عوامل النصر

إبراهيم سلقيني

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أهم عوامل انتصار العرب المسلمين 2/ عظم أخلاق المسلمين الأوائل 3/ قصص أخلاقية رائعة 4/ انحراف المتأخرين أخلاقيًّا وأثره 5/ متى ينتصر المسلمون مرة أخرى؟!

اقتباس

لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: شُغلنا عن نُصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، فقال أهل حمص: "لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم".

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه إنسان وأينما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوب إليه ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها الإخوة الأحبة: لقد كان من أهم عوامل انتصار العرب المسلمين أخلاقهم العالية التي كانوا يمتازون بها، ويُعرفون بها أينما رحلوا ونزلوا، وكانت هذه الأخلاق طليعة جيوشهم تسخّر لهم القلوب، وتشرح لهم الصدور قبل أن تعمل دعوتهم، وقبل أن تعمل سيوفهم ورمحاهم ونبالهم.

 

والذين كانوا يشهدونها ويعرفونها كانوا يشهدون أن هؤلاء سيغلبون ويملكون الدنيا، وأن الفرق بين أقرانهم وبينهم كالفرق بين البهائم والملائكة.

 

روى أحمد بن مروان المالكي في المجالسة بسنده عن أبي إسحاق قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يثبت لهم العدو فواق ناقة" أي: مدة حلبها عند اللقاء، فقال هرقل لما قدمت منهزمة الروم: "ويلكم أخبروني من هؤلاء الذين يقاتلونكم؟! أليسوا بشرًا مثلكم؟!" قالوا: بلى، قال: "فأنتم أكثر أم هم؟" قالوا: "بل نحن أكثر أضعافًا في كل موطن"، قال "فما بالكم تنهزمون؟!" فقال شيخ من عظمائهم: "من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهود ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم ويتناصحون، ومن أجل كوننا نشرب الخمر ونزني ونرتكب الحرام وننقض العهود ونغصب ونظلم ونأمر بما يسخط الله -عز وجل- وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض". فقال: "أنت صدقتني".

 

وسأل هرقل هذا رجلاً كان قد أُسر من المسلمين فقال له: "أخبرني عن هؤلاء القوم" فقال: "أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان النهار وركبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام"، فقال: "لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين".

 

هذه الأخلاق حبّبتهم حتى لأعدائهم، نعم حتى لأعدائهم الذين كانوا يقاتلونهم، حتى إن كان هؤلاء بلغ بهم الأمر ليؤثرونهم على بني جلدتهم وأبناء ملتهم، ويتمنون لهم الظفر ويدفعون عنهم العدو ويتطوعون لمصالحهم.

 

قال البلاذري في فتوح البلدان: "حدثني أبو حفص الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: شُغلنا عن نُصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، فقال أهل حمص: "لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم".

 

ونهض اليهود، فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغلب ونُجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن الَّتِي صُولحت منَ النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم عَلَى المسلمين صرنا إِلَى ما كنا عَلَيْهِ، وإلا فإنا عَلَى أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم اللَّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم، وسار أَبُو عُبَيْدة إِلَى جند قنسرين وأنطاكية ففتحها.

 

هذا -أيها الإخوة- ولما طال على المسلمين الأمد وقست قلوبهم، ونسوا وتناسوا ما لأجله بعثهم الله –تعالى- وهو قول الله -تبارك وتعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران:110]، ونسوا أيضًا ما لأجله خرجوا من جزيرتهم يُخرِجُون الناسَ مِن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وساروا يحكّمون الناس على الناس، وساروا يعيشون حياة لاهية حياة مَن لا يعرف نبيًّا ولا يؤمن برسالة ووحي، ولا يرجو حسابًا، ولا يخشى معادًا.

 

وأشبهوا الأمم الجاهلية التي كانوا خرجوا يقاتلونها بالأمس عادوا فقلّدوها في مدنيتها واجتماعها وسياستها وأخلاقها ومناهج حياتها، وفي كثير مما مقتها الله لأجله وخذلها، وأصبحوا لا هَمّ لهم ولا شغل إلا الأكل والشرب والتناسل، وأصبحوا تابعين للناس، ليس لهم فرقان ولا نور يمشون به بين الناس.

 

وأشبهت ملوكهم جبابرتها وفراعنتها، وأغنياؤهم مترفيها، تحاسدوا وتباغضوا وتنافسوا في السلطان، وتكالب على حبّ الدنيا وحطامها، وإخلاد إلى الترف والنعيم، وإعراض عن الآخرة، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وهضم للحقوق، وغدر بالعهود والذمم، وبُعد عن حدود الله، وإعانة للظالمين وشيوع للفواحش والمنكرات واتباع للجرائم.

 

فهانوا على الله مع أسمائهم الإسلامية، ورغم وجود الصالحين فيهم وظهور بعض الشعائر الدينية والواجبات الشرعية في بلادهم، فهانوا على الناس رغم مملكتهم الواسعة وجيوشهم الكثيفة وثرواتهم العامرة.

 

ورغم تقدمهم في بعض المجالات المدنية ومظاهرها، وعكفوا على المحرمات حتى إذا بلغ السيل الزبى، وتضاعف كل ما ذكرت، وأفسد كثيرًا من المسلمين في الأرض بعد إصلاحها، عاقبهم الله -تبارك وتعالى- وسلط الله عليهم التتار أشقى الأمم وأجهلها وأوحشها: (فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ) [الإسراء: 5]، ووضعوا فيهم السيف وأجروا من دمائهم سيولاً وأنهارًا، وأقاموا من رءوسهم صروحًا وتلالاً، وفعلوا بهم الأفاعيل، وأحلوهم الخوف، فتمكن من قلوبهم الوهن والجبن والضعف، وصدق فيهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لا زلتم منصورين على عدوكم ما دمتم متمسكين بسنتي –أي: بهدي وأخلاقي وشريعتي-، فإذا خرجتم عن سنتي –أي: عن هدي وشريعتي- سلّط الله عليكم من عدوكم مَن يخيفكم، ثم لا ينزع خوفه من قلوبكم حتى تعودوا إلى سنتي".

 

 وصدق فيهم في كل هذا الذي ذكرته قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قال قائل: "أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟" قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قال قائل: "وما الوهن يا رسول الله؟" قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"..

 

أقول قولي وأستغفر الله...

 

 

 

 

المرفقات

النصر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات