عمر بن عبدالعزيز وأسوار العدل

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ وصية الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز 2/ صفات الإمام العادل 3/ العدل هو حصنُ البِلادِ الشَّديد 4/ فضائل العدل بين الرعية وفي الحكم 5/ بركات حكم الصالحين العادلين 6/ حسن خاتمة عمر بن عبد العزيز

اقتباس

بالعدلِ أحبَّ اللهُ –تعالى- عبدَه عُمرَ بنَ عبدِ العزيزِ .. ووَضعَ له القبولُ في الأرضِ فأحبَّه عبادُه الصَّالحونَ .. قَالَ سُهَيْلُ بنُ أَبِي صَالِحٍ: كُنْتُ مَعَ أَبِي غَدَاةَ عَرَفَةَ، فَوَقَفْنَا لِنَنْظُرَ لِعُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ، وَهُوَ أَمِيْرُ الحَاجِّ، فَقُلْتُ: يَا أَبتَاهُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ، قَالَ: لِمَ؟، قُلْتُ: لِمَا أَرَاهُ دَخَلَ لَهُ فِي قُلُوْبِ النَّاسِ مِنَ المَوَدَّةِ.. كتبتْ له امرأةٌ سوداءُ مسكينةٌ -تُسمَّى فَرْتُونَةُ السَّوداءُ- من الجيزةِ بمصر َكتاباً، وفيه: "أنَّ لها حائطاً لدارِها قصيراً متهدِّماً، يتسوّرُه اللُّصوصُ، ويسرقونَ دجاجَها، وليسَ معها مالٌ تنفقُه في هذا السبيلِ". فكتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى والي مصرَ أَيُّوبَ بْنِ شُرَحْبِيلَ: "من عبدِ اللهِ عمرَ أميرِ المؤمنينَ إلى أيوبَ بنِ شرحبيلَ، سلامُ اللهِ عليك، أما بعدُ: فإنَّ فَرتونةَ السَّوداءَ، كتبت إليَّ تشكو قِصرَ حائطِها وأن دجاجَها يُسرقُ منها، وتسألُ تحصينَه لها، فإذا جاءَك كتابي هذا، فاركبْ إليها بنفسِكَ وحصّنْه لها".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ الكِتابَ بالحقِّ والميزانِ، وأمرَ عبادَه بالعدلِ والإحسانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الذي حرَّمَ الظُّلمَ والعُدوانَ، والبَغيَ والطُّغيانَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه سيِّدَ ولدِ عدنانَ، المبعوثَ رحمةً للأنامِ وحُجَّةً على الإنسِ والجانِّ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الذينَ آمنوا به وآزروه ونصروه واتَّبعوه بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].

 

أما بعد: كتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمَه اللهُ تعالى- لما وُلِّي الخِلافةَ إلى الحسنِ البَصريِّ -رحمَه الله-، ليكتبَ إليه بصفةِ الإمامِ العادلِ، فكتبَ إليه الحسنُ -رحمَه الله-:

 

"اعلمْ يا أميرَ المؤمنينَ، أنَّ اللهَ جعلَ الإمامَ العادلَ قِوامَ كلِّ مائلٍ، وقَصْدَ كلِّ جائرٍ، وصلاحَ كلِّ فاسدٍ، وقوةَ كلِّ ضعيفٍ، ونَصَفَةَ كلِّ مظلومٍ، ومَفْزَعَ كلِّ ملهوفٍ.

والإمامُ العَدْلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- كالرَّاعي الشَّفيقِ على إبلِهِ، الرَّفيقِ بها، الذي يَرْتادُ لها أطيبَ المراعي، ويَذُودُها عن مَرَاتِعِ الهَلَكَةِ، ويحميها من السِّباعِ، ويَكُنُّها من أذى الحرِّ والقرِّ.

والإمامُ العَدْلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- كالأبِ الحاني على وَلَدِهِ، يسعى لهمْ صِغاراً، ويعلِّمُهم كِباراً؛ يكتسبُ لهم في حياتِه، ويدَّخرُ لهم بعدَ مماتِه.

والإمامُ العَدْلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- كالأمِّ الشَّفِيقةِ البَرَّةِ الرَّفِيقَةِ بولَدِها، حملتْهُ كُرهاً، ووضعتْهُ كُرهاً، وربَّته طِفلاً، تسهرُ بسَهَرِهِ، وتسكُنُ بسُكُونِهِ، تُرضِعُهُ تارةً وتفطِمُهُ أخرى، وتفرحُ بعافيتِهِ، وتغتمُّ بشِكَايَتِه.

والإمامُ العدلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- وصيُّ اليتامى، وخازنُ المساكينِ، يُرَبِّي صغيرَهم، ويَمُونُ كبيرَهم.

 

والإمامُ العدلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- كالقلبِ بينَ الجوارحِ، تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ، وتَفْسُدُ بفسادِهِ.

والإمامُ العدلُ -يا أميرَ المؤمنينَ- هو القائمُ بينَ اللهِ وبينَ عبادِهِ، يسمعُ كلامَ اللهِ ويُسْمِعُهُم، وينظرُ إلى اللهِ ويُرِيهِمْ، ويَنْقادُ إلى اللهِ ويقودُهُمْ.

فلا تكنْ -يا أميرَ المؤمنينَ- فيما ملَّكَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ كعبدٍ ائتمنَهُ سيِّدُهُ، واسْتَحْفَظَهُ مالَهُ وعِيالَهُ، فبَدَّدَ المالَ وشَرَّدَ العيالَ، فأَفْقَرَ أهلَهُ وفَرَّقَ مالَهُ.

واعلمْ -يا أميرَ المؤمنينَ- أنَّ الله أنزلَ الحُدودَ ليَزْجُرَ بها عن الخبائثِ والفَواحِشِ، فكيفَ إذا أتاها مَنْ يَلِيها؟، وأنَّ اللهَ أنزلَ القِصاصَ حياةً لعبادِهِ، فكيف إذا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لهمْ؟.

واذكرْ -يا أميرَ المؤمنينَ- الموتَ وما بعدَه، وقِلَّةَ أشياعِكَ عِندَهُ، وأنصارِكَ عليهِ، فتَزَوَّدْ لهُ ولما بعدَهُ من الفَزَعِ الأكبرِ.

واعلمْ -يا أميرَ المؤمنينَ- أنَّ لكَ مَنْزِلاً غيرَ مَنْزِلِكَ الذي أنتَ فيه، يَطولُ فيهِ ثَوَاؤُكَ، ويُفارِقُكَ أحِبَّاؤكَ، يُسْلِمونَكَ في قَعْرِهِ فريداً وحيداً؛ فتزوَّدْ لهُ ما يَصْحَبُكَ يومَ يَفِرُّ المرءُ من أخيهِ، وأمِّهِ وأبيه، وصاحِبَتِهِ وبنيه.

واذكرْ -يا أميرَ المؤمنينَ- (إذا بُعْثِرَ ما في القبورِ * وحُصِّلَ ما في الصدورِ)، فالأسرارُ ظاهرةٌ، والكتابُ لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أَحْصاها. فالآنَ -يا أميرَ المؤمنينَ- وأنتَ على مَهَلٍ، قبلَ حلولِ الأجَلِ، وانقطاعِ الأَمَلِ.

 

لا تحكمْ -يا أميرَ المؤمنينَ- في عبادِ اللهِ بحُكْمِ الجاهلينَ، ولا تَسْلُكْ بهمْ سبيلَ الظالمينَ، ولا تُسَلِّطْ المستكبرينَ على المستَضْعَفِينَ؛ فإنهمْ لا يَرْقُبُونَ في مؤمنٍ إِلًّا ولا ذِمَّةً، فَتَبُوءَ بأوزارِكَ وأوْزارٍ مع أوزارِكَ، وتَحْمِلَ أثقالَكَ وَأَثْقَالاً معَ أثقالِكَ.

 

ولا يَغُرَّنَّكَ الذينَ يتنعَّمونَ بما فيهِ بؤسُكَ، ويأكلونَ الطيِّباتِ في دُنياهُمْ بإذهابِ طيِّباتِكَ في آخرتِكَ، ولا تنظرْ إلى قُدرتِكَ اليومَ، ولكن انظرْ إلى قدرتِكَ غداً وأنتَ مأسورٌ في حبائلِ الموتِ، وموقوفٌ بينَ يديِ اللهِ في مَجْمَعٍ منَ الملائكةِ والنبيِّينَ والمرسلينَ، وقدْ عَنَتِ الوجوهُ للحَيِّ القيومِ.

إني -يا أميرَ المؤمنينَ- وإنْ لم أبلُغْ بعِظَتِي ما بَلَغَهُ أولو النُّهى منْ قبلي، فلَمْ آلُكَ شَفَقَةً ونُصْحاً، فأَنْزِلْ كتابي إليكَ كمُداوي حبيبِهِ يسقيهِ الأدويةَ الكريهةَ لما يرجو لهُ في ذلك منَ العافيةِ والصِّحَّةِ.

والسلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنينَ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ."

 

سبحانَ اللهِ .. موعظةٌ كافيةٌ شافيةٌ .. نحسبُها خرجتْ من قلبٍ صادقٍ .. إلى قلبٍ خاشعٍ .. فكانَ لها أبلغُ الأثرِ .. على خليفةِ المؤمنينَ عُمرَ .. -رحمَه الله تعالى-.

 

فلذلك أصبحَ إذا ذُكرَ العدلُ في التَّاريخِ .. ذُكرَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ .. الذي كانَ يقولُ لِجُلَسَائِهِ: "مَنْ صَحِبَنِي مِنْكُمْ فَلْيَصْحَبْنِي بِخَمْسِ خِصَالٍ: يَدُلُّنِي مِنَ الْعَدْلِ إِلَى مَا لَا أَهْتَدِي لَهُ، وَيكُونُ لِي عَلَى الْخَيْرِ عَوْنًا، وَيُبَلِّغُنِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا، وَلَا يَغْتَابُ عِنْدِي أَحَدًا، وَيُؤَدِّي الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَلَهَا مِنِّي وَمِنَ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فمَرْحَبَاً بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي حَرَجٍ مِنْ صُحْبَتِي وَالدُّخُولِ عَلَيَّ".

 

عبادَ اللهِ .. عرفَ عمرُ أن العدلَ هو حصنُ البِلادِ الشَّديدُ .. من كلِّ فتنةٍ داخليَّةٍ أو عدوٍ متربِّصٍ مَريدٍ ..

 

كَتَبَ بَعْضُ وُلاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِ: إِنَّ مَدِينَتَنَا قَدْ خَرِبَتْ، فَإِنَّ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْطَعَ لَهَا مَالًا يَرُمُّهَا بِهِ فَعَلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: "قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَمَا ذَكَرْتَ أَنَّ مَدِينَتَكُمْ قَدْ خَرِبَتْ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا، فَحَصِّنْهَا بِالْعَدْلِ، وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنَ الظُّلْمِ، وَالسَّلَامُ" (صاحب الحلية).

 

عن السائب بن محمد قال: كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك. فكتب إليه عمر: "أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام". (تاريخ الخلفاء للسيوطي 1/ 181).

 

بالعدلِ يكثرُ الخيرُ ويَصلحُ الحَالُ .. ويرتفعُ الفقرُ ويفيضُ المالُ.. حتى أصبحَ الرَّجلُ في زمانِه يسيرُ بزكاتِه بينَ البُلدانِ فلا يجدُّ من يأخذُها منه .. ثمَّ يردُّها إلى بيتِ المالِ .. قَالَ عُمَرَ بنِ أَسِيْدٍ: "وَاللهِ، مَا مَاتَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيْنَا بِالمَالِ العَظِيْمِ، فَيَقُوْلُ: اجْعَلُوا هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ، فَمَا يَبْرَحُ يَرْجِعُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، قَدْ أَغْنَى عُمَرُ النَّاسَ".

 

قد أطعمَ الجِياعَ فلم يُبقِ جائعاً، وزَوَّجَ الشَّبابَ فلم يُبقِ عَازباً، وقضى الدِّيونَ فلم يُبقِ مَديناً، حتى نَشرَ الحُبوبَ على أَسطحِ المنازلِ لتأكلَ الطَّيرُ، فلمَّا سُئلَ في ذلك قالَ: "حتى لا يُقالُ: إنَّ الطُّيورَ قد جاعتْ في بلادِ المُسلمينَ".

 

بالعدلِ ينتشرُ الحبُّ والسَّلامُ .. ويعمُّ بينَ المخلوقاتِ الوِئامُ .. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "لَمَّا اسْتُعْمِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى النَّاسِ، قَالَتْ رِعَاءُ الشَّاءِ في رؤوس الْجِبَالِ: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي قَامَ عَلَى النَّاسِ؟، قِيلَ لَهُمْ: وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَاكَ؟ قَالُوا: إِنَّهُ إِذَا قَامَ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةٌ عَدْلٌ كَفَّتِ الذِّئَابُ عَنْ شَائِنَا".

 

وقَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ: "كُنَّا نَرْعَى الشَّاءَ بِكِرْمَانَ فِي خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَانَتِ الشَّاءُ وَالذِّئَابُ وَالْوَحْشُ تَرْعَى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .. فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ عَرَضَ الذِّئْبُ لِشَاةٍ، فَقُلْتُ: مَا أَرَى الرَّجُلَ الصالحَ إلا قد هلكَ، فنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ مَاتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ".

 

كانَ يُوصي الأمراءَ والوزراءَ والقُضاةَ بالنَّاسِ .. وأن لا يكونَ بينَهم وبينَ أهلِ الحاجاتِ حُرَّاسٌ .. أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قاضي المدينةِ: "إِيَّاكَ وَالْجُلُوسَ فِي بَيْتِكَ، اخْرُجْ لِلنَّاسِ فَآسِ –أيْ: اعدلْ- بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْمَنْظَرِ، وَلا يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آثَرَ عِنْدَكَ مِنْ أَحَدٍ، وَلا تَقُولَنَّ هَؤُلاءِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ عِنْدِي الْيَوْمَ سَوَاءٌ، وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَاكْتُبْ إِلَيَّ فِيهِ".

 

بالعدلِ أحبَّ اللهُ –تعالى- عبدَه عُمرَ بنَ عبدِ العزيزِ .. ووَضعَ له القبولُ في الأرضِ فأحبَّه عبادُه الصَّالحونَ .. قَالَ سُهَيْلُ بنُ أَبِي صَالِحٍ: كُنْتُ مَعَ أَبِي غَدَاةَ عَرَفَةَ، فَوَقَفْنَا لِنَنْظُرَ لِعُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ، وَهُوَ أَمِيْرُ الحَاجِّ، فَقُلْتُ: يَا أَبتَاهُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ، قَالَ: لِمَ؟، قُلْتُ: لِمَا أَرَاهُ دَخَلَ لَهُ فِي قُلُوْبِ النَّاسِ مِنَ المَوَدَّةِ، وَأَنْتَ سَمِعْتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".

 

يقولُ شَيخُ الإسلامُ ابنُ تَيميَّةَ -رحمَه الله-: "فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ، وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ، وَلِهَذَا يُرْوَى: اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً".. كما قالَ القائلُ:

عليكَ بالعدلِ إن وُلِّيتِ مَملكةً *** واحذرْ مِن الجوْرِ فيها غايةَ الحذرِ

فالملك يبقَى على عدلِ الكفورِ ولا *** يبقَى مع الجوْرِ في بدْوٍ ولا حَضَرِ

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَني وإياكم بما فيه الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّم تسليماً كثيرًا، أما بعد:

 

كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ قريباً من عامَّةِ النَّاسِ .. وكانَ يأمرُ صاحبَ البريدِ أن لا يردَّ خِطاباً يأتيه من أحدٍ .. وأن يسلمَه إيَّاه بيدِه .. كتبتْ له امرأةٌ سوداءُ مسكينةٌ -تُسمَّى فَرْتُونَةُ السَّوداءُ- من الجيزةِ بمصر َكتاباً، وفيه: "أنَّ لها حائطاً لدارِها قصيراً متهدِّماً، يتسوّرُه اللُّصوصُ، ويسرقونَ دجاجَها، وليسَ معها مالٌ تنفقُه في هذا السبيلِ".

 

فكتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى والي مصرَ أَيُّوبَ بْنِ شُرَحْبِيلَ: "من عبدِ اللهِ عمرَ أميرِ المؤمنينَ إلى أيوبَ بنِ شرحبيلَ، سلامُ اللهِ عليك، أما بعدُ: فإنَّ فَرتونةَ السَّوداءَ، كتبت إليَّ تشكو قِصرَ حائطِها وأن دجاجَها يُسرقُ منها، وتسألُ تحصينَه لها، فإذا جاءَك كتابي هذا، فاركبْ إليها بنفسِكَ وحصّنْه لها".

 

وكتبَ إلى فَرتونةَ: "من عبدِ اللهِ عمرَ بنِ العزيزِ أميرِ المؤمنينَ إلى فَرتونةَ السَّوداءِ: سلامُ اللهِ عليك، أما بعدُ: فقد بلغني كتابُكِ، وما ذكرتِ فيه من قِصرِ حائطِك، حيث يُقتحمُ عليك، ويُسرقُ دجاجُك، وقد كتبتُ إلى أيوبَ بنِ شُرحبيلَ، آمرَه أن يبنيَ لك الحائطَ حتى يُحصّنَه مما تخافينَ -إن شاءَ اللهُ-".

 

فلما جاءَ الكتابُ إلى أيوبَ بنِ شُرحبيلَ ركبَ بنفسِه حتى أتى الجيزةَ وظلَّ يسألُ عن فَرتونةَ حتى وجدَها، فإذا هي سوداءُ مسكينةٌ، فأعلى لها حائطَها.

 

ومن كانتْ هذه في الدُّنيا سيرتُه .. حسُنتْ عندَ لقاءِ ربِّه خاتمتُه .. قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ، امْرَأَةُ عُمَرَ:كُنْتُ أَسْمَعُ عُمَرَ كَثِيرًا يَقُولُ: "اللهُمَّ أَخْفِ عَلَيْهِمْ مَوْتِي، اللهُمَّ أَخْفِ عَلَيْهِمْ مَوْتِي وَلَوْ سَاعَةً"، فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ خَرَجْتُ عَنْكَ فَقَدْ سَهِرْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَعَلَكَ تُغْفِي، فَخَرَجْتُ إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا، قَالَتْ: ثُمَّ أَطْرَقَ فَلَبِثْتُ سَاعَةً ثُمَّ قُلْتُ لِوَصِيفٍ لَهُ كَانَ يَخْدُمُهُ: ادْخُلْ فَانْظُرْ، قَالَتْ: فَدَخَلَ فَصَاحَ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَمَضَ عَيْنَيْهِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَضَمَّ فَاهُ بِالْأُخْرَى.

 

ولَمَّا جَاءَ نَعْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ –صاحبِ الوصيَّةِ- قالَ: مَاتَ اليَوْمَ خَيْرُ النَّاسِ.

 

اللهمَّ وفِّقْ وليَ أمرِنا لما تُحبُّ وترضى وخُذْ بناصيَتِه للبِرِّ والتَّقوى، وهيئْ له البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ التي تَدلُّه على الخيرِ وتُعينُه عليه يا ربَّ العالمينَ ..

 

اللهم وفِّقْه لهداكَ، واجعلْ عملَه في رِضاكَ، اللهم انصرْ به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، وانشرْ به سُنَّةَ نبيِّك صلى اللهُ عليه وسلمَ، وأقمْ به العدلَ، واقمعْ به الظلمَ وأهلَه إنَّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

 

 

 

المرفقات

عمر بن عبدالعزيز وأسوار العدل.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات