اقتباس
فهذا رجل ما إن سلَّم الإمام من الصلاة حتى انطلق صائحًا بل صارخًا في وجوه الأطفال: "أخزاكم الله، لقد أخرجتموني من صلاتي!"، وهذا آخر لم يصبر حتى يُسَلِّم الإمام بل قطع صلاته وراح يدفع الأطفال بكلتا يديه طاردًا إياهم من المسجد! أما هذا فقام على صف من الأطفال يلطم هذا ويركل ذاك حتى هربوا منه إلى الشارع!...
إني لأعتبرها ظاهرة خطيرة مقلقة؛ ذلك أنك ترى في كل مسجد مجموعة من الأطفال ساقهم الله -عز وجل- واصطفاهم لينشئوا ويترعرعوا ويشبوا في رحاب المسجد وفي أحضان رواده من الأطهار والأبرار، إذا رآهم المرء انشرح صدره وهم يسبقونه إلى الصف الأول ويبكرون إلى صلاة الفجر في همة وإقبال... لكن ما إن تمر سنوات قليلة ويصل الواحد فيهم إلى سن المراهقة فالشباب إلا وينقطع عن المسجد ولا يأتيه إلا يوم الجمعة فقط! أو ربما ينتكس بالكلية فيترك الصلاة ويلتحق بصحبة سوء تورده الموارد!
وأتساءل: أين كان خطيب المسجد من هؤلاء؟! لماذا لم يحتويهم ويحاول حمايتهم من التهاوي والانزلاق؟! لقد أتوا إليه في مسجده غنيمة باردة بلا تعب ولا مجهود، فكيف فرَّط فيهم؟! كيف لم يعلِّقهم بالمسجد؟ كيف لم يصاحبهم ويتزاور معهم؟!
أعلم أن لهذه الظاهرة أسبابًا كثيرة، وأن خطيب المسجد ليس هو المسئول وحده.. لكن دعني أؤكد لك أن الأب إذا أتى بولده وأدخله إلى المسجد، فقد صارت المسئولية الأولى عن هذا الطفل في عنق إمام المسجد وخطيبه، مهما زعم غير ذلك.
فلكَم رأينا أطفالًا يطردون من بيوت الله ويُدفعون خارجها، مع أنه لا يُطرد طفل من مقهى أو نادٍ طالما امتلك المال.. ورأينا أطفالًا مميزين يؤخَّرون عن الصفوف الأولى -وقد سبقوا إليها- بغير جريرة غير أنهم أطفال.. وبلغني أن هناك مساجد يَمنع أهلُها دخول الأطفال إليها من الأساس.. ومن المسئول عن حدوث ذلك كله إلا خطيب المسجد.
وأخشى أن يموت عامروا هذه المساجد فتصير بعد موتهم فارغة خاوية على عروشها؛ لأنهم طردوا منها الأطفال صغارًا ولم يُعوِّدوهم إتيانها! وأخشى أن ينشأ جيل بعيد عن المساجد غريب عنها، فتعود المساجد لا يُرى فيها إلا المسن والكسيح والمنتفع! ثم يُهجر الدين وتعاليمه ويصير غريبًا على المسلمين!
لذا فإنني أحاول هنا -بعد أن حمَّلتُ المسئولية لإمام المسجد وخطيبه- أن أساعده بهذه الاستراتيجية؛ "استراتيجية التعامل مع أطفال المساجد"، لعلها تقدم له بعض المعونة في مهمته بالغة الأهمية، وهذي بعض بنودها:
البند الأول: حث الآباء على اصطحاب الأبناء إلى المسجد:
وتلك الخطوة الأولى؛ أن يأتي الطفل إلى المسجد، لأننا لا نملك أن نذهب إلى بيته فنأتي به! فبداية نُحَمِّل الوالد المسئولية عن ولده: "كلكم راع ومسئول عن رعيته... والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته"([1]).
وثانيًا: نمنيه بأجر الصدقة الجارية: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"([2])، وحري بمن نشأ في المساجد أن يكون صالحًا.
وثالثًا: نحذِّره من عقوق ولده له إن لم يُعَوِّده طريق المساجد، فإنه سيسلك طريق المسارح والسنيمات، فنجعل في يقينه أن صلاة ولده في المسجد والتردد عليه عصمة له من الضياع في أودية الانحراف، وعون له على الترقي في مراتب الفلاح.
لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
على أننا لا نحبذ الإتيان بالطفل إلى المسجد إلا إذا عقل وانضبط وأطاع التوجيه، وذلك لا يحصل غالبًا إلا في سن الخامسة فما فوقها، وأما قبلها فالغالب على الطفل اللهو والعبث وعدم فهم التوجيهات أو الالتزام بها.
البند الثاني: تحبيب الأطفال في المسجد وتعليقهم به:
وكيف -إخواني الخطباء- نصنع ذلك؟ نجيب:
أولًا: بالمعاملة الطيبة، بالرفق واللين، بالتبسم والبشاشة.. ولا تنسوا كيف أثَّر ذلك في جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- حتى ذكره قائلًا: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي"([3]).
وثانيًا: بعقد النشاطات المحببة إليهم داخل المسجد: وإشعارهم باهتمامنا بما به يهتمون، تمامًا كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أم المؤمنين عائشة التي تروي قائلة: "والله لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم، في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسترني بردائه، لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أنصرف"([4])، فها هو -صلى الله عليه وسلم- يسمح للحبش باللعب داخل المسجد، وييسر لعائشة -رضي الله عنها- مشاهدتهم.
فلا حرج ولا ضير -أخي الخطيب- إن عقدت لأطفال المسجد مسابقة في الركض أو المصارعة إن لم يضر ذلك بمقتنيات المسجد، أو عقدت منافسة بينهم في ترتيل القرآن أو الإنشاد.. أو أقمت مسابقة ثقافية بعد أن تقسِّمهم إلى عدة فرق فإنهم يحبون ذلك.
وثالثًا: بتقديم الهدايا والجوائز والمكافآت: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تهادوا تحابوا"([5])، وقد تكون الهدية بلا سبب، وقد ترصد لمن يدرك الصف الأول، أو يصلي الفجر في جماعة، أو لمن يتعلم الأذان ويحفظ القرآن...
وحبذا لو كان الجميع في هذه النشاطات التي أشرنا إليها فائزًا بجائزة ومكافأة؛ فمثلًا يكون للفائز الأول "درَّاجة"، وللثاني "هاتف محمول"، وللثالث "دمية بندقية"، ثم للباقين لكل واحد "كرة"، فيخرج الجميع راضين مكافئين مسرورين.
ورابعًا: بإبلاغه بحبك له: كما صنع -صلى الله عليه وسلم- مع معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الذي يحكي قائلًا: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي يومًا فقال: "يا معاذ، والله إني أحبك"، فقال له معاذ: بأبي وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك...([6]).
وخامسًا: بإشعاره بقيمته: ولذلك وسائل كثيرة، منها: إلقاء السلام عليه، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أنه مر على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله"([7]).
ومنها: استشارته وأخذ رأيه وتكليفه بالمهمات: وها هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يأتمن صبيًا على سره، فيكون الصبي أهلًا لذلك؛ فلا يفشيه حتى لأمه، إنه أنس بن مالك الذي يقول: "أسر إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- سرًا، فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به"([8])، وأم سليم هي أمه.
ومنها: اختصاصه بالموعظة والتعليم: كما صنع -صلى الله عليه وسلم- مع ابن عباس -رضي الله عنهما-، فقد أردفه خلفه ثم اختصه قائلًا: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"([9]).
فإن فعلت هذا -أخي الخطيب- تعلقوا بالمسجد وبك، واعتبروا المسجد بيتًا لهم.
البند الثالث: صد "تنمر" الكبار ضد الصغار:
تعمدت أن أبالغ في هذا العنوان فأقول: "تنمر"، لأنني لا أجد كلمة أدق لأصف بها ما يفعله بعض رواد المساجد مع الأطفال؛ فهذا رجل ما إن سلَّم الإمام من الصلاة حتى انطلق صائحًا بل صارخًا في وجوه الأطفال: "أخزاكم الله، لقد أخرجتموني من صلاتي!"، وهذا آخر لم يصبر حتى يُسَلِّم الإمام بل قطع صلاته وراح يدفع الأطفال بكلتا يديه طاردًا إياهم من المسجد! أما هذا فقام على صف من الأطفال يلطم هذا ويركل ذاك حتى هربوا منه إلى الشارع! أما هذا فهو يستبق الأمر فلا يُدخلهم إلى المسجد أصلًا؛ فيضع كرسيه عند باب المسجد لينهر كل طفل يحاول الدخول، بل ربما مدَّ يده وهو يصلي ليمسك بطفل يريد الدخول فيطرحه خارجًا!...
ونقول: طبيعي أن يصدر من الأطفال بعض الهفوات لأنهم أطفال، فهم في حاجة للتعليم والتأديب والصبر على ذلك، لكن بعض الشيوخ يبالغون في رد فعلهم على هفوات الصغار فيفتعلون ضوضاء وتشويشًا أعظم من الذي يُسَبِّبه الصبيان!
فيا أخي الخطيب: رُدَّ تنمر الكبار على الأطفال؛ وذلك بزرع الشفقة في قلوبهم على الأطفال قائلًا: فلذات أكبادكم وأبناؤكم وأبناء جيرانكم، فإن طردتموهم فإلى أين يذهبون؟ هل إلى الملاهي يتعلمون الضياع والتفاهة!
ثم رغِّبهم في الأجر فقل: إنك إن علَّمتَ طفلًا الفاتحة كتب الله لك أجرها كلما قرأها ذلك الطفل، وإن علَّمته الصلاة صارت كل صلاة له طوال عمره في ميزان حسناتك.
ثم خوِّفهم من الوزر قائلًا: كيف تمنع من قصد بيت الله ولو كان طفلًا! المسجد ليس ملكك حتى تمنع منه من أتاه! ثم استطرد تاليًا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)[البقرة: 114].
لكن عليك -أخي الخطيب- مع ذلك أن تحث من يأتي بطفله إلى المسجد أن يُعلِّمه ويؤدبه بآداب المسجد قدر المستطاع، حتى تقل زلات الأطفال وأخطاؤهم داخل المسجد، مع أنها لن تنتهي لأنهم أطفال، فنظل نوجههم برفق حتى يستقيم حالهم.
يتبع إن شاء الله.
[1])) البخاري (2409)، ومسلم (1829).
[2])) مسلم (1631).
[3])) البخاري (3035)، ومسلم (2475).
[4])) البخاري (454)، ومسلم (892).
[5])) البخاري في الأدب المفرد (594)، والبيهقي في الشعب (8568)، وحسنه الألباني (صحيح الأدب المفرد).
[6])) النسائي في الكبرى (1227)، والبزار في مسنده واللفظ له (2661)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد: 534/690).
[7])) البخاري (6247)، ومسلم (2168).
[8])) البخاري (6289)، ومسلم (2482).
[9])) الترمذي (2516)، والحاكم (6303)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7957 - 3051).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم