عيد الفطر 1436هـ - معاني النصر الغائبة

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ حادثة مقتل راشيل كوري 2/ اضطراب معايير حقوق الإنسان في العالم الغربي 3/ ميزان النصر الحقيقي في الثبات على المبدأ 4/ انتصار المقاومة في غزة 5/ بشائر نصرة المسلمين المستضعفين 6/ دلائل ظهور المنافقين في أزمان ضعف المسلمين.

اقتباس

في الأحداث العسيرة تنكشف الوجوه على حقيقتها، ويظهر الله ما في الصدور من الغل، وفي هذا خيرٌ؛ لأن النفاق يظل مستورًا فإذا حمي الحال واشتد وأصيب من الأخيار ما أُصيب حل بالنفاق الغباء، فكشف وجهه الكالح وانتصر للأعداء وأظهر الشماتة بالصالحين والمجاهدين.. من كان يتخيل في يومٍ ما أن يظهر بين المسلمين مَن يناصر الصهاينة السفاحين، ويعلن مناصرته لهم جهارًا نهارًا بلا خجل؛ يعلنها بين ملايين المسلمين بلا خوف وهو يعيش بينهم؟!

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

الله أكبر ما صائم وأفطر، الله ما تلا قارئ كتاب الله فتدبر، ما بذل محسن فشكر، وابتُلي مبتلى فصبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

 

أيها المسلمون: قبل إحدى عشر سنة في اليوم السادس عشر من شهر مارس الشهر الذي تتفتح فيه الزهور وتبدأ الحياة كانت الفتاة ذات الثلاث وعشرين سنة واسمها راشيل كوري، كانت عزلاءَ إلا من معطف برتقالي اللون (العلامة المميزة لناشطي السلام)، كانت تقف متحدية أمام الجرافة المدرعة وسائقها اليهودي المسلح.

 

كانت تحاول منع الجرافة من هدم بيت أرملة فلسطينية، ولم يستغرق الأمر لحظات إلا والجرافة تزحف إلى الأمام ثم إلى الخلف فوق جسد راشيل.. حتى ماتت.

والسؤال الآن عن ميزان الحق مَن المنتصِر في هذه الحالة؟

 

بالتأكيد ليس الجيش اليهودي الذي كانت الجرافة المدرعة وسائقها المسلح يرمزان لقوته، لقد اضطر الجيش اليهودي لكي يخفف من آثار هزيمته المعنوية أمام الرأي العالمي أن يُعلن أسفه للحادث، ويَعِد بأنه سيُجري تحقيقًا حوله، ثم أعلن بعد ثلاثة أشهر أن الحادث عرضي.

 

ولا غرابة في زمن النفاق السياسي العالمي المكشوف ممن يدعون حرصهم على حقوق الإنسان وحريات الشعوب.

 

ولا يهم الظلم بقدر ما يهم موقف صلابة الفتاة المهم أن راشيل بمقتلها تحت الجرافة قد هزمت الجيش اليهودي برمته.

 

معاشر المسلمين: في الحرب العالمية الثانية كانت هولندا مطمئنة إلى حيادها في الحرب العالمية الثانية حين فُوجئت على غِرَّة، بهجوم الجيش الألماني قبل فجر يوم 10 مايو 1940م، كان التوازن ظاهر الاختلال بين الطرفين، كان الجيش الألماني يتقدم بسبعمائة وخمسين دبابة، وتواجهه هولندا بدبابة واحدة وصدور الهولنديين الذين صمّموا على المُقاومة اليائسة، كان هتلر يَعتقد أن هولندا سوف تَستسلم خلال يومٍ واحد.

 

ولكن المُقاومة البطولية للهولنديين وتَضحياتِهم الجسيمة، حتى بَعد أن يَئسوا من نَجدة بريطانيا وفرنسا، اللاتين تخليتا عنهم هي السبب في أن الجنرال الهولندي ونكلمان winkelman لم يوقِّع وثيقة الاستسلام إلَّا في يوم 17 مايو 1940م، بعد أن دُمِّرت روتردام تماماً، وقُتِل ثلاثون ألفاً من المَدنيين.

وكان التهديد بالمصير نفسِه للمدن الأخرى لأمستردام ولاهاي.

 

معاشر المسلمين: لم يكن انتصار هولندا يوم انتهى الاحتلال الألماني بعد خمس سنوات لما انهارت ألمانيا، بل كان انتصارُها الحقيقي: المقاومة الباسلة والتضحيات البطولية، تلك هي المآثر التي تسجل في تاريخ الشعوب وفي مختلف العصور توجد دائمًا حالات مشابهة حيث تكون الغلبة المادية للقوة ويكون النصر الحقيقي للقضية.

 

وما اختيار هذين المثلين إلا لأنهما وأمثالهم حظوا بالسمعة والإعلام وأصبحوا قصصًا واقعية يُضرَب بها المثل، ولقد قال الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف:14].

 

هذه الآية الكريمة تحكي التأييد والظهور والفوقية من عند الله –تعالى- لعباده المؤمنين، وإذا تخلف التفوق المادي والغلبة من أهل الحق، ولم نجد في التاريخ المكتوب ما يكشف أن المؤمنين بدين المسيح في عصره كان لهم السلطان والظهور عرفنا أن المقصود بالظهور والفوقية في الآية هو الانتصار المعنوي القيمي الذي لا يمكن أن يتخلف عن المؤمن.

 

أيها المسلمون: إن من أقوى الأمثلة على هذا المعنى في زماننا ما سطرته مقاومة أهلنا في غزة، حماها الله وأهلها، ونصرهم على عدونا وعدوهم.

 

ومهما كانت الأرقام في الإصابات بين الطرفين؛ الطرف المؤمن والطرف اليهودي الكافر المغتصب، فإن الله –تعالى- يقول، وقوله الحق: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:104].

 

وقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 139- 142].

 

وليس المجال اليوم مجال ذكر لخسائر العدو فهي مدوَّنة وسهلة الوصول في وسائل التواصل الحديثة، وإنما هي الإشارة إلى أنه في زمن طغا الظلم فيه وتكبَّر وأسرف وتجبر فإن بشائر نصرة المسلمين المستضعفين تخرج في ظلمة الليل؛ فصبر جميل وثقة بالجليل ولو طال الزمان، وقد قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].

 

وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].

 

واليسر في الإسلام ملتصق بالعسر هكذا علمنا القرآن وأكد عليه تأكيدا (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5- 6].

 

بهذه النظرة الربانية ننظر إلى غزة، وننظر إلى الشام، وننظر إلى العراق، ولا ندع الواقع الإعلامي يهز هذا اليقين أبداً فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

 

عباد الله: في الأحداث العسيرة تنكشف الوجوه على حقيقتها، ويظهر الله ما في الصدور من الغل، وفي هذا خيرٌ؛ لأن النفاق يظل مستورًا فإذا حمي الحال واشتد وأصيب من الأخيار ما أُصيب حل بالنفاق الغباء، فكشف وجهه الكالح وانتصر للأعداء وأظهر الشماتة بالصالحين والمجاهدين قال تعالى: (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 50- 51].

 

من كان يتخيل في يومٍ ما أن يظهر بين المسلمين مَن يناصر الصهاينة السفاحين، ويعلن مناصرته لهم جهارًا نهارًا بلا خجل؛ يعلنها بين ملايين المسلمين بلا خوف وهو يعيش بينهم؟!

 

لكن الأيام تنبأنا بكثير مما غاب عنا واستتر، فأسأل الله تعالى أن يقينا شرور المنافقين، وأن يخزيهم ويطهر بلاد المسلمين منهم ومن كل ذي شر..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

 

وبعدُ: فأوصى نفسي وإياكم -أيها الإخوة وأيها الأفاضل- بتقوى الله في كل حين، وأن نستقيم على طاعته وحسن عباده بلا تقصير ولا تفريط، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

اليوم عيد نفرح فيه بإكمال الله لنا الشهر، ونحيي تفاءلنا بحكمه وقضائه جل وعلا، ونحسن الظن به دائمًا وأبدًا.

 

اللهم أعد علينا رمضان سنين عديدة..

 

 

المرفقات

عيد الفطر 1436هـ - معاني النصر الغائبة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات