عناصر الخطبة
1/ الغفلة عن احتساب الأجر في الوضوء 2/ فضائل الوضوء وثمراته 3/ الوضوء من أعظم أسباب دخول الجنة 4/ تأملات في حديث بلال بن رباح 5/ وصايا عند الوضوء.اقتباس
يسأله عن أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ, فلم يقل بأنّ أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ جهادُه, ولا سبْقُه في الإسلام, ولا صبرُه وثباتُه وبلاؤه, وهو الذي عُذّب أشد العذاب في مكة, وهو الذي وضع الكفارُ الصخرة على صدره في شدّة حرارة الشمس, حتى إنهم وضعوا حبلاً على عنقه وأَعْطَوْهُ الْصبيان، وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ يتضاحكون عليه، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ, لم يذكر له كلّ هذا البلاء, بل ذكر له أن صلاةَ ركعتين بعد الوضوء, هو أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ, فأيّ فضيلةٍ ومزيّةٍ الركعتين التي فرّطنا بها إلا من شاء الله! إنّ المؤمن حينما يرى هذه الفضائل العظيمة, للوضوء وللركعتين بعدها, لن يُفرط بها أبدًا, وسيتوضأ أحسن الوضوء, وسيُصلّي الركعتين بخشوعٍ وطُمأنينةٍ وتُؤدة, يستحضر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي جاهد في الله -تعالى- من غير توان ولا تقصير, صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يرجعون، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الله -تعالى- بكرمه وجوده, يسّر لنا أعمالاً نُؤدّيها كلّ يوم, جعلها سببًا في فلاحنا في الدنيا والآخرة, ومن بين تلك الأعمال الجليلة: الوضوء.
فللوضوء منزلةٌ عظيمةٌ شريفة, ومنافع صحّيةٌ وجسَديّة, ولكن المشكلة أننا لا نستشعر هذا العمل العظيم, ولا نحتسب الأجر المترتب عليه, بل نتوضأ ونحن غافلون إلا من شاء الله, وربما توضأنا على عجلٍ, وكأنه همٌّ نريد إزاحته عنّا, بل إنّ بعض الناس يظل يُفكر طويلاً ويتساءَل: هل هو مُتوضئٌ أم لا! وإذا تذكر أنه لم يكن مُتوضأً ضاق صدرُه.
يقول العلامةُ ابن عثيمين -رحمه الله-: "كلنا يتوضّأ إذا أراد الصلاة، لكنَّ أكثر الأحيان يريد الإنسان أن يقوم بشرط العبادة فقط، وهذا لا بأس، ويحصل به المقصود، لكنْ هناك شيءٌ أعلى وأتم:
أولاً: إذا أردت أن تتوضأ, استشعر أنك ممتثلٌ لأمر الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6], حتى يتحقق لك معنى العبادة.
ثانياً: استشعر أنك متبعٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه قال: "مَنْ تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ", حينئذٍ يكون الإخلاص والمتابعة.
ثالثاً: احتسب الأجر على الله -عزّ وجل- بهذا الوضوء؛ لأنَّ هذا الوضوء يكفر الخطايا، فتَخْرُج خطايا اليد, مع آخر قطرة من قطرات الماء بعد غسل اليد، وهكذا البقية". ا.ه
معاشر المسلمين: ثبت أنّ للوضوء فضائلَ لا تُحصى, ومزايا عظميةٍ لا تخفى, فمنها: أنّ الوضوءَ طهارةٌ، والله عز وجل يحب المتطهرين، قال -تعالى- بعد ذكرِه فرضَ الوضوء والتيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].
ومن فضائل الوضوء العظيمة, أنه سبب لمغفرة الذنوب, فقد ثبت في صحيح مسلم, أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثم قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ, وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً".
وفيه أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ, خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ".
بل إنّ من أدّى الوضوء على الوجه الأكمل, ثم صلى ركعتين لله -تعالى-, خرج مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
ثبت في صحيح مسلم, عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله, حدثني عن الوضوء؟ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ, إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
الله أكبر! إنّ هذا الثواب الجزيل, ليس خاصًّا بالحج فقط, الذي فيه العناءُ والسفر والتعب, بل أعدّه الله -تعالى- لنا في اليوم خمس مرات, فيا خسارة من لم يُوفق لنيله مع سهولته وكثرتِه.
ما أجزل ثواب من صلى ركعتين بعد وضوئه, فهي السبب في أن يحطّ الله عنك ذنوبك وأوزارك مهما عظمت, حتى ترجعَ مِنْ ذنوبك كَهَيْئَتِك يَوْمَ وَلَدَتْك أُمُّك.
بل هي من أعظم أسباب دخولك الجنة!
قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِبِلاَلٍ -رضي الله عنه-: "يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ- يَعْنِي تَحْرِيكَ- نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ" قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ" (متفق عليه).
يسأله عن أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ, فلم يقل بأنّ أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ جهادُه, ولا سبْقُه في الإسلام, ولا صبرُه وثباتُه وبلاؤه, وهو الذي عُذّب أشد العذاب في مكة, وهو الذي وضع الكفارُ الصخرة على صدره في شدّة حرارة الشمس, حتى إنهم وضعوا حبلاً على عنقه وأَعْطَوْهُ الْصبيان، وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ يتضاحكون عليه، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ, لم يذكر له كلّ هذا البلاء, بل ذكر له أن صلاةَ ركعتين بعد الوضوء, هو أَرْجَى عَمَلٍ عَمِله فِي الإِسْلاَمِ, فأيّ فضيلةٍ ومزيّةٍ الركعتين التي فرّطنا بها إلا من شاء الله!
ولو لم يكن من ثمار البكور إلى الصلاة إلا صلاة هذه الركعتين عند دخول المسجد لكفى.
اسْتشعر أيها المسلمُ فضل وضوئك, الذي يُذهب الله به ما عَمِلَتْه جوارحك من الذنوب والخطايا.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ, خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ, حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ"(رواه مسلم).
والوضوء هو العلامةُ التي بها يعرفنا نبيُّنَا -صلى الله عليه وسلم-, حينما نرد عليه الحوض, ففي صحيح مسلم, أنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ -: "تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ, أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ, لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ, تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ".
وفي صحيح مسلم أيضًا, أنّ الصحابة -رضي الله عنه-م قالوا : كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ, بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ, أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ, وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ".
إنّ هذا الوضوءَ الذي نقومُ به كلّ يوم خمس مرات, هو السّمةُ والعلامةُ التي بها يعرفنا نبيّنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-, فلْنحرص على إتمامه وإسباغه.
نسأل الله -تعالى- أنْ يُزيل عن قلوبنا الغفلة, وأنْ يملأه بالتقى والإيمان والعفّة, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الْمُصطفى الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: إنّ الْمُتوضئ- يا أمة الإسلام- يَفْتَحُ الله -تعالى- له أبواب الجنة الثمانيةِ: فقد أخرج مسلم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أَوْ فَيُسْبِغُ- الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ, يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".
كم هو الشعور العظيم الذي يختلج في القلب, حينما يتوضأ العبد مُتبعًا أمر الله له, ثم يشهد بعدها شهادةَ يقينٍ وإيمان: بأَنْ لَا معبود بحقٍّ إِلَّا اللهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, ثم يستحضر وهو يقولها أنّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ تُفتح له, ليس بينه وبين دخولها إلا هذه النفس التي بين جنبيه.
هلاًّ- يا أمة الإسلام- تذَوَّقْنا هذه الحلاوة العظيمة عندما نتوضأ؟ هلاَّ توضأنا بهذه النيّة المباركة؟
إنّ المؤمن حينما يرى هذه الفضائل العظيمة, للوضوء وللركعتين بعدها, لن يُفرط بها أبدًا, وسيتوضأ أحسن الوضوء, وسيُصلّي الركعتين بخشوعٍ وطُمأنينةٍ وتُؤدة, يستحضر الأجر الجزيل المترتب على هذه العبادتين العظيمتين, وسيجد في بداية الأمر كُلفةً ومشقّة, ولكن لا يلبث حتى يجد لها أُنسًا ولذّةً.
نسأل الله -تعالى- الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, إنه على كل شيء قدير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم