عناصر الخطبة
1/أسباب غزوة تبوك 2/لماذا سميت بغزوة العسرة؟ 3/تسابق الصحابة في الإنفاق في سبيل الله 4/نتيجة غزوة تبوك 5/معاهدات نبوية في تبوك.اقتباس
وأما غزوة تبوك فلبعد الشقة وشدة الزمان؛ إذ كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال وأينعت الثمار، وحُبّب إلى الناس المقام، وكثرة العدو، والمسافة بعيدة والطريق وعرة صعبة. وكان لهذه العوامل أثرها في تثاقل بعض الناس عند النفرة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد فيا أيها الناس: الدعوة إلى الله -تعالى- هي نبراس النبوة، وهي منهاج نبينا -صلى الله عليه وسلم- منذ بعثته وحتى توفاه الله، ممتثلاً أمر الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل:125]؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- يرسل الرسل والبعوث يدعون إلى الإسلام، ومَن أبَى وعانَد شنَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرب، فانتشر الدين في أرجاء المعمورة، حتى شرق بالإسلام الرومان في شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام، فجمعوا الجموع لغزو النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليستأصلوه بزعمهم.
فلما سمع بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- أعدَّ العدَّة لغزوهم في ديارهم، وكان ذلك في رجب سنة تسع للهجرة، وهي غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجاء ذِكْرها في القرآن في سورة التوبة، وجاءت مروياتها في الصحيحين البخاري ومسلم والسنن والمسانيد، فنمرّ على مقتطفات منها، ونجني منها الفوائد -بإذن الله-:
فقد كانت هذه الغزوة في وقت حار جدًّا وقحط، وضيق شديد في النفقة والظهر والماء؛ ولذلك سميت بالعسرة. قال ابن إسحاق: أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب يعني من سنة تسع، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلَّما يخرج إلى غزوة إلا ورَّى بغيرها، إلا ما كان من غزوة خيبر، وغزوة تبوك، فغزوة خيبر، فلأن الله -تعالى- وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتحها، وأما غزوة تبوك فلبعد الشقة وشدة الزمان؛ إذ كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال وأينعت الثمار، وحُبّب إلى الناس المقام، وكثرة العدو، والمسافة بعيدة والطريق وعرة صعبة.
وكان لهذه العوامل أثرها في تثاقل بعض الناس عند النفرة، فبدأت الآيات تنزل في سورة التوبة لتعالج هذا الأمر، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ...)[التوبة: 38 – 40].
وأسرع المسلمون يتجهّزون للخروج، وأخذت القبائل تقدُّم المدينة من كل حَدب وصوب، منها غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، وبنو كعب من خزاعة.
ولم يرضَ أحد من المسلمين أن يتخلّف عن هذه الغزوة إلا الذين في قلوبهم مرض، وإلا ثلاثة نفر -تاب الله عليهم في آخر الأمر-، حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، قال -تعالى-: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)[التوبة: 92].
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال، وبذل الصدقات؛ فهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان قد جهّز ثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتي أوقية، فتصدّق بها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره -صلى الله عليه وسلم-، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقلبها ويقول: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ".
وجاء عبدالرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن سلمة، كلهم جاؤوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا من التمر.
وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها حتى كان منهم من أنفق مدًّا أو مدين، ولم يكن يستطيع غيرها، وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم، ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون وكانوا يؤذون المؤمنين، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة التوبة، آية: 79].
وتحرَّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيرًا ثلاثين ألف مقاتل، ولم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط، فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزًا كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمركب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيرًا واحدًا، وربما أكلوا أوراق الشجر حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح الإبل -مع قلّتها- ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العسرة.
عباد الله: تأملوا حال الصحابة في نصرة الدين والدعوة إلى الإسلام، كان ذلك همهم كله، قدّموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله -رضوان الله عليهم- (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.....
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: ومع تلك الشدة التي كان يعانيها الناس في جيش العسرة، كان الله معهم برعايته وحفظه، فلما اشتدت حاجة الجيش إلى الماء وهم في الطريق شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا الله، فأرسل الله -سبحانه- سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء، ونزل الجيش الإسلامي بتبوك، وعسكر واستعد للقاء العدو، وخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه.
وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية في داخل الجزيرة وأرجائها النائية.
وحصل المسلمون بذلك على مكاسب سياسية كبيرة لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. وجاء يُحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالَح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأهل أذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا فهو عندهم، وصالحه أهل ميناء على ربع ثمارها.
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل في أربعمائة وعشرين فارسًا، وقال له: "إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ"؛ فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين خرجت بقرة تحك بقرونها باب القصر، فخرج أُكيدر لصيدها، وكانت ليلة مقمرة، فتلقّاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية.
وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين. وهكذا توسّعت حدود الدولة الإسلامية حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير.
ورجع المسلمون من تبوك مظفّرين منصورين لم ينالوا كيدًا، وكفى الله المؤمنين القتال.
وكانت مدة الغزوة خمسين يومًا، امتحن الله فيها عباده وابتلاهم، ثم جعل العاقبة لهم والنصر والتمكين، كما قال -سبحانه-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف:28].
لقد استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في هذه المعركة الحثّ والتحفيز، واستخدم أسلوب الشدة؛ لأن الأمر كان يتطلب ذلك، فظهرت حنكة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحروب، وكانت هذه المعركة خاتمة معارك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبها رست الدولة الإسلامية، وخضع الجميع لها وأذعن.
اللهم وفّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم