عناصر الخطبة
1/التحذير من الكبر وذمه 2/حكم الكبر وتعريفه 3/بعض صور الكبر ومظاهره 4/عواقب الكبر وآثاره على الأفراد والشعوباقتباس
عبـاد الله: إن للكبر والاستكبار عواقب وخيمة، وآثار مدمرة؛ فمن ذلك: أنه طريق موصل إلى غضب الله -تعالى- وسخطه، ويورث البعد عن الله، والبعد عن الناس، ويحشر صاحبه يوم القيامة ذليلاً، ويسجن في النار، وبسببه يستحق صاحبه العذاب في النار، والخلود فيها. وبه يكون الهلاك والدمار للأفراد والمجتمعات والشعوب، فالله -سبحانه- لا يرضى أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله منشئ الموجودات، وباعث الأموات، وسامع الأصوات، ومجيب الدعوات، وكاشف الكربات، وعالم الأسرار والخفيات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، ربنا الله ورب جميع الكائنات.
سبحان من خلق الأشياء وقدرها *** ومن يجود على العاصي ويسترهُ
يُخفي القبيحَ ويبدي كل صالحةٍ *** ويغمرُ العبد إحسانـا ويشكرهُ
ويغفرُ الذنبَ للعاصي ويقبلـه *** إذا أنـاب وبالغفران يجبـرهُ
ومن يلوذ به في دفع نـائبةٍ *** يعطيه من فضله عزا وينصرهُ
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
عباد الله: الكبر والاستكبار صفة ذميمة، وخلق سيء؛ حذر منه القرآن الكريم، والسنة النبوية، فهو من أقبح الخصال البشرية، ومن الرذائل التي لا ينبغي للإنسان الاتصاف بها.
له آثار مدمرة، وعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.
والكبر، هو الامتناع عن قبول الحق مُعاندة وتَكَبُّراً، والتعالي على الخلق، وعدم التواضع والشعور بأن له منزلة أعلى من غيره، دون وجه حق، والسخرية منهم، والانتقاص من حقهم.
والكبر، يعني كذلك العجب بالمال والسلطان والغرور بالقوة والأتباع والحسب والأنساب، وهو أول معصية عُصيَ الله بها وبها طرد إبليس من رحمة الله، وكتب عليه الذل والهوان في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 34].
وقد حذر الإسلام من هذا الخلق السيء، وهذه الصفة الذميمة، فقال تعالى على لسان لقمان، وهو يعظ أبنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان: 18].
وقال سبحانه: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[الجاثية: 7-8].
وقال عز من قائل: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ)[الأعراف: 146].
وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكبر، فقال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"[مسلم 131)].
وهو مرض يصيب النفس البشرية؛ بسبب ضعف الإيمان والتقوى، ومخافة الله، وضعف التربية والتنشئة منذ الصغر، وعدم إدراك حقيقة الحياة، والمصير بعدها، والتعلق بالدنيا، والتنافس على شبهاتها وشهواتها، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر 60].
ويقول عليه الصلاة والسلام: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ"[الترمذي (2416)، وأحمد (6390)، وهو في صحيح الأدب المفرد (ج1/219)].
والكبر صفة من الصفات التي لا تنبغي إلا لله -تعالى-، فمن نازع الله فيها أهلكه الله وقصمه، وضيق عليه؛ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه؛ فمن ينازعني عذبته"[رواه مسلم (2620)].
أيها المؤمنون -عباد الله-: الكبر والاستكبار اليوم له صور متعددة؛ قد يمارسها ويتخلق بها الأفراد، وتمارسها المجتمعات والدول والشعوب، فالإنسان الذي لا يقبل الشرع، ولا يخضع للحق؛ به مرض الكبر، ولن ينجو في الدنيا والآخرة إلا بتركه وقبول الحق، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان7].
تذكره بالقرآن، ب "قال الله، قال رسوله" لكنه لا يخضع ويعاند ويتكبر، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)[الصافات 35].
وهل نحن إلا بالقرآن؟ وهل لنا قيمة وحياة طيبة إلا بالقرآن؟
ولذلك فإن المؤمن؛ إذا سمع توجيهات الإسلام بادر بكل حب وإخلاص وإتقان إلى العمل والتنفيذ، قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور: 51].
لقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يأكل بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: "كُلْ بِيَمِينِكَ" قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: "لَا اسْتَطَعْتَ" مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ"[مسلم 2021)].
ومن صور الكبر: احتقار الناس وانتقاصهم، وقد قال الله –تعالى- عن استعلاء فرعون وقومه على موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)[المؤمنون: 45-47].
ومن صور التكبر: أكل حقوق الناس بالباطل، وذلك لشعوره بأن لا أحد يقوى عليه، أو يستطيع الاقتصاص منه، وقد يكون من يأكل أموالهم من الضعفاء، فتدعوه قوته إلى ظلمهم.
ومن ذلك: عدم الاعتراف بنعم الله، وأداء حقوقها من الشكر والبذل والعطاء؛ فهناك من يتكبر بماله وجاهه، ولا يرى لله فيها حقا، ولا يستخدمها في تقديم النفع للعباد؛ بإخراج زكاتها، والإنفاق والتصدق بجزء منها، ويعتقد بأن هذه الأموال ما جمعها إلا بذكائه وحرصه.
هذا قارون أنعم الله عليه بالمال والجاه، وكثرة الأتباع، فتكبر على الله، وظن إنما حصل عليه من مال، ومن كنوز الذهب والفضة؛ إنما كان بسبب ذكائه وحنكته، فقال تعالى مبيناً عاقبة الغرور والكبر، محذرا كل مسلم ومسلمة من عواقبه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 76- 77].
فكان رد قارون جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78].
لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال، وأعماه الثراء.
فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)[القصص: 81].
ومن صور الكبر: التعالي بالهيئة والملبس، والله -سبحانه وتعالى- جميل يحب الجمال، والمسلم مطالب بأن يلبس أحسن الثياب وأجملها، لكن أن تصبح هذه الملابس طريقة ووسيلة لاحتقار الناس، والاستعلاء عليهم؛ فهذا من الكبر الذي قد يحرم صاحبه الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ"[البخاري 5784)].
وقال أيضاً: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"[البخاري 5789)].
عباد الله: ومن صور الكبر: التفاخر بالأحساب والأنساب، والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
بالإيمان والتقوى يترجح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئاً.
لقد وقف صلى الله عليه وسلم يخاطب هذه الأمة في خطبته في حجة الوداع، وطلب من الحاضر أن يبلغ الغائب؛ لأن الأمر هام وعظيم، فقال: "يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] ألا هل بلغت؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فيبلغ الشاهد الغائب"[رواه البيهقي في الشعب(4/289) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/375) وصححه الألباني].
ولو كان النسب أو الجنس أو المكانة تنفع صاحبها عند الله لكان ابن نوح -عليه السلام-، وهو فلذة كبده، وقطعة من فؤاده معه في الجنة، قال تعالى مبيناً تلك الحال، وذلك المآل: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 42-43].
وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة في أيام الحج؛ إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهـوا*** وأنت يا حي يـا قيـوم لـم تنـم
أدعوك ربي حزينـاً هائمـاً قلقـاً *** فارحم بكائي بحق البيت والحـرم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سعة*** فمن يجود على العاصيـن بالكـرم
ثم بكى بكاءاً شديداً، وسقط على الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-، فرفعت رأسه في حجري، وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده، ففتح عينيه وقال: "من هذا الذي يهجم علينا؟" قلت: أنا الأصمعي، ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة!؟ فقال: هيهات هيهات يا أصمعي إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً، أليس الله -تعالى- يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون: 101-103].
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من هذا التعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب، فقال: "إن الله - عز وجل- قد أذهب عنكم عِبية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين أقوامٌ عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان، التي تَدفع النتن بأنفها"[رواه أبو داود في السنن(4/492) وأحمد في المسند (16/456) وحسنه الألباني -رحمه الله-].
لقد سفكت الدماء، وتفرقت الكلمة، وانقسم الناس، وصنفوا إلى أصناف متعددة، ودرجات متفاوتة، وحلت القطيعة، وظهرت الكثير من المشاكل؛ بسبب هذه النبتة الخبيثة؛ التفاخر بالأحساب والأنساب؛ فأين الأخوة الإيمانية؟ وأين تقوى الله؟ وأين التزين بالعمل الصالح والخلق السوي؟
كلنا من تراب، وإلى التراب، ويوم القيامة تخرس الألسن، وتطيش الأفئدة، وتذهل العقول، وتسقط الرايات، ولا ينفع إلا إيمانك بالله، وعملك الصالح، فلا تعتز إلا به، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10].
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبـاد الله: إن للكبر والاستكبار عواقب وخيمة، وآثار مدمرة؛ فمن ذلك: أنه طريق موصل إلى غضب الله -تعالى- وسخطه، ويورث البعد عن الله، والبعد عن الناس، ويحشر صاحبه يوم القيامة ذليلاً، ويسجن في النار، وبسببه يستحق صاحبه العذاب في النار، والخلود فيها، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)[الأحقاف: 20].
وبه يكون الهلاك والدمار للأفراد والمجتمعات والشعوب، فالله -سبحانه- لا يرضى أن ينازعه في هذه الصفة أحد من خلقه، قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ)[فصلت: 15-16].
وقال تعالى عن فرعون وجنوده: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[القصص: 38-40].
فالمتكبر سواء كان فرداً، أو حزباً، أو جماعة، أو جيشاً، أو دولة، أو نظاما، فإنه إلى زوال وخسران؛ سنة الله في خلقه: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23].
ومن اغتر اليوم بحلم الله عليه لن يستثنى من عقابه سبحانه وتعالى.
عبـاد الله: إن سلامة المجتمع، وصفاء الحياة بين الناس؛ يحتاج إلى الحب والتواضع، وعدم الكبر، فكم صرف الكبر من أناس عن قبول الحق؟ وكم ضاعت من حقوق؛ بسبب الكبر؟ وكم ظلم من أقرباء وأرحام وجيران؛ بسبب الكبر؟ وكم سلبت حقوق الضعفاء؛ بسبب الكبر؟ وكم من باطل ظهر؟ وكم من حق ذهب؛ بسبب الكبر؟ وكم من أموال أخذت من أصحابها بسبب الكبر؟
فاحذروا -عباد الله-: مزالق الشيطان، فإنه لكم بالمرصاد، وتوبوا إلى الله، وأنيبوا له، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من سلك طاعة الله، وترك عصيانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح فساد أحوالنا، واجعلنا يا ربنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم