غزوة مؤتة .. أحداث وعبر

ناصر بن محمد الغامدي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/حاجتنا إلى العودة إلى السيرة 2/ سبب غزوة مؤتة 3/ وصية النبي للجيش ووداعه لهم 4/ عدد الجيشين والفرق العظيم 5/ استشهاد القواد الثلاثة 6/ الراية عند خالد بن الوليد 7/ الانسحاب الموفق لخالد 8/إخبار النبي عن الغزوة وهو بالمدينة 9/ حال المسلمين المستضعفين في هذا الزمان.
اهداف الخطبة
أخذ العظة والعبرة من أحداث غزوة مؤتة / بيان حال المسلمين المستضعفين اليوم.
عنوان فرعي أول
جيش كالمعجزات
عنوان فرعي ثاني
معركة لأجل قتل مسلم
عنوان فرعي ثالث
سيف الله المسلول

اقتباس

معركة عجيبة غريبة في دنيا الواقع، تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة؛ حيث يقف ثلاثة آلاف مسلم أمام مائتي ألف من الروم وأحلافهم يتقاتلون!! تستغربها موازين البشر، وتعجز عن إدراكها عقولهم وأفئدتهم!
ولكن لا عجب! فإذا كان الله عز شأنه مالك الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم؟! وممن يخافون والناصر هو الله؟!

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغُرِّ المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله سبحانه وتعالى حق التقوى، راقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم ملاقوه، فاستعدوا للقائه بالأعمال الصالحة المنجية من عذابه وسخطه، والموجبة لرحمته وغفرانه.

أيها المسلمون:
تشرف الأمم بقراءة سيرة روادها، وتولع الشعوب بالنظر في عِبَرِ زعمائها، وتنهال الأجيال على الاقتداء بأبطالها، وهؤلاء الزعماء والقادة والرواد يختلفون ويتفاوتون في زعامتهم وقيادتهم.

وعندنا نحن المسلمين قائد لا كالقادة، وزعيم لا كالزعماء، ورجل لا كالرجال، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأنقذ به العالمين من الضلال، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، خفقت بعظمته الدنيا بأسرها، وشهدت بريادته الأجيال كلها، وخضعت لزعامته الصفوف، واجتمعت على حبّه القلوب.

ذلكم –يا عباد الله- هو محمد بن عبد الله النبي المجتبى، والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وكم تحتاج الأمة وهي تعيش أزماتها القاسية، وتتقلب في محنها الشديدة أن تعود إلى سيرته صلى الله عليه وسلم؛ لتستفيد منها في جهادها، ودعوتها، وصبرها، وثباتها. نعم يا عباد الله! كم تحتاج الأمة المسلمة اليوم وهي تعصف بها الأحداث العظام، وتقاذفها الخطوب الجسام أن تتذكر حياة الرعيل الأول؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وحزبه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. فهم القدوة والأسوة؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21] (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].

عباد الله:

واليوم نتذكر جانباً من جوانب سيرته صلى الله عليه وسلم، ونقلب صفحة من صفحات جهاده وصبره، وبلائه وتضحيته، مع صحبه الكرام –رضوان الله تعالى عليهم- في سبيل نشر الإسلام، والدعوة إلى الله. نعيش اليوم معهم في عزوة مؤتة؛ التي وقعت في العام الثامن من الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنور على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحية.

أيها المسلمون:

بعد صُلْحِ الحديبية تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته؛ فبعث الرسل إلى الملوك والولاة في شمال الجزيرة وغربها، وجنوبها وشرقها، يدعوهم إلى الإسلام لله رب العالمين لا شريك له، وترك العباد الذين تحت أيديهم ليسلموا لله، ويتبعوا رسوله، ويخرجوا من الظلمات إلى النور.
وكان من بين هؤلاء الرسل: الحارث بن عُمَيْرٍ الأزدي –رضي الله عنه- الذي بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى هرقل الروم بالشام، وخرج الحارث بالرسالة، فلما نزلَ مؤتة في شمال الجزيرة العربية عرض له عاملُ قيصر على الشمال؛ شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه ليموت شهيداً –رضي الله عنه وأرضاه-.

ويروى أنه تهدد المسلمين في المدينة بأن يرسل إليهم جيشاً عظيماً لا طاقة لهم به، يؤدبهم ويعرفهم سوء صنيعهم –على حد زعمه-؛ حتى يعلموا أن لا طاقة لهم بحرب الروم؛ القوة العظمى في ذلك الزمان.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابه همَّ عظيم لقتل رسوله، إذْ كان الحارث –رضي الله عنه- الرسول الوحيد من بين رسله الذي تعرض للقتل والأذى، وكانت الرسل لا تُقتل.

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجمع المسلمين، وأخبرهم الخبر، ثم جهز جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة؛ انتصاراً لهذا الصحابي الجليل الذي قُتل؛ لأنّ دم المسلم في الإسلام نفيسٌ.

ولما تجهز الجيش ، وعزم على الرحيل قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقد لهم لواءاً أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وأمره عليهم -كما روى البخاري في المغازي-، ثم قال: "إن أصيبَ زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس"، وأوصاهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هنالك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله سبحانه وتعالى وقاتلوهم. ثم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا امرأةً، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناء". رواه الترمذي ومالك في الموطأ.

وهذه من أبرز تعاليم الحروب في الإسلام؛ فإن القتال في الإسلام إنما شُرع لنصرة المستضعفين، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، لا إلى التخريب والاعتداء.

ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس يودعون أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، ويُسلموا عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-، فقالوا: ما يُبكيك يا ابن رواحة؟ قال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صابةٌ بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله تعالى، يذكر فيها النار، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) [مريم:71 ]، فلست أدري والله كيف لي بالصدر بعد الورود.

ثم قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفــرةً وضربةَ ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران معجـزةً بحربة تُنْفِذُ الأحشاء والكبـدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشده الله من غازٍ وقد رشدا

وخرج الجيش من المدينة، قيل في جمادى الأولى، وقيل في الثانية، وقيل غير ذلك. وخرج معهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه –رضي الله عنهم-؛ مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، ثم ودعهم والدموع تفيض من عينيه صلوات الله وسلامه عليه،ومن عيون أمرائه الثلاثة –رضي الله عنهم وأرضاهم-. كان آخر من ودعه عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-؛ ودعه مجهشاً بالبكاء، وهو يقول:
فثبت الله ما آتاك من حسنٍ تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصِروا
إني تفرست فيك الخير أعرفه والله يعلم أن ما خانني البصـر
أنت النبي ومن يُحرم شفاعته والوجه منك، فقد أزرى به القدر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة". قال هشام ابن عروة –رحمه الله-: "فثبته الله عزّ وجلّ أحسن الثبات، فقتل شهيداً، وفتحت له الجنة فدخلها".

وتحرك الجيش الإسلامي إلى الشمال حتى نزل مُعَانَ من أرض الشام، فبلغتهم الأخبار بأنّ هرقل ملك الروم قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم من نصارى العرب: لخم وجُذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف أخرى، يقودهم مالك بن زالفة النصراني. فلما علموا بذلك أصابهم من الغم والحزن ما الله به عليم، ولكم أن تتصوروا الموقف! ثلاثة آلاف يقفون مقابل مائتي ألف من الروم وأعوانهم، أكبر قوةٍ على وجه الأرض آنذاك.

اجتمع المسلمون، وتشاوروا في أمرهم، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في الأمر، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونخبره بعدد عودنا، وما أعدوا لنا، فإما أن يُمددنا من عنده، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
فقال عبد الله بن رواحة يُشجع الناس، ثم قال: "أيها الناس! والله إنّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ يعني الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور،وإما شهادة".

فتشجع المسلمون ومضوا لقتال عدوهم في سبيل الله، حتى نزلوا مؤتة بأرض الشام، وكان الروم قد نزلوا قرية مجاورة لمؤته يقال لها مشارف. واقترب الفريقان، والتقى الجمعان، وبدأت المعركة، واعتصم المسلمون بالله والواحد الأحد؛ الذي يجيب دعوة المطر إذا دعاه، ويكشف السوء، وطلبوا المدد والنصر من القوي العزيز سبحانه الذي ينصر عباده المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:52].

معركة عجيبة غريبة في دنيا الواقع، تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة؛ حيث يقف ثلاثة آلاف مسلم أمام مائتي ألف من الروم وأحلافهم يتقاتلون!! تستغربها موازين البشر، وتعجز عن إدراكها عقولهم وأفئدتهم!
ولكن لا عجب! فإذا كان الله عز شأنه مالك الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم؟! وممن يخافون والناصر هو الله؟! (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:66].

أخذ الراية زيد بن حارثة أول الأمراء الثلاثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبُّه، فقاتل قتالاً مريراً، وقدَّمَ من ضُروب البسالة والشجاعة ما يعجز عنه الوصف، وبينما هو كذلك أصابه رمُحٌ من رماح الأعداء، فخر شهيداً، رضي الله عنه وأرضاه.

فتقدم جعفر بن أبي طالب، واستلم الراية، ودافع عنها كدفاع صاحبه، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارداً شرابهـا
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها

فلما اشتد القتال نزل جعفر – رضي الله عنه- عن فرس له شقراء فعقرها، ثم تقدم يقاتل، فقطعت يده اليمني، فاستلم الراية بيده اليسرى، فقطعت، فاحتضنها بعضديه؛ لئلا تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينهزم المسلمون. فلم يزل رافعاً لها حتى ضربه رومي ضربةً قطعته نصفين.

روى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال: "فالتمسنا جعفراً، فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعتاً وتسعين طعنة ورمية، وكانت كلها فيما أقبل من جسده".
وتلك شجاعة فذة، وبطولة نادرة، وإقدام لا يتكرر إلا قليلاً.

ثم تقدم الأمير الثالث عبد الله بن رواحة، فاستلم الراية، وكاد أن يرجع وتردد بعض التردد، ثم ارتجز بأبيات جميلة، وتقدم وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنــه طائعة أو لتكرهنـــه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه مالي أراك تكرهين الجنـه
قد طالما مُذْ كنتِ مُطمئنـه هل أنت إلا نفطة في شنه

ثم نزل للقتال، فأتاه ابن عم له بعظم من لحم، وقال: اشدد بهذا صلبك؛ فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه منه، وانتهس منه نهسةً، ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه، وقاتل حتى قتل –رضي الله عنه-.
ومات الأمراء الثلاثة، استشهدوا جميعاً. وارتبك الناس، واختلطوا، فتقدم ثابت بن أرقم العجلاني، وأخذ الراية، وقال: "يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجلٍ منكم". قالوا: أنت! قال: "ما أنا بفاعل"، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد –رضي الله عنه-، ولم يمضِ على إسلامه خمسة أشهر بعد، فقد أسلم بعد الحديبية، ولكنها الرجولة التي قال الله تعالى عنها: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].

وفي الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الناسُ معادنٌ كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" رواه البخاري.
استلم القيادة خالد بن الوليد، فنظم الجيش إلى ميمنةٍ وميسرة ومقدمة ومؤخرة، وهجم على الروم، فلما رأوا هذا المشهد في الجيش المسلم قذف الله في قلوبهم الرعب، وقالوا: قد جاء المسلمين مدد من المدينة، فاستطاع خالدٌ –رضي الله عنه- بهذه الخطة الحربية أن يُخلص الجيش المسلم من عدوه، وأن يُحقق النصر المعنوي العظيم للقلة المسلمة.

روى البخاري وغيره أنّ خالد بن الوليد –رضي الله عنه-: قال: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحةٌ يمانية".
وانتهت المعركة، وعاد المسلمون ينعمون، (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:5].

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة يُشاهد المعركة عن طريق الوحي الذي تنزل به جبريل –عليه السلام-، فجمع المسلمين، وأمر منادياًت يُنادي فيهم، فاجتمعوا ثم أخبرهم عن إخوانهم المجاهدين، فقال: "أخذ الراية زيدٌ فقال حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفرٌ فقاتل حتى قتل شهيداً"، ثم صمتَ صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوهُ الأنصار، وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، فقال: "ثم أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قُتل شهيداً". ثم قال: "لقد رُفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائمُ على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلتُ: بم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد بعض التردد، ثم مضى. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ يعني:خالد، حتى فتح الله عليهم". رواه أحمد.
وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان بالدموع يتفقد أُسر الشهداء الثلاثة.

تقول أسماء بنت عُميسٍ؛ زوج جعفر –رضي الله عنهما-: "أتاني رسول الله وقد فرغت من اشتغالي، وغسلتُ أولاد جعفر ودهنتهم، فأخذهم وشمهم واحتضنهم، ودموعه تسيل من عينيه، فقلتُ: يا رسول الله! أَبَلَغَك عن جعفرٍ شيءٌ؟ قال: "نعم! لَقَدْ أُصيبَ هذا اليوم". ثم عاد إلى أهله وقال: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم". رواه أحمد وغيره.

وعاد الجيش إلى المدينة، واستقبله الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام – رضوان الله عليهم-، يُحيونه على هذا الفتح العظيم ضد أكبر قوةٍ عرفها العالم آنذاك.

أيها المسلمون:
هذه بعض أخبار تلك الغزوة العظمى التي نصر الله عباده فيها نصراً مؤزراً، وارهبتِ الروم في شمال الجزيرة العربية، وقذفت الرُّعْبَ في قلوب الذين كفروا في جزيرة العرب، فصاروا يحسبون للمسلمين ألف حساب، وقدمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحالف معه، وزاد الداخلون في دين الله.

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم:1-5] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

  

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها الناس:

إنّ هذه الغزوة لتذكرنا بمآسي المسلمين المتكررة في هذه العصور المتأخرة؛ فقد قامت عزوة مؤته انتصاراً لمسلم واحد قتله الأعداء في سبيل الله؛ لأنّ دم المسلمين في الإسلام غالٍ ونفيس، بل إنّ زوال الدنيا بأسرها أهون على الله تعالى من قتل امرئ مسلم.

وهكذا كانت الغزوات في الإسلام انتصاراً للمسلمين، والمستضعفين، وما فتح عمورية عنا ببعيد؛ والتي قامت من أجل صرخة امرأة مسلمة اعتدى عليها عِلْجٌ كافرٌ، فصاحت: وامعتصماه ! فلمَّا بلغ الخبر المعتصم –الخليفة العباسي- أجابها بجيش عظيم أوله في عمورية وآخره عنده في العراق، فانتصر لها، ورد لها كرامتها، وفتح عمورية فتحاً عظيماً.

وفي زماننا هذا تتابع صيحات الثكالى، ونداءات اليتامى من المسلمين، الذين أثقلتهم المحن والفتن على أيدي المشركين، بالعشرات يوماً ولا مجيب ويبكي اليتامى والمستضعفون من المسلمين في كل مكانٍ ولا نصير ولكن لهم الله جلّ شأنه الذي نصرَ عباده في مؤتة وغيرها من الغزوات.

في كل يوم يجتمعُ أعداء الأمة عليهم في بلاد منكوبة، ووطنٍ سليب من أرض الإسلام، بهدف إبادتهم القضاء عليهم.
يقول أحدُ زعماء الأعداء: "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات، نحن فقط نخشى الإسلام! هذا المارد الذي نام طويلاً، وبدأ يتململ من جديد". ويقول آخر: "إنّ أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمدٌ جديد".

يقول ذلك بكل صلف ورُعُونَةٍ، وبكلِّ تبجُّحٍ وهمجية، والمسلمون مع الأسف الشديد غافلون، ينامون ملء جفونهم،ويضحكون ملء أفواههم، ويأكلون ملء بطونهم، دون أن تتحرك المشاعر لما يجري لإخوانهم في العقيدة في أنحاء المعمورة المنكوبة.

ومع كثرة المسلمين العددية إلا أنّهم كغثاء السيل؛ القلوب متنافرةٌ، والأفكار متباعدة، والنفوس متباغضة، وإن قاتل بعضهم فإنما يقاتلون عصبية لا يقاتلون حمية لدينهم، وغضباً له، ولقد قالها عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-: "ما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".

عباد الله:

صلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عزَّ من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه...

 

 

 

 

المرفقات

102

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات