن أكل الحرام، ويحذرهم مِن تعاطيه، سواء كان من غُلولِ وظيفةٍ يوظف فيها الإنسان، كما في حديث ابن اللُّتْبِيَّةِ الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأخذ الصدقات، أو كان من غلول من معركة شارك فيها الإنسان فغلَّ وسرق من الغنائم، وفيها الحديث الذي ذكره البخاري لما أهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غلامٌ فلما ذهبوا به في معركة، وكانوا راجعين، سرق الغلام شملة من الغنيمة، فلما رمي الغلام بسهم ثم مات قال الصحابة: الله أكبر! هنيئا له الشهادة! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الشملة التي غلَّها لَتَلْتَهِبُ عليه في قبره ناراً". فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: اطلبوا الرزق، ولكن ليكنْ من سبلٍ حلالٍ، وتجنبوا أن تطلبوه من حرام.

أيها الإخوة المسلمون: إن الرزق الذي يرزقه الله تعالى للناس لا ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا أن الرزق هو فقط المال أو الأثاث أو الدابة أو البيت الواسع، إن سمعك رزق من الله، إن بصرك رزق من الله، إن لسانك الذي تتكلم به هو رزق من الله ساقه الله تعالى إليك.

مشى إبراهيم بن أدهم يوما، فإذا برجل يسأل الناس ويشتكي إليهم قلة المال وقلة الرزق بين يديه، فأقبل إليه إبراهيم بن ادهم فقال له: يا رجل، أراك تشتكي الحاجةَ وقلة الرزق! قال: نعم، فقال له: أيسرُّكَ تبيع عينيك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: أيسرك ذلك بلسانك؟ قال: لا، قال: أيسرك ذلك بسمعك؟ قال: لا، قال: أيسرك ذلك بيديك؟... برجليك؟... وجعل يعدد عليه جوارحه التي يستمتع بها وخُص بها دون كثيرٍ من الناس الذين فقدوها، والرجل يقول: لا، لو تعطوني مائة ألف دينار على أن تُفقأ عينيني، أو يقطع لساني لما أجبتك إلى ذلك، فقال له إبراهيم بن أدهم: سبحان الله! أراك تملك مئات الآلاف من الدراهم والدنانير وتشتكي أن الله لم يرزقك!.

أيها الأحبة الكرام: لو خُيِّر أحدنا ما بين برجٍ عالٍ وبين سمعه لاختار سمعَه، أو خير بين قصر وبين بصره لاختار بصره، واختار لسانه؛ فسلامة عين الإنسان من العمى، وسلامة الأذن من الصمم، وسلامة اللسان من البكم، هو رزق ساقه الله تعالى إليك ينبغي أن تُحْدِثَ له شكرا ونعمة.

كم من إنسان حرم من هذا الرزق وأعطي من المال فإذا به يُنْفِقُ مئات الملايين في سبيل أن يعود إليه رزقه، السمع الذي حرم منه، وكم من إنسان حرم من البصر أو حرم من نعمة الكلام فإذا به يسعى يمينا ويسارا يدفع من الرزق الذي يراه الناس من المال، وربما باع بيته وبرجه وسيارته والعقار الذي عنده، ربما باعها بمئات الملايين لأجل أن يعاد إليه عن طريق العلاج سمع أو بصر أو كلام.

إن الرزق -أيها الأفاضل- الذي يُعترَف لله تعالى به ليس فقط عندما ترى مالاً بين يديك، أو ترى سيارة فارهة تركبها، أو ترى بيتا منيفا، إن ولدك رزق يُشكَرُ الله تعالى عليه، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت:17]، وإن سمعك وبصرك ولسانك أرزاق كذلك.

ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن أبا قلابة -رحمه الله تعالى- وكان من كبار المفسرين، ومن تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهم، قال: لما كبر ومرض انفرد عن الناس في خيمة في الصحراء، فأقبل رجلٌ يوما فدخل على هذه الخيمة وإذا بالخيمة ليس حولها ولد ولا سند ولا مال ولا متاع، فدخلها، وإذا فيها خباء قديم، وإذا أبو قلابة وقد كف بصره وقد قعد على الأرض قِعْدَةَ المسكين الفقير المحتاج، فلما قعد بين يديه قال له: يا أبا قلابة، إني دخلت عليك وأسمعك تقول: الحمد لله الذي فضلني على كثير من خلقه تفضيلا، فبما فضلك ربك؟ فلا مالَ ولا رزقَ ولا ولد ولا سند ولا متاع! فضَّلَك بماذا؟ لا نرى بين يديك أي نوع من أنواع الرزق!.

فقال ابو قلابة: أليس الله تعالى قد أعطاني سمعا أسمع به الأذان وأسمع به كلام الناس؟ قال: بلى، قال: كم من عباد الله صُم لا يسمعون؟ قال: كثير، قال: الحمد لله الذي رزقني هذا الرزق وحرم منه الكثير وفضلني عليه. أليس من عباد الله مَن هو مجنون وأنا عاقل؟ قال: بلى، قال: فهذا رزق أحمد الله تعالى عليه أنْ فضَّلَني الله تعالى عليهم، كم من عباد الله أبكم لا يبين حاجته ولا يقرأ القرآن ولا يدعو ولا يأمر ولا ينهى؟ قال: كثير، قال: فأحمد الله أنْ فضَّلَني ورزَقَني لسانا وحرمهم منه.

نعم، إن اعتراف العبد -أيها الأفاضل- برزق الله عليه، مهما كان هذا الرزق قليلا، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن من عباد الله من هو أقل منه رزقا، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "فاتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب"، يعني: لِيَكُنْ تصرُّفُ الإنسانِ جميلاً عندما يطالِب بحقِّهِ.

وينبغي أن نعلم -أيها الناس- أن العبد إذا رزقه الله تعالى رزقاً فشكر الله -جل وعلا- عليه، مهما كان هذا الرزق، لا يعني المال فقط بل أنواع الرزق جميعا، كلما كان العبد شاكرا لله زاده الله تعالى منه، وكلما كان العبد متطلبا للرزق بغير الوجه الحلال كان هذا بابا من أبواب الفقر يُفْتَحُ عليه.

بيَّنَ اللهُ -جل وعلا- فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) [النحل:112]، يأتيهم بالرزق من المال ومِن الطعام ومن الفاكهة ومن اللباس، (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].

العبد إذا تطلب رزق غيره، وحال بين غيره وبين رزقهم فمنع الناس من أموالهم التي جعل الله تعالى لهم. إنسان أنت المسؤول عن راتبه، هذا رزق ساقه الله تعالى إليه عن طريقك، فلماذا تحرمه منه؟ إنسانٌ رزقَهُ الله تعالى مالا بطريق الحلال، سواء رزقه عن طريق تجارة أو عمل قام به بيده، أو هبة وصلت إليه، لماذا تهجم عليه وتسلب هذا المال منه؟.

إن تطلُّبَ الإنسان لرزق غيره لِيحول بينه وبينه يجعل رزقه هو منزوع البركة كما بين الله -جل وعلا- ذلك في قصة القرية التي كانت آمنة مطمئنة، فإذا بهم يستعملون الرزق في معصية الله، ويتطلبون الرزق بسبل غير شرعية، فإذا بالله -جل وعلا- يبدل أمنهم خوفا، ويبدل شبعهم جوعا، ويبدل كساهم عريا؛ بسبب أنهم استبدلوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم ورزقه الذي وسع به عليهم حتى صار يأتيهم من كل مكان، استبدلوه ضلالا وفجورا وكفرا ولم يذكروا نعمة الله عليهم فكان هذا سببا في زوالها لما أنعم الله تعالى به عليهم.

أيها الأحبة الكرام: وينبغي أن يعلم العبد أن طلبه للرزق لا ينبغي أن يكون مشغلا له عما أمَره الله تعالى به مِن الطاعة وطلب العلم وغير ذلك من الفضائل، ينبغي أن يكون عندهم موازنة بين هذا وهذا، ولا أنسى قبل قرابة العشرين سنة كنت في درس لسماحة شيخنا الشيخ ابن جبرين -رحمه الله تعالى- وكنت في أوائل تخرجي من الجامعة وقد انطلق بعض من أعرف بعض تخرجهم إلى تجارة، وفتح محلات وما شابه ذلك، وكنت مشغولا في ذلك الوقت بالحضور عند شيخينا ابن جبرين أو ابن باز أو ما شابههما، فجلست مرة في درس، ثم وقع في نفسي أني بعد المغرب كنت عند شيخ فلان وبعد العشاء عند فلان وغدا عند فلان... كذا... فوقع في نفسي أني إذ استمريت على هذا فلن أملك بيتا ولا سيارة، ولن أستطيع أن أوفر لأولادي شيئاً من الرزق بانشغالي بما انشغلت به، فلماذا لا اعمل كما يعمل غيري من زملائي من تجارة وما شابه ذلك؟.

فكتبت هذا السؤال للشيخ: يا شيخ، أنا أحضر عندك وأحضر عند غيرك من مشايخنا، ووقع في نفسي كذا وكذا، فما هو الحل؟ هل أترك الحضور وأنشغل بغيره أم أستمر فيما أنا فيه؟ فلما قرأ الشيخ السؤال، وكأني أنظر إليه والله الأن بعيني! وإذا به يخفض رأسه قليلا ثم رفعه وقال: اقنع بما تُرزَق أيها الفتى، فليس ينسى ربنا نملة. إن أقبل الرزق تهيأ له، وإن تولى معرضا نم له، بمعنى أنه سيرجع إليك إذ أعرض عنك.

أسأل الله تعالى أن يوسع علينا أرزاقنا، وأن يقضي عنا ديوننا، وأن يبارك لنا فيما أعطانا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلَّانِه، ومَن سار على نهجه واقتفى أثره واستنَّ بسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

أما بعد، أيها الإخوة الكرام: لا يعني اعتقاد المسلم أن الله تعالى هو الرزاق، وأن الرزق مكتوب له منذ أن كان جنينا في بطن أمه، لا يعني ذلك أن تقعد عن طلب الرزق، كلا! بل اشتغل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجارة، ولما أراد أن يشتري يوما جملا من رجل أعرابي ماكثه، فالأعرابي يقول بكذا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول بكذا.

وكان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يترفعون عن سؤال الناس، ويشتغلون بالتجارة، والله -جل وعلا- قال في الحديث القدسي: "فاستطعموني"، يعني: اعملوا في سبيل وجود الطعام، فاستكسوني أكسكم ، فاستطعموني أطعمكم ، يعني اعملوا وأنا أعطيكم بعد عملكم.

وقول ربي من ذلك أعلى وأجل، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) [الملك:15]، طيب، ماذا نفعل بالأرض يا ربي؟ انت ذللت لنا الأرض، إن شئنا زرعناها، وإن شئنا بنينا منها بيوتنا بعمل الطين، وإن شئنا مشينا فيها وسافرنا.

أنت يا ربنا جعلت لنا الأرض ذلولا، فما هو المطلوب؟ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، اعملوا وابحثوا واجتهدوا؛ لذلك لا ينبغي للإنسان أن يعتمد فقط أن يأتي إليه غيره لأجل أن يسوق الرزق إليه، كالذي يقول: واللهِ أنا ما عندي مال لأنه ما عندي وظيفة وأنا قد تقدمت بأوراقي في كل مكان، ولكني لم أجد وظيفة تساق إلي، أو يقول: أنا اشتريت تأشيرة وجئت بها إلى هنا، اشتريتها بألاف الريالات، لكني لم أجد عملا يُعرَض عليّ، وقد سعيت في ذلك!.

إن ابتغاء الإنسان أيها الأفاضل أن يجلس ويقعد والرزق يأتي إليه! هذا خلاف سنة الله تعالى في الأرض ، بل ليس هو من الشريعة؛ لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد يوما فرأى رجلا يتعبد، ثم دخل إليه في وقت آخر فوجده يتعبد، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن هذا؟" قالوا: هذا فلان، لا يكاد يخرج من المسجد عبادةً وقربة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "فمَن يُطعِمه؟" مَن ينفق عليه؟ قال: أخوه فلان يعمل فيطعمه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أخوه خيرٌ منه".

هذا ما عبادته وجهده إلا أن الله لم يخلقك في الأرض ويستخلفك فيها لأجل ان تقعد ما بين سجود وركوع، إنما خلقك لأجل أن تعمل وتكدح؛ لعل الله تعالى أن يرزقك شيئا من ذلك.

ولعل في ذكر الإنسان لبعض ذكرياته إقناعا أحيانا لبعض الشباب: أذكر أيضا قبل سنوات، قبل قرابة سبع عشرة سنة، حصلت بعض الأحداث، فكان في تلك الأيام قبض لبعض المشايخ، فكنت من ضمنهم، وقُبِض علي، ولبثت في السجن ما لبثت، ثم لما خرجت، وكنت استاذا جامعيا في ذلك الحين، فأقبل إلي بعض الناصحين، قالوا: يا شيخ، الآن كل من خرج من السجن من المشايخ فُصِلَ مِن وظيفته، قلتُ: أنا أستاذ في الجامعة، قالوا: وإن كنت، فاستعد لذلك.

فلما رأيت ذلك علمت أن يعتمد الإنسان في رزقه على بشر دون أن يعمل هو ويكدح ويطلب الرزق، هذا خلاف المنهج الشرعي، ففكرت فأقبل إليَّ مَن أقبل، واقترح علي أن نعمل في بيع التمر، فوافقته على ذلك واشتركت معه، فإذا بي كنت أستلم تلك الأيام من الجامعة 7500ريال شهريا، وإذا بي لما عملت في بيع التمر وتجارته أكسب شهريا أكثر 20000ريال، فقلت في نفسي: سبحان الله! الإنسان يظن أن رزقه مربوط بشيء معين، ويظن أنه لو تركه ربما فاته هذا الرزق، ويتمسك به بتلك اليدين، وربما عض عليه بنواجذه فيتمسك بشيء معين ولا يطرق غيره ويظن أنه لو ترك هذا الباب لافتقر وجاع!.

بينما يكون الله -جل وعلا- قد دبر له تدبيرا أحسن من تدبيريه لنفسه، وكانت رحمة الله تعالى به اعظم من رحمته بنفسه، وكان ما يريده الله تعالى له من الخير أوسع وأكثر بركة مما يريده هو لنفسه.

أريد بذلك -أيها الأفاضل- لأهمس في أذن بعض الشباب سواء من الحاضرين أو ممن يستمعون الخطبة بعد ذلك، الذين يشتكون البطالة، أو يشتكي أنه تخرج من الجامعة ولم يحصِّل وظيفة، سواء عندنا في المملكة أو في خارجها: ينبغي ألا تحتقر وظيفة حلالا تعمل بها، لئن كان هناك أقوام لم يحتقروا ان يعملوا بترويج مخدرات أو في تهريبها ويتكسب من هذا المجال، وهناك أقوام يتكسبون من ربما بيع الخمر أو من تصنيعها، فلا تحتقر أنت أن تتكسب من أن تكون سائقا لسيارة أجرة، أو أن تبيع تمرا في وسط الطريق، أو أن تبيع بضاعة عند مسجد، أو تشتري شيئا من البضائع التي يريدها الناس وتذهب بها إلى أماكن تجمعهم وتعمل، فإن الإنسان إذا ابتدأ وعمل مثل ذلك ورأى الله تعالى منه الجهد والنصَب وأنه يعمل بارك الله تعالى له في الرزق.

وقال الله تعالى في كتابه: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت:17]، كما أن من أسباب الرزق أن يدعو الإنسان ربه -جل وعلا- أن يرزقه وأن يبارك له فيما رزقه، روى الترمذي في الحديث الصحيح، وقد صححه الألباني -رحمه الله- وغيره: "إن رجلاً أقبل إلى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، قال: يا أمير المؤمنين، أشتكي إليك الحاجة! أشتكي إليك الفقر! أشتكي إليك كثرة الدَّيْن! فقال له علي -رضي الله تعالى عنه- قال: إني سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ويعلمنا دعاءً لو كان عليك مثل جبل طير دَيناً سُري عنك، قال: وما هو الدعاء؟ قال: أن تقول: "اللهم اكْفِنِي بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك".

وذكر ابن الجوزي في كتابه: المنتظم في التاريخ، ذكر أنه لما تكلم عن أم جعفر الخليفة زبيدة العباسية ذكر أنها كانت صاحبة مال وشرف وكرم، قال: قعد رجلان يوما أعميان لا يُبصران، قعدا في وسط الطريق، فعلم أنها تمر بهما، فقال أحدهما: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر -هذا جائز، اللهم اجعل فلاناً يُعطِيني مالا، هذا ليس شركا؛ فأنت تعلم أن المال الذي عند فلان هو من الله أصلا- فقال أحدهما يريد أن يُسْمِعَها اللهم: ارزقني من فضل أم جعفر، وقال الآخر: اللهم ارزقني من فضلك وحدك لا شريك لك، فسمعتهما ام جعفر، وسمعتهما الجارية.

فلما وصلتا إلى البيت أعطتها أم جعفر دينارين، وأعطتها صُرة فيها عشرة دنانير، قالت: خذي دجاجة مشْوِيَّةً وأدْخِلي فيها هذه الصرة وأعطيها لذاك الذي قال: ارزقني من فضل أم جعفر، أما الديناران فلِلَّذي قال اللهم ارزقني من فضلك، فوصلت الدجاجة إلى الذي طلب مِن فضل أم جعفر، ووصل الديناران إلى ذاك الرجل.

فإذا الذي سأل من فضل أم جعفرٍ ليس جائعا، الناس يتصدقون عليه بالطعام، فلتفت إلى صاحبه وقال: تشتري الدجاجة بالدينارين؟ قال: نعم، فباعها عليه وأخذ الدينارين، ثم مِن غدٍ أرسلت أم جعفر كذلك، وباعه الدجاجة، فلما كان بعد عشرة أيام مرت بهما فإذا الآخر الذي سأل من فضل الله على حال حسن وقد ملك مائة دينار، وإذا بالآخَر ليس عنده إلا العشرة دنانير! فعلمت أن الرزق الذي يسوقه الله تعالى إلى العبد يسخَّر له الناس أن يساق عن طريقهم.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإياكم جميعا رزقا حلالا، وألَّا يذلنا لأحد من خلقه في طلب رزقنا.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك...

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

عند الله الرزق1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات