غذاء القلوب

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/سمات القلوب المطمئنة 2/كيف تطمئن القلوب؟ 3/أهم أغذية القلوب أعظم 4/الصلاة غذاء القلوب 5/الغذاء الروحي للبشرية.

اقتباس

ينبغي للعبد الموفَّق أن يكون أشد اعتناء بإصلاح قلبه، وتغذيته بالأغذية النافعة، وإن غذاء القلوب يمكن الحصول عليه من أربعة أبواب: أولها: التفكر في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله والتحدث بذلك، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ). وثانيها: التأمل في آلاء الله ونعمه، ورؤية إحسانه وجماله وإكرامه والتحدث بذلك...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وطهّروا السرائر لمن هو بها عالم، وتوجهوا إلى الله بالابتعاد عن المآثم والخروج من المظالم، والإقلاع عن الصغائر والعظائم، تصفو قلوبكم، وتصلح أعمالكم، ويحسن القول والعمل، وتستقيم الجوارح.

 

عباد الله: إن خير القلوب هي القلوب السليمة التي تطمئن بذكر ربها وسيدها ومولاها، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، فبذكر الله يزول قلقها واضطرابها، وتحضر أفراحها ولذاتها، واطمئنان القلب سكونه واستقراره للأقدار، وأُنْسُه إلى عقيدة صافية، وعندها لا يطمئن لشيء سوى ذكر الله، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذِكْرها له.

 

عباد الله: والذكر باللسان يتنوع؛ فمنه ما يكون من غير القرآن كالتحميد والتهليل والتكبير، ومنه ما يكون أفضل الذكر وأعلاه كلام الله الذي أنزله، وجعله ذكرى للمؤمنين، وموعظة للمتقين، ولذلك يعظم اطمئنان القلوب السليمة بذكر الله حين تعرف معانيه وأحكامه، وهذا لا يكون إلا من تدبر كلام الحكيم العليم، قال العلي الكبير -سبحانه-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء: 82].

 

وشفاء القرآن ونفعه للعباد متوقف على نقاوة الطبع، وسلامة الاستقبال، والفهم عن الله تعالى، والشفاء أن تعالج داءً موجودًا لتبرأ منه، والرحمة أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى، فالرحمة وقاية، والشفاء علاج، فإن شفاء القرآن شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النفوس، فيُخلِّص المسلم من القلق والحَيْرة والغَيْرة، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد والحسد، إلى غير هذا من أمراض معنوية، بل وبدنية.

 

والقرآن شفاء لجميع الأمراض ولسائر الأسقام وكافة الآلام، وهذا ما صح في السنة النبوية، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةٍ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ لَدِيغٍ فِي جُهَيْنَةَ، فَدَاوُوهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ يَنْفَعُ، فَقَالوا: أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لَدِيغٌ فَابْتَغَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟.

 

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ إِنِّي لَأَرْقِي, وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا لَا نَرْقِي حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحْنَاهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ غَنَمٍ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -يَعْنِي فَاتِحَةَ الْكِتَابِ- حَتَّى بَرِئَ فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، قَالَ: فَقَامَ يَمْشِي مَا بِهِ علةٌ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي قَاطَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْتَسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نأتِيَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرُوا ذَلِكَ.

 

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلم- وَقَالَ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟" وَقَالَ: "أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" [البخاري 2276]، وجميعنا يقرأ فاتحة الكتاب، ولكن شتان بين لسان ولسان وقلب وقلب، ويقين ويقين، نسأل الله أن يصلح قلوبنا.

 

عباد الله: وقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والأمرُ له أمرٌ لأتباعه أن يثبتوا مع المؤمنين الصادقين، والذين من صفاتهم أنهم يذكرون الله في كل أحوالهم، ابتغاء القرب من ربهم ففي هذا صلاح لقلوبهم، ونهاهم عن الركون والميل لأصحاب القلوب المريضة الذين يتبعون هواهم، فإنه سبيل غواية، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

 

عباد الله: إن الله -عزَّ وجلَّ- جعل للقلوب نوعين من الغذاء: الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله. وغذاء روحاني معنوي، خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف، وبهذا الغذاء يصبح الإنسان سماويًّا علويًّا، وبالغذاء المشترك يكون أرضيًّا سفليًّا، وقوامه بهذين الغذاءين.

 

وللقلب ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وله غذاء يصل إليه منها؛ كحاسة السمع والبصر، وحاسة اللمس والشم والذوق، وارتباطه بحاستي السمع والبصر أشد من ارتباطه بغيرهما، ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس، واقترانه في القرآن بهما أكثر من اقترانه بغيرهما، بل لا يكاد يُقرن إلا بهما أو بأحدهما، كما قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، فأخرجكم جهالاً لا تعلمون شيئًا، ثم زودكم بوسائل معينة على معرفته وكل عمل صالح.

 

وإن تأثر القلب بما يراه ويسمعه، أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه، ولأن هذه الثلاثة هي أهم طرق العلم وهي السمع والبصر والعقل، وتعلق القلب بالسمع والبصر، وتأثره بهما لا يخفى، لكن ما يدركه بحاسة السمع من العلم والهدى أعم وأشمل، وما يدركه بحاسة البصر أتم وأكمل.

 

وهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح، وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها، فمن الناس من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها، فهو بمنزلتها, كما قال -سبحانه-: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان: 44].

 

ولهذا نفى الله -تبارك وتعالى- عن الكفار السمع والبصر والعقل؛ وذلك لعدم انتفاعهم بها، كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179]، فهم يسمعون ويبصرون بالحواس الظاهرة، وبهما قامت عليهم الحجة، ولا يسمعون ولا يبصرون بالحواس الباطنة، التي هي سماع القلب ونافذة إليه، بل هي روح حاسة السمع وحظ القلب، ولو سمعوه من هذه الجهة، لحصلت لهم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].

 

إن تعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب، أشد من تعلق البصر به، وآثاره على قلب الإنسان أسرع وأشد، فإذا كان المسموع معنى شريفًا بصوت لذيذ، حصل للقلب حظه ونصيبه من إدراك المعنى، وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له، كما يحصل للقلب عند سماع آيات القرآن المرتلة.

 

وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه، فيحصل لها الارتياح، ويتم الابتهاج، وتتضاعف اللذة، حتى ربما فاض الابتهاج والسرور على البدن والجوارح. ويكاد القلب لكمال لذته، وتوفر غذائه، أن يفارق هذا العالم، ويلج عالمًا آخر، ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره ألبتة، وذلك لمحة من حال أهل الجنة في الجنة، فيا له من غذاء ما أصلحه, وما أنفعه, وما أيسره!!، والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، سمع كلام محبوبه، وتأثر به وانتفع به.

 

عباد الله: قلوب البشر على ثلاثة أقسام:

 

منهم من اتصف قلبه بصفات نفسه، بحيث صار قلبه نفسًا محضة، فغلبت عليه آفات الشهوات والأهواء، فهذا حظه من السماع الديني كحظ البهائم، لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.

 

ومنهم من اتصفت نفسه بصفات قلبه، فصارت نفسه قلبًا محضًا، فغلبت عليه المعرفة والمحبة، والعقل واللب، وعشق صفات الكمال، فاستنارت نفسه بنور قلبه، واطمأنت إلى ربها، وقرت عينها بعبوديته، وصار نعيمها في حبه وقربه، فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة، وسماعه غذاء قلبه وروحه، وقرت عينه.

 

ومنهم من له منزلة بين منزلتين، وقلبه باقٍ على فطرته الأولى، لكن ما تصرف في نفسه تصرفًا أحالها إليه، ولا قويت النفس على القلب فأحالته إليها، فبين النفس والقلب منازلات ووقائع، تدال النفس عليه تارة, ويدال عليها تارة, والحرب سجال، فهذا حظه من السماع حظ بين الحظين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظه منه قويًا، وإن صادفه وقت دولة النفس كان ضعيفًا.

 

ومن هنا يقع التفاوت في الفقه عن الله، والفهم عنه، والابتهاج به، وحصول النعيم واللذة بسماع كلامه.

 

نسأل الله أن يرزقنا هذا النعيم في الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.

 

أيها الناس: ينبغي للعبد الموفَّق أن يكون أشد اعتناء بإصلاح قلبه، وتغذيته بالأغذية النافعة، وإن غذاء القلوب يمكن الحصول عليه من أربعة أبواب:

 

أولها: التفكر في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله والتحدث بذلك، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].

 

وثانيها: التأمل في آلاء الله ونعمه، ورؤية إحسانه وجماله وإكرامه والتحدث بذلك، قال -سبحانه-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].

 

وثالثها: معرفة ما وعد الله لعباده المتقين بالجنة، وذكر منازلها وقصورها، ورؤية ما فيها من النعيم واللذات، والتنعم برؤية الرب -جل جلاله-، وسماع كلامه، والتحدث بذلك بين الناس؛ وهذا يزيدها طمعا في الله وشوقا وفرارا إليه.

 

ورابعها: معرفة وعيد الله لمن عصاه، وتذكر النار وما فيها من السعير والسموم، والقمع والإحراق، وعند ذلك ترتقي القلوب وتمتلئ بالخوف والوجل من معصية الرب، وتقبل على ربها بلباس الإيمان والتقوى، قال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16].

 

عباد الله: إن الصلاة غذاء القلوب، وزاد الأرواح، مناجاةٌ ودعاء، خضوع وثناء، تذلل وبكاء، وتوسل ورجاء، واعتصام والتجاء، وتواضع لكبرياء الله، وخضوع لعظمته وانطراح بين يديه، وانكسار وافتقار إليه، تذللٌ وعبودية، تقرب وخشوع لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي.

 

الصلاة خير عدة وسلاح، وأفضل جُنَّة وكفاح، وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تنشئ في النفوس، وتذكي في الضمائر قوةً روحية, وإيمانًا راسخًا، ويقينًا عميقًا، ونورًا يبدد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثير ممن يؤديها، فما أعظم الأجر وأوفر الحظ لمن أداها على الوجه الشرعي.

 

إن الصلاة نور فقد ورد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الصَّلَاةُ نُورُ" [مسلم(223)]، وهذا النور الذي يجده العباد في صلاتهم وهي التي عبر عنها ابن تيميه -رحمه الله- بقوله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". فلا يكاد مسلم يفرط في صلاته ويتساهل في طلبها بعد أن ذاق لذتها وهذه اللذة، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها". لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله.

 

عباد الله: أما آن الأوان للقلوب الغافلة والأفئدة الهاوية أن تستشعر هذه الراحة القلبية والطمأنينة النفسية وأن يجعلها قرة عين حقيقية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" [النسائي (3939) وصححه الألباني]، فالصلاة هي مصدر السعادة والسرور، ومبعث الطمأنينة والحبور، وكان ذلك ديدنَ الأنبياء جميعًا عليهم صلوات الله وسلام.

 

لقد كانت الشرائع المنزلة من عند الله تعالى هي الغذاء الروحي للبشرية وهي كفيلة بسعادة العبد في كل مناحي حياته، إذا أقيمت حسب ما أراده الله -عز وجل-، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الشرائع هي غذاء القلوب وقُوتها، ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته؛ استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله -إن أكل منه- إلا بكراهة وتجشم، وربما ضرَّه أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه".

 

فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته؛ قلَّت رغبته في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف مَن صرف نهمته وهمته إلى المشروع؛ فإنه تعظُم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه، ويكمل إسلامه، ولذا تجد مَن أكثر مِن سماع القصائد لطلب صلاح قلبه؛ تنقص رغبته في سماع القرآن -حتى ربما كرهه!-.

 

ومَن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد والقبور ونحوها؛ لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومَن أدمن على أخذ الحِكمة والآداب من كلام حُكماء فارس والروم؛ لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك المَوقع، ومَن أدمن قصص الملوك وسيرهم؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير. وهذا أمر يَجده -مِن نفسِه- مَن نظر في حالِه.

 

عباد الله: احرصوا على تلاوة القرآن الكريم، فهو أعظم أغذية القلوب، وفيه الشفاء والهدى والنور، وإن الإنسان ليعجب ممن يبحثون عن أغذية الأبدان ويغفلون عن القلوب المريضة والقاسية، ويعوضون عن دين الله، ألا يتدبرون هؤلاء كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟.

 

عباد الله: إن غذاء القلب وصلاحه وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به.

 

إن الوحي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 14، 15].

 

إن من لم يتغذ قلبه بنور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجّه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه.

 

وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, والأجساد مزينة بالسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71]. وإذا أحب الله عبدًا، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13].

 

فجددوا أيها الإخوة إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.

 

نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا.

 

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.

 

 

المرفقات

القلوب1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات