فإذا فرغت فأنصب وإلى ربك فارغب

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الترويح عن الروح أهم وأولى من الترويح عن الجسد 2/نعمة الفراغ نعمة عظيمة سيُسأل عنها صاحبها 3/أقسام الأوقات وبيان حرص السلف عليها

اقتباس

فعلى العاقل اللبيب أن يستغل وقتَه فيما يعود عليه بالنفع، قبل أن يهجم عليه ما يشغله، فاحرص على التبكير إلى الصلاة، واحرص على فراغك من أشغال الدنيا، واعمُر وقتَكَ بطاعة الله، فكم من مريض يتمنَّى عافيتَكَ ليملأ وقتَه بالطاعة...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد فيا أيها المؤمنون: إن فراغ الإنسان من الأعمال الروتينية التي تقضي على الوقت من أعظم النِّعَم التي يَمُنّ اللهُ بها على عباده، ولذا كان لزاما على العبد أن يهتم بأمر هذا الفراغ، فلا يصرفه إلا في مرضاة الله -تعالى-.

 

عباد الله: ونحن في هذه الإجازة يسيطر على الناس همُّ ملء الفراغ الذي يحيط بهم، وكثير من الناس يملأ وقتَه بما لا فائدة فيه، فهو في ظاهرة ترويح عن الجسد دون الروح؛ لذا تجد الناس مهما سافروا، ومهما حاولوا إسعاد أنفسهم، تجدهم يسيطر عليهم المللُ والاكتئابُ؛ لأنهم يُسعدون أجسادَهم وينسون أرواحَهم التي هي بحاجة ماسَّة للإسعاد، ولا يمكن إسعاد الروح بغير طاعة الله؛ فالله الذي خلق الروح، جعل سبيلا واحدا لإسعادها، وهو طاعته لا غير، والسعادة هي الحياة الطيبة، كما قال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النَّحْلِ: 97].

 

أيها المؤمنون: إن نعمة الفراغ نعمة عظيمة سيُسأل عنها العبد يومَ القيامةِ فيمَ قضاها، كما (أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي برزة) قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدَمَا عبدٍ حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه".

 

فهذه النعم هبات ربانية، مثل الودائع، وسنُسأل عنها يوم القيامة جميعا.

 

عباد الله: لقد بيَّن اللهُ -سبحانه- لنا كيف نفعل في فراغنا فقال سبحانه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشَّرْحِ: 7-8].

 

أَيْ: عند فراغكَ من أشغالك انصب في طاعة الله، وارغب فيما عنده من الثواب في الدنيا والآخرة، فهي خير مُعِين على الراحة.

 

معاشر المؤمنين: إن الملاحَظ في حياتنا، أننا في وقت الفراغ يهجم علينا الكسلُ، المثبِّط عن العمل النافع، فانظر إلى الناس في المساجد مثلا، لا يحضرون إلا بعد الإقامة، في كثير من المساجد تُقام الصلاةُ ولا يوجد بها إلا نفرٌ يسيرٌ، وما إن يسلِّم الإمامُ إلا وقد اكتملت الصفوف، أين أنتم قبل الإقامة؟ ما الذي شغلكم عن طاعة ربكم ومولاكم؟ إنه الكسل لا غير إلا من رحم الله، والواجب على العبد أن يكون فراغه طريقا لمرضاة ربه، كما كان سلف الأمة؛ لَمَّا عَلِمُوا قيمةَ الوقت بَادَرُوا أعمارَهم قبل نفادها.

 

قال الوزير يحيى بن هبيرة: (ذيل طبقات الحنابلة 1/182):

 

والوقت أَنْفَسُ ما عُنِيتَ بحفظه *** وأراه أسهلَ ما عليكَ يضيعُ

 

ذكر السمعاني في كتابه "أدب الإملاء والاستملاء" عن بعض المحدِّثين: "وهذا المثال يدل على أنه لا يصرف شيئا من وقته إلا في الطلب أو الذِّكر من استغفار أو تسبيح أو تهليل، فقديما كانت حلقات العلم يحضرها الجمع الغفير من الناس، فقد ورد أن مجلس محمد بن إسماعيل كان يحضره عشرون ألفا".

 

الشاهد من هذا الأثر أن السمعاني ذكر أن المحدث كان إذا قال: حدثنا وكيع، ثم بدأ المستمعون ينقلون هذه الكلمةَ، كان المحدث في هذه اللحظة لا يضيع وقته، بل يستغفر الله ويسبح الله حتى ترجع عليه الكرّة مرة أخرى.

 

فانظر إلى هذه الثواني التي أَبَى أن يفرِّط فيها، ثم انظر كيف تذهب علينا أيامٌ وساعاتٌ كثيرةٌ لا نشعر بها.

 

ويقول بعضهم عن عبد الله بن الإمام أحمد: "والله ما رأيتُه إلا مبتسمًا أو قارئًا أو مطالعًا"، ويقول غيره عن الخطيب البغدادي: "ما رأيت الخطيب إلا وفي يده كتاب يطالعه".

 

فهؤلاء القوم لا تذهب أوقاتهم إلا وقد مُلِئت بالمفيد النافع في الدارين، وأما نحن فلسانُ حالِ الكثيرينَ كما قال الشاعر:

 

تمر بنا الأيام تترى وإنما *** نُساق إلى الآجال والعين تنظرُ

فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى *** ولا زائل هذا المَشِيبُ المكدِّرُ

 

اللهم أصلح أحوالنا، واملأ أوقاتنا بطاعتك...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: إن الفراغ نعمة عظيمة، فيجب استغلاله بما أوجب الله، قبل أن يُسْلَب الوقتُ منا بضد الفراغ، (أخرج البيهقي وغيره من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما)، قال صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل شغلك".

 

وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "يا بن آدم، إنما أنتَ أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك" (حلية الأولياء للأصفهاني 148/2).

 

ويقول أيضا: "ما يوم ينشقُّ فجرُه إلا وينادي: "يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فتزوَّد مني فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة" (الحلية 147/2).

 

واعلم أن الأوقات أقسام كما ذكر ذلك الخليل بن أحمد: "الوقت على ثلاثة أقسام: وقت مضى عنك فلن يعود، ووقت أنت فيه فانظر كيف يخرج عنكَ، ووقتٌ أنتَ منتظرُه وقد لا تبلغ إليه" (طبقات الحنابلة 288/1).

 

إن هذه الأوقات التي تمر علينا نعلم من سنة الله أنها لا تعود، وبكل حال، فلو اجتمعت الإنس والجن والملائكة -وكان بعضهم لبعض ظهيرا– ما استطاعوا أن يردوا ثانية ذهبت من أعمارنا، إن الأوقات التي نضيعها إذا قارنّاها بالأوقات المستغَلَّة رأينا في أنفسنا تفريطًا بليغًا.

 

وإذا قرأ الواحد منا حرص السلف -رحمة الله عليهم- ومدى استغلال أوقاتهم، فإن الإنسان يعجز عن وصف حاله لتفريطه وتقصيره.

 

وذكر الذهبي عندما ترجم لعبد الوهاب بن عبد الوهاب بن الأمين: "أن أوقاته كانت محفوظة، فلا تمضي له ساعة إلا في قراءة أو ذِكْر أو تهجُّد أو تسميع". (معرفة القراء الكبار 465/2).

 

ومحمد بن عبد الباقي يقول: "ما أعلم أني ضيعتُ ساعةً من عمري في لهو أو لعب" (سِيَر أعلام النبلاء 26/20).

 

ومن الآثار العجيبة التي تبيِّن مدى حرصهم على استغلال أوقاتهم ما ذكره الذهبي في كتابه: "السير" عن داود أبي هند -رحمه الله- أنه كان يقول: "كنتُ -وأنا غلام- أختلف إلى السوق، فإذا انقلبتُ إلى البيت جعلتُ على نفسي أن أذكر الله إلى مكان كذا وكذا، فإذا بلغتُ إلى ذلك المكان جعلتُ على نفسي أن أذكر الله كذا وكذا… حتى آتي المنزل" (السِّيَر: 378/6).

 

وقصده أن يستغل وقته في هذه اللحظات التي ستمر من عمره.

 

وكل منا -إلا من رحم الله- إذا رأى أوقاتَه التي يُهدرها ولا تعود إليه بالنفع، ثم رأى الأوقات التي استغلها فإنه يرى تطفيفًا في الكيل؛ إِذْ أغلبُ الأوقات ضاع فيما لا فائدةَ فيه.

 

فعلى العاقل اللبيب أن يستغل وقتَه فيما يعود عليه بالنفع، قبل أن يهجم عليه ما يشغله، فاحرص على التبكير إلى الصلاة، واحرص على فراغك من أشغال الدنيا، واعمُر وقتَكَ بطاعة الله، فكم من مريض يتمنَّى عافيتَكَ ليملأ وقته بالطاعة، وهكذا...

 

اللهم أَعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...

 

المرفقات

فإذا فرغت فأنصب وإلى ربك فارغب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات