عناصر الخطبة
1/قصة أصحاب الأخدود ومشاهدها البالغة 2/دروس وعبر من قصة أصحاب لأخدود.اقتباس
تَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الشَّبَابُ- فِي قِصَّةِ هَذَا الْغُلَامِ، وَكَيْفَ سَجَّلَ تَضْحِيَةً مِنْ أَعْظَمِ التَّضْحِيَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا التَّارِيخُ؛ فَقَدَّمَ نَفْسَهُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَحَتَّى يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَمُوتُ كَمَا يَمُوتُ الشُّهَدَاءُ؛ فَلَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ الطَّعْنَةِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا مِنَ الْقَرْصَةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: حَدِيثُنَا إِلَيْكُمْ عَنْ مَرْحَلَةٍ عُمْرِيَّةٍ بَالِغَةِ الْأَهَمِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَالنَّجَاحِ أَوِ الْفَشَلِ، وَالْإِنْجَازِ أَوِ الْقُعُودِ، وَالنُّضُوجِ وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَسُمُوِّ الِاهْتِمَامَاتِ، أَوِ الْهَشَاشَةِ وَضَحَالَةِ الْفِكْرِ وَالْعَيْشِ فِي الْحَضِيضِ؛ أَلَا وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ الَّتِي هِيَ مَرْحَلَةُ التَّكَوُّنِ وَالتَّكْوِينِ، وَمَرْحَلَةُ بِدَايَةِ النُّضْجِ، وَمَرْحَلَةٌ تَتَّسِمُ بِالتَّجَدُّدِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالتَّرَقِّي فِي مَعَارِجِ الصُّعُودِ نَحْوَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الرَّشِيدِ.
وَلَعَلَّ مُتَسَائِلًا يَقُولُ: أَيْنَ يَكْمُنُ الْخَطَرُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ؟ وَلِمَاذَا الْقَلَقُ مِنْ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنْ فَتَرَاتِ الْعُمْرِ الْمُتَنَوِّعَةِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْخَطَرَ يَكْمُنُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْحَلَةَ هِيَ مَرْحَلَةٌ انْتِقَالِيَّةٌ، يَنْتَقِلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ مِنَ الطُّفُولَةِ إِلَى الرُّشْدِ، فَيَنْمُو جِسْمُهُ، وَيَنْمُو عَقْلُهُ، وَيَنْمُو فِكْرُهُ، وَتَبْدَأُ قَنَاعَاتُهُ فِي التَّشَكُّلِ، وَهُنَا يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ إِلَى صِرَاعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، دَاخِلِيَّةٍ وَخَارِجِيَّةٍ، وَقَلَقٍ عَلَى عِدَّةِ مُسْتَوَيَاتٍ، فَهِيَ مَرْحَلَةٌ قَلِقَةٌ، مُتَذَبْذِبَةٌ وَغَيْرُ ثَابِتَةٍ.
بَيْدَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَلَجَ هَذِهِ الْمَرْحَلَةَ عَاشَ هَذَا التَّذَبْذُبَ وَالْقَلَقَ، بَلْ هُنَاكَ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ سِمَاتُ الرُّجُولَةِ، وَاتَّصَفَ بِصِفَاتِ الرُّشْدِ، فَكَانَ نَفْعًا لِأُمَّتِهِ وَدِينِهِ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ؛ وَلَقَدْ حَكَتْ لَنَا آيُ الْقُرْآنِ، وَرَوَتْ لَنَا أَحَادِيثُ السُّنَّةِ قِصَصًا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُرَاهِقِينَ الرِّجَالِ، الَّذِينَ حَمَلُوا رَايَاتِ الْهُدَى، وَرَفَعُوا مَشَاعِلَ النُّورِ، وَتَمَسَّكُوا بِبُنُودِ الْخَيْرِ، ثَابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ، مُتَمَسِّكِينَ بِعَقِيدَتِهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهَا، وَلَا يُثْنِيهِمْ مَا لَاقَوْهُ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَانُوا مَعَالِمَ هُدًى، وَمَصَابِيحَ خَيْرٍ.
وَمِنْ أَعْظَمِ قِصَصِ الْمُرَاهِقِينَ الَّذِينَ خَلَّدَتْهُمْ آيَاتُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَسُنَّةُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -عَلَيْهِ أَطْيَبُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ- غُلَامُ الْأُخْدُودِ، وَالَّذِي جَاءَتْ قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ مُجْمَلَةً، وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَامِلَةً مُفَصَّلَةً؛ وَقَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ فِي بَيَانِ الْقِصَّةِ وَالْخَبَرِ، وَنَسْتَلْهِمَ مِنْهَا الْعِظَّةَ وَالْعِبَرَ، اسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَهُوَ يَحْكِي عَنْ قِصَّتِهِ فَيَقُولُ: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[الْبُرُوجِ:1-9].
إِذَنْ فَبِدَايَةُ الِابْتِلَاءِ، وَأَوَّلُ اللَّأْوَاءِ، هُوَ إِيمَانُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الْإِيمَانُ الَّذِي غَيَّرَ مَجْرَى حَيَاةِ أُمَّةٍ، فَأَحْيَاهَا بَعْدَ أَنْ رَزَحَتْ فِي عُبُودِيَّةِ بَلْ وَرُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ رَدْحًا مِنَ الزَّمَانِ، وَاسْمَعُوا -أَيُّهَا الْكِرَامُ- إِلَى تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَرْوِيهَا سَيِّدُ الْأَنَامِ -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ-؛ فَعَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ، فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّاهِبَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ، مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْغُلَامِ: إِنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ مَرَّ عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، أَمْ أَمْرُ السَّاحِرِ، فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ -وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ- فَسَمِعَ بِهِ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ، دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ فَأَتَى الْمَلِكَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ، مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا، لَكِنْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ؟ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ.
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ (السَّفِينَةِ الْعَظِيمَةِ)، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ -وَاللَّهِ- نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ (الطُّرُقِ) فَخُدَّتِ (حُفِرَتْ)، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُودِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا تُرْضِعُهُ فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: "يَا أُمَّاهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ"(صَحِيحُ مُسْلِمٍ).
إِنَّهُ الْإِيمَانُ حِينَمَا تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَتَذُوقُ حَلَاوَتَهُ الْأَفْئِدَةُ، وَتَتَشَرَّبُ لَذَّتَهُ الْأَرْوَاحُ، حِينَهَا تَضْيِعُ الْمَقَايِيسُ الْمَادِّيَّةُ، وَتَتَلَاشَى الْفَوَارِقُ الْعُمْرِيَّةُ، فَلَا يُفَرَّقُ عُمْرٌ عَنْ عُمْرٍ، وَلَا جِنْسٌ عَنْ جِنْسٍ، فَإِذَا الْمُرَاهِقُ الْحَدَثُ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى رَجُلٍ شُجَاعٍ قَوِيٍّ، لَا يُفَرِّطُ فِي دِينِهِ وَلَوْ وَضَعُوا الْمَنَاشِيرَ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَمَشَطُوهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ -يَقِينًا- أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَأَنَّهَا سَاعَاتٌ مَعْدُودَةٌ سُرْعَانَ مَا تَنْتَهِي، وَأَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَيَجْبُرُ كَسْرَهُ، وَيُعْلِي أَمْرَهُ مَعَ أَوَّلِ غَمْسَةٍ فِي الْجِنَانِ، عِنْدَمَا يَحُطُّ رَحْلَهُ فِي جَنَّةِ الرَّحْمَنِ.
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ:281].
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: إِنَّ فِي قِصَّةِ غُلَامِ الْأُخْدُودِ لَعِبَرًا، وَإِنَّ فِي تَفَاصِيلِهَا الْعَظِيمَةِ نَفَائِسَ وَدُرَرًا، فَهَلُمَّ بِنَا نَسْتَلْهِمْ مِنْهَا الْعِبَرَ وَالدُّرُوسَ، وَنُحَيِي بِعِظَاتِهَا النُّفُوسَ؛ فَمِنْ دُرُوسِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَظِيمَةِ:
أَهَمِّيَّةُ غَرْسِ الْعَقِيدَةِ فِي نُفُوسِ الصِّغَارِ، وَتَقْوِيَتِهَا فِي قُلُوبِ النَّشْءِ، فَفِي الْقِصَّةِ يَقُولُ السَّاحِرُ لِلْمَلِكِ: "فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا"؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ أَسْرَعُ فِي التَّعْلِيمِ، فَإِذَا غُرِسَتْ فِيهِ الْمَبَادِئُ، وَرُبِّيَ عَلَى الْقِيَمِ، وَعُلِّمَ الْأَخْلَاقَ، فَإِنَّهُ سَوْفَ يَكُونُ حَاذِقًا فَاهِمًا، مُتَمَسِّكًا بِهَا، حَرِيصًا عَلَى نَشْرِهَا، وَهَذَا يُنْبِئُنَا بِمَدَى خُطُورَةِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَعِظَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ، يَقُولُ الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِنَّ الْفَجَّ الْيَوْمَ هُوَ النَّاضِجُ غَدًا".
وَمِنَ الدُّرُوسِ: أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَالِانْتِصَارَ دَائِمًا فِي النِّهَايَةِ لِلْمُوَحِّدِينَ، حَتَّى وَإِنِ انْتَهَتْ حَيَاتُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ وَالتَّشْرِيدِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ انْتِصَارًا لِلْعَقِيدَةِ، وَحَيَاةً لِلْفِكْرَةِ، وَدَيْمُومَةً لِلْحَقِّ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ: أَنَّ الزَّارِعَ قَدْ لَا يَرَى مَا زَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا؛ لَكِنَّهُ حَتْمًا سَيَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ؛ كَزَرْعِ غُلَامِ الْأُخْدُودِ؛ حَيْثُ وَضَعَ بَذْرَهُ وَسَكَبَ دَمَهُ وَأَرْخَصَ رُوحَهُ لِأَجْلِهِ، وَرَحَلَ إِلَى رَبِّهِ.
فَتَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الشَّبَابُ- فِي قِصَّةِ هَذَا الْغُلَامِ، وَكَيْفَ سَجَّلَ تَضْحِيَةً مِنْ أَعْظَمِ التَّضْحِيَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا التَّارِيخُ؛ فَقَدَّمَ نَفْسَهُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَحَتَّى يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَمُوتُ كَمَا يَمُوتُ الشُّهَدَاءُ؛ فَلَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ الطَّعْنَةِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا مِنَ الْقَرْصَةِ، وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ الْكِرَامُ: إِنَّ مَثَلَ هَذَا الْجِيلِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ كَمَثَلِ الْمَزْرَعَةِ؛ فَأَحْسِنُوا الرِّعَايَةَ، وَتَعَهَّدُوا الزَّرْعَ، وَاغْرِسُوا الْفَسَائِلَ، وَعَلَى اللَّهِ النَّتِيجَةُ، وَإِلَيْهِ الْمَوْئِلُ وَالْقَرَارُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم