عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2013-12-08 - 1435/02/05
عناصر الخطبة
1/اسمه ونسبه وكنيته ولقبه 2/مولده وصفته الخلقية 3/مهن وحرف مارسها في الجاهلية 4/سبب إسلامه 5/جهر بإسلامه 6/صفة هجرته 7/بعض فضائله ومناقبه 8/اعتراضه على إقطاع الصدّيق للأقرع بن حابس وعينيه بن حصن 9/عدله(قصص) 10/زهده وورعه 11/وضعه للتاريخ الهجري 12/اهتمامه برعيته

اقتباس

أيها المسلمون: كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهنّ، ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهنّ، بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرقّ قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهنّ، وأسمعهنّ الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها.قالت أم عبد الله بنت حنتمة: "لما كنّا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نَلقَى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: كان لنا حديث فيما مضى عن صدّيق هذه الأمة، أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، واليوم حديثنا عن الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين-.

 

اسمه: عمر بن الخطاب بن نُفيل القرشي العدوي، يجتمع نسبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كعب بن لؤي بن غالب.

 

ويكنى أبا حفص، ولقب بالفاروق؛ لأنه أظهر الإسلام بمكة، ففرّق الله به بين الكفر والإيمان.

 

ولد عمر -رضي الله عنه- بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة.

 

وكان رضي الله عنه أبيضاً، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين.

 

وكان طويلاً جسيماً، وكان قوياً شديداً، لا واهناً ولا ضعيفاً، وكان يخضّب بالحنّاء.

 

وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع.

 

أيها المسلمون: أمضى عمر في الجاهلية شطراً من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنه كان ممن تعلّموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليلين جداً، وقد حمل المسؤولية صغيراً، ونشأ نشأة غليظة شديدة، لم يَعرف فيها ألوان الترف ولا مظاهر الثروة، ودفعه أبوه الخطاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثراً سيئاً في نفس عمر -رضي الله عنه-، فظل يذكرها طيلة حياته.

 

ولا شك أن حرفة الرعي التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل في الإسلام قد أكسبته صفات جميلة؛ كقوة التحمل، والجلَد، وشدة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته، بل حَذَقَ من أول شبابه ألواناً من رياضة البدن، فحَذَقَ المصارعة، وركوب الخيل والفروسية، وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كعكاظ ومجنّة وذي المجاز، واستفاد منها في التجارة ومعرفة تاريخ العرب وما حدث بين القبائل من وقائع.

 

وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونُظُم، وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عمّا يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عمّا يؤمن به، قاوم عمر دين الإسلام في أول الدعوة، وكان من أشد أهل مكة بطشاً بالمستضعفين ممن أسلم قبله.

 

ولقد ظل يضرب جارية أسلمت، حتى أعيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياءً، ومر عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها.

 

لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها وتقاليدها وأعرافها، ودافع عنها بكل ما يملك من قوة، ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته، وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والحق والباطل، ولذلك قال قولته المشهورة: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

 

أيها المسلمون: كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهنّ، ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهنّ، بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرقّ قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهنّ، وأسمعهنّ الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها.

 

قالت أم عبد الله بنت حنتمة: "لما كنّا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نَلقَى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً، فقال عمر: صحبكم الله، ورأيت منه رقة لم أرها قط، فلما جاء عامر بن ربيعة، وكان قد ذهب في بعض حاجته، وذكرت له ذلك، فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم، فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب".

 

لقد تأثر عمر من هذا الموقف، وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً، فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون؟! ما سر تلك القوة الخارقة؟

 

وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر -رضي الله عنه-، وبسبب دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانت السبب الأساسي في إسلامه، فقد دعا له بقوله: "اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبَّهما إليه عمر" [رواه الترمذي].

 

دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم. قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرُجَنّ.

 

فأذن بالإعلان، وخرج -صلى الله عليه وسلم- في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسمّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ الفاروق.

 

وتحدى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مشركي قريش، فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، فقال: أيُّ أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له جميل بن معمر الجُمحي.

 

يقول ولده عبد الله: فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت، فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، فو الله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ.

 

وعمر يقول من خلفه: كذب ولكنني أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.

 

فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبةُ يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم.

 

فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوّشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ، قال: فَمَهْ؟ امرؤا اختار ديناً لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون إليكم صاحبهم، فكأنما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بَني، ذاك العاص بن وائل السهمي.

 

أسلم عمر -رضي الله عنه- في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة -رضي الله عنه- بثلاثة أيام، وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين، فكمّلهم أربعين.

 

ولما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما-: "قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنَـَزته، ومضى قِبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي، قال عليُّ -رضي الله عنه-: فما تبعه أحد".

 

أيها المسلمون: إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر، وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته -رضي الله عنه- وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.

 

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما أنا نائم شربت اللبن حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر" فقالوا: فما أولته؟ قال: "العلم"[متفق عليه].

 

والمراد بالعلم في الحديث سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم رأيت الناس عُرضوا عليّ وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدين"[رواه مسلم].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر"[متفق عليه].

 

والمراد بالمحدَّث: الملهم، ومن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، قال العلامة شمس الدين ابن القيم -رحمه الله-: "ولا تظن أن تخصيص عمر -رضي الله عنه- بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق، بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقّاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله، بأنه الحكيم الخبير" انتهى.

 

أيها المسلمون: وفي خلافة الصديق -رضي الله عنه- كانت له مواقف عديدة؛ منها: اعتراضه على إقطاع الصدّيق للأقرع بن حابس وعينيه بن حصن؛ جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تُقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضاً سبخة لا يُنتفع بها؟ قالوا: نرى أن تُقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم.

 

فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد عمر، ولم يكن عمراً حاضراً في القوم تلك اللحظة، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائماً يهنأ بعيراً له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك، فقرءا، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمّرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما.

 

فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمّران، فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر: فقال: لا، بل هو لو كان شاء.

 

فجاء عمر وهو مغضب فوقف على أبي بكر، فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين، أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة، قال: بل للمسلمين عامة، قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا عليّ بذلك، قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضاً، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: قد كنتُ قلتُ لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني.

 

بارك الله لي...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: باشر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أعماله بصفته خليفةً للمسلمين فور وفاة أبي بكر -رضي الله عنه-.

 

ورُوي أنه لما وَلي الخلافة صعد المنبر، وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر، فقال: "ما كان اللهُ ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر" فنـزل درجة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أكمل خطبته.

 

لقد كان الفاروق قدوة في عدله، أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام، به تَفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل.

 

حكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، وقصته مع ابن عمرو بن العاص مشهورة، "مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".

 

وعندما أصاب الناس سنة جدبٍ بالمدينة وما حولها، فكانت تسفي الريح تراباً كالرماد، فسُمي ذلك العام عام الرمادة، فحلف عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس، وقال: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم". وعندما أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: "قرقر ما شئت، فو الله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس".

 

ولم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأُتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز.

 

وعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أُتي بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص، فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أَكُلّ المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أمّا لا، فارددهما.

 

ثم كتب إليه: أما بعد: "يا عتبةُ بنَ فرقدٍ! إنه ليس من كدِّكَ ولا من كَدِّ أبيك ولا من كدِّ أمِّكَ، فأشبِعِ المسلمين في رِحالهم، مما تشبعُ منه في رَحلِكَ، وإياكم والتَّنعمَ، وزيَّ أهلِ الشركِ، ولبوسَ الحريرِ! فإنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لُبوسِ الحريرِ، قال إلا هكذا، ورفع لنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إصبعَيه الوُسطى والسبَّابةِ وضمَّهما" [رواه مسلم].

 

مرض عمر يوماً، فوصفوا له العسل دواءً، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليّ حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه، وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.

 

أيها المسلمون: وكان أولُ من وضع التاريخ بالهجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وسبب ذلك أنه دُفِعَ إليه صكٌ محلُّه في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى، أو الذي هو آت، أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم. فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس، قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله.

 

فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه أقام عشر سنين، فكُتب التاريخ على هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وسبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأً.

 

أيها المسلمون: وكان عمر -رضي الله عنه- إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منك أن يتأخر.

 

قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمِنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذا الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخٍ بخ! ابن أمير المؤمنين، قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. قال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله ابن عمر! أُغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.

 

وكان عمر -رضي الله عنه- يقسم المال، ويفضّل بين الناس على السابقة والنسب، ففرض لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- أربعة آلاف، وفرض لعبدالله بن عمر -رضي الله عنه- ثلاثة آلاف، فقال: يا أبتِ! فرضت لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك! وما كان له من الفضل ما لم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك!.

 

خرج عمر -رضي الله عنه- في سواد الليل فرآه طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- فذهب عمر فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى! فقال طلحة: ثكلتك أمك! عثرات عمر تتَتَبَّع؟.

 

إن الاهتمام بضعفاء المجتمع من عوامل النصر، ومن القربات العظيمة التي يُتقرب بها إلى المولى -عز وجل-، فينبغي للقادة، وحكام الشعوب الإسلامية، وأئمة المساجد، والدعاة، وطلبة العلم، وأبناء المسلمين جميعاً أن يعتنوا بهذا الجانب الإنساني في مجتمعاتهم ويعطوه حقه، قال صلى الله عليه وسلم: "أبغوني الضَّعيفَ، فإنَّكُم إنَّما تُرزَقونَ وتُنصَرونَ بضعفائِكُم" رواه النسائي بسند صحيح.

 

وللحديث بقية...

 

اللهم...

 

 

 

المرفقات

بن الخطاب -رضي الله عنه- (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات