عناصر الخطبة
1/ مكانة علم المواريث. 2/ تعريف علم المواريث. 3/ أركان علم المواريث. 4/ شروط الإرث. 5/ حقوق التركة وترتيبها 6/ أسباب وموانع الإرث. 7/ عدالة الإسلام في توزيع الميراث. 8/ الأخطاء الشائعة في المواريث. 9/ التحذير من الظلم في الميراث والتلاعب في الوصيةاقتباس
ومما يدلُّ على عِظَمِ شأنِ عِلْمِ المواريثِ أنَّ الوصيَّةَ جاءت بها في قولهِ تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، قال القرطبيُّ: “إنَّ هذهِ الآيةَ رُكْنٌ مِن أركانِ الدِّينِ، وعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الأحكامِ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمدُ للهِ خَيْرُ الْوَارِثِين، الحمدُ للهِ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، وجَميعُ الأشياءُ تَرْجِعُ إِليهِ بَعْدَ فَنَاءِ أَهْلِها، ويَرِثُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا فلا يَبْقَى أَحَدٌ غَيْرُه، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون)، (وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون)، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الوارثُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- وتعلَّموا العِلْمَ النافعَ ومِن أعظمهِ علمُ المواريث، فهو من أعظم العلومِ قدراً، وأشرَفِها ذُخراً، وأفضلها ذِكْراً، ويكفي في فضله أن الله -سبحانه وبحمده- تولَّى قِسمةَ المواريثِ بنفسهِ وأنزلها في كتابه، وقد ورد الترغيب في تعلُّمه، قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “تَعَلَّمُوا القُرآنَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فإنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وإنَّ العِلْمَ سَيُقْبَضُ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ، حتَّى يَخْتَلِفَ الاثنانِ في الفَرِيضَةِ لا يَجِدَانِ مِنْ يَقْضِي بها” رواه الحاكم وصحَّحه ووثَّق رجالَه ابنُ حَجَر وضعَّفه كثيرون.
وعنِ الحَسَنِ قالَ: "كانُوا يُرَغِّبُونَ في تَعْلِيمِ القُرْآنِ والفَرَائِضِ والْمَنَاسِكِ" رواه الدارميُّ ووثَّقَ رجالَه مُحقِّقه.
وهو نصفُ العِلم، قال ابنُ حجر: “قالَ ابنُ عُيينةَ إذْ سُئِلَ عن ذلكَ: إنهُ يُبْتَلَى بهِ كُلُّ الناسِ، وقالَ غيرُهُ: لِأَنَّ لَهُمْ حالَتَيْنِ؛ حالةَ حَياةٍ وحالةَ مَوْتٍ، والفرائضُ تَتَعَلَّقُ بأحكَامِ الْمَوْتِ” انتهى.
ومما يدلُّ على عِظَمِ شأنِ عِلْمِ المواريثِ أنَّ الوصيَّةَ جاءت بها في قولهِ تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، قال القرطبيُّ: “إنَّ هذهِ الآيةَ رُكْنٌ مِن أركانِ الدِّينِ، وعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الأحكامِ، وأُمٌّ مِن أُمَّهَاتِ الآياتِ: فإنَّ الفَرَائِضَ عَظِيمَةُ القَدْرِ حتَّى إنها ثُلُثُ العِلْمِ” انتهى.
فما هُو عِلْمُ المواريثِ، وموضوعهُ، وثَمَرَتهُ، وحُكْمُ تعلُّمهِ، وأركانهُ، وشروطُه، وأسبابُه، وموانعُه، والحقوق الواردة فيه.
عباد الله: أما حَدُّ هذا العِلْمِ: قال الشيخُ ابنُ بازٍ: “هو العِلْمُ بفقهِ المواريث، وأما موضوعه: فهو التركات، وأما ثَمَرتُه: فهي إيصالُ ذوي الحقوق حقوقهم، وأما حُكْمهُ في الشرع: فهو فَرْضُ كِفايةٍ، قال القرافي: “وأجمعت الأمة على أنه من فروض الكفاية”، وأما أركانُه: فهي ثلاثة: وارثٌ ومُورِّثٌ وحقٌّ موروث، وأما شُروطه: فهي ثلاثة: الأول: تَحقُّق حياة الوارثِ حِين مَوْتِ الْمُورِّث، أو إلحاقهُ بالأحياءِ حُكْماً كالْحَمْلِ، الثاني: تَحقُّقُ موتِ الْمُورِّثِ، الثالثُ: العِلْمُ بمقتضى التوارُث، والْمُرادُ به معرفة سبب الإرث وجهة الوارث ودرجته ونحو ذلك، وأما أكثرُ ما يَرِدُ في تركةِ الْميِّت فهو خمسة حقوق وهي مُرتبة إن ضاقت التركة: الأول: مُؤنة التجهيز كالكَفَنِ وأُجرة الْحَفْرِ ونحوهما، الثاني: الدُّيون الْمُتعلِّقة بعين التركة، الثالث: الدُّيون المطلقة سواء كانت لله أو لآدمي، الرابع: الوصايا بالثلُثِ فأقل لأجنبي، فإن كانت بأكثر مِن الثلث أو لوارثٍ مُطلقاً فلا بُدَّ مِن رِضَى الورثة، الخامس: الإرث، وأما أسبابُ الميراث فثلاثة: نكاحٌ وولاءٌ ونَسَبٌ، وهو القَرابةُ، وأما موانع الإرث فثلاثة: القتل، قال -صلى الله عليه وسلم-: “لَيْسَ لقَاتِلٍ مِيرَاثٌ” رواه ابن ماجه وحسنه البوصيري، والثاني: الرِّق واختلاف الدِّين، قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الكَافِرَ ولا الكَافِرُ الْمُسْلِمَ” انتهى.
وقد تَمَيَّزت شريعتُنا الإسلامية بإعطاءِ الوارثين حقوقهم، خلافاً لليهود الذين حَرَموا الإناث من الميراثِ ولو كانت أُمَّاً أو بنتاً أو زوجة إلا إذا فُقِدَ الذكور، وخلافاً للرُّومانِ الذين يُسوُّون بين الإناث والذكور في الميراث ما عدا الزوجة فلا ترثُ مِن زوجها الْمُتوفَّى مُطلقاً، وخلافاً لأهل الجاهلية الذين يُورِّثون الذكور القادرين على حمل السلام، ويَرِثون النساء، فيأتي الوارث ويُلقي ثوبَهُ على أرملةِ أبيهِ ثمَّ يقول: وَرِثْتُها كما وَرِثْتُ مالَ أبي، فيتزوَّجُها بدونِ مَهْرٍ، أو يُزوِّجُها مَن يريدُ ويأخذ هو الْمَهْر، فخالفَ الإسلامُ هدي أهل الجاهلية، فأنزل الله في سورة النساء ثلاث آيات، اثنتان في أولها مِن قوله -سبحانه-: (يوصيكم الله في أولادكم) إلى قوله: (والله عليم حليم)، والثالثة في آخر السورة وهي قوله: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن اللهَ أَنزلَ في الفرائضِ ثلاثَ آياتٍ مُفصَّلةٍ ذكَرَ في الأولى الأصولَ والفروعَ، وذكَرَ في الثانيةِ الحاشيةَ التي تَرِثُ بالفرضِ كالزوجينِ ووَلَدِ الأُمِّ، وفي الثالثةِ الحاشيةَ الوارثةَ بالتعصيبِ وهُم الإخوةُ لأبوينِ أو لأَبٍ” انتهى.
عباد الله: لنتأمل هذه الآيات الكريماتِ وما تَحْمِلُه مِن كَمَالٍ وجَلالٍ، فاللهُ تولَّى قِسْمة المواريث بنفسه، وصَدَّر هذه الآيات بقول: (يوصيكم)، أي يَعْهَدُ إليكم ويفرضُ عليكم، فهذا التوريثُ مِن وصيَّةِ اللهِ لعباده، واللهُ عندَ ختم الآية الأولى قال: (فريضةً من الله)، وعند ختم الثانية: (وصيةً من الله)، وهاتفان اللفظتان تُحتِّمان العمل بالمفروض الْمُوصَى به ويزيدُهما تأكيداً وأهميةً لصدورهما من الله، واللهُ خَتَمَ كُل آيةٍ من هذه الآيات الثلاث بصفاتٍ مِن صفاته العظيمة، فختم الآية الأولى بقوله: (إن الله كان عليماً حكيماً)، والثانية بقوله: (والله عليم حليم)، والثالثة بقوله: (والله بكل شيء عليم)، فاللهُ شَرَعَ هذه المواريث عن عِلْمٍ وحِكْمةٍ وحِلْمٍ، واللهُ أعقَبَ الآيتين الأوليين بآيتين سمَّى فيهما هذه الأحكام التي شَرَعَها في المواريث حدودَهُ (تلك حدودُ الله)، ووَعَدَ مَن أطاعَه فيها بجناتٍ وخلُودٍ وفَوْزٍ، وتوَعَّد مَن عَصَاهُ فيها وغيَّر وبدَّل بالخلودِ في النارِ والعذابِ الْمُهين، كما أنه -سبحانه- ختم الآية الثالثة بقوله: (يُبيِّنُ اللهُ لكم أنْ تَضِلُّوا)، أي لِئَلاَّ تَضِلُّوا في قِسْمَةِ المواريث.
وقد فضَّل اللهُ الذكورَ على الإناثِ في بعضِ المواريث لِحِكَمٍ، قال ابنُ القيم: “وأما الْمِيراثُ، فحِكْمةُ التفضيل فيه ظاهرة، فإن الذَّكَرَ أحوج إلى الْمالِ مِن الأنثى، لأنَّ الرِّجال قوَّامون على النساء، والذكَرُ أنفَعُ للميِّتِ في حياتهِ مِن الأنثى، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقولهِ بعد أنْ فَرَضَ الفرائض وفَاوَتَ بين مقاديرها: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، وإذا كان الذكَرُ أنفعُ مِن الأنثى وأحوج كان أحقَّ بالتفضيل” انتهى، وقال النووي: “وحِكمتُهُ أنَّ الرِّجالَ تَلْحَقُهُم مُؤَنٌ كثيرةٌ بالقيامِ بالعِيَالِ والضِّيفانِ والأرِقَّاءِ والقاصدينَ ومُواساةِ السائلينَ وتَحَمُّلِ الغَرَاماتِ وغيرِ ذلكَ” انتهى.
وأيضاً: فليسَ كُلُّ حالاتِ ميراثِ المرأةِ أنَّ لَهَا نصف ما للرَّجُلِ، فهناك أربعاً وثلاثين حالة مِن أحوالِ الميراث ترِثُ فيها المرأةُ بنِسَبٍ مُختلفة: عشر حالاتٍ ترثُ فيها كالرَّجُلِ، مثل ميراث الأب والأم، (ولكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد)، وعشر حالاتٍ أُخرى ترِثُ المرأة فيها أكثر مِن الرجل، كقوله تعالى: (فإن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ)، فلو مات شخص وترك بنتاً وأباً، فنصيب البنت النصف والأب السدس مع بقية التركة، فأخذت البنت مثلما أخذ الجد، ومع ذلك لم يقل أحدٌ إنَّ كرامة الأب منقوصة، وهناك عشرُ حالاتٍ تَحْجبُ فيها المرأةُ الرَّجُل، مثل أن يموت شخص عن ابنٍ وبنتٍ وأخوينِ شقيقين، فالابنُ والبنتُ يأخذان التركة كلها، فوَرِثَتِ البنتُ ولم يرث الأخ الشقيق، وهناك أربعُ حالاتٍ فقط هي التي يكون فيها للذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين، وهذا يدُلُّكَ على إنصافِ الإسلام للمرأة المسلمة، وقد شَهِدَ بذلك أهلُ العَقْلِ والإنصاف مِن المسلمين والكافرين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمْداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ، مُباركاً عليهِ، كمَا يُحِبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ: فَمِنَ الأخطاءِ في المواريثِ: تقديم الوصية وقسمة التركة على الدَّينِ سواء كان لله مِن حَجِّ فَرْضٍ أو إخراجِ زكاةٍ أو الوفاء بنذرٍ أو كفارةٍ، أو كان للمخلوقين، واللهُ يقول: (من بعد وصية يوصي بها أو دين)، والدَّينُ مُقدَّم على الوصية بالقرآن والإجماع.
ومن الأخطاء: التأخير في قسمة الميراث، فيتسبَّبُ ذلك في الشحناء والقطيعة وضياع الحقوق.
وليحذر المسلم من التحايل على أكل الميراث بدونِ حقٍّ، فكم مِن امرأةٍ حُرمت مِن ميراثها، وكم مِن يَتَامَى أُكِلَت حقوقهم، وكم مِن ضعفاء لم يَجدُوا لهم ناصراً، والعجيبُ أنْ يكون الظلمُ بين الإخوة والأخوات، والظُّلْمُ حَرَامٌ حرَّمهُ اللهُ على نفسهِ وحرَّمهُ على عباده، فقال -سبحانه-: “يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا” رواه مسلم، واللهُ يقول: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار)، والله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).
وسيُؤدِّي الظلمُ في قسمةِ الميراثِ إلى قطيعةِ الرَّحِمِ، والله يقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم)، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما مِنْ ذنْبٍ أَجْدَرُ أنْ يُعَجِّلَ اللهُ لصاحبهِ العُقُوبَةَ في الدُّنيا معَ ما يَدَّخِرُ لهُ في الآخرةِ مِن البَغْيِ وقطيعةِ الرَّحِمِ” رواه الترمذي وصححه، ويقول: “اللهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حقَّ الضعيفينِ: اليتيمِ والْمرأةِ” رواه ابن ماجه وصححه البوصيري.
ومِن أسباب التعدِّي على الميراث: ضعف الإيمان، وقلَّةُ العلم، والاستهانة بحرمة المال، والْجَشَع والطَّمَع، والوصية الجائرة كأن تكون لوارثٍ، أو تزيد على الثلث، وبعض الظلمة من الورثة يقوم بتبديل وصية المورِّث الشرعية، واللهُ يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين - فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم).
وبعضُ الآباءِ يَلْجَأُ إلى قِسْمةِ تركتهِ قبلَ وَفَاتهِ خوفاً على أولادهِ مِن النزاع، واعتبرَ ذلكَ بعض العلماء هذه القِسمة في حُكْم العطية، فذهَبَ إلى وجُوب العَدْلِ بينهم فالذكر كالأنثى، وذهَبَ الحنابلةُ إلى أن تكون القِسمة كالقِسمة في الميراث للذَّكَرِ مثل حَظِّ الأُنثيين، وهذه القِسمة قبل الوفاة مَعَ مُخالفتها لفعلِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، فقد تُسبِّب النزاع بين الورثة قبل وفاة مُورِّثهم وبعد وفاته، كأنْ تكون القسمة بينهم في العقارات، فهذا نصيبه في بلَدِ كذا وهذا في منطقة كذا وهذا في حَيِّ كذا، وهذا يقولُ ظَلَمَنِي أبي فقد جَعَل عقارَ أخي في المكان الفلانيِّ على الشارع الفُلانيِّ وأنا في مكانٍ أقل، وهكذا.
ويَجبُ أن يقومَ الْمُصْلِحُون في كلِّ عائلةٍ بالإصلاح بين الورثة وأَطْرِ الظالمِ منهم على الحقِّ أَطْراً، فإنْ لم يَسْتَجب فيُرْفَعُ أمرُه إلى المحكمة الشرعية.
عباد الله: واجتهِدُوا ألاَّ تتركوا أولادَكُم بعدَ موتِكُم عَالَةً يَتكَفَّفُون الناس، فعن عامرِ بنِ سعدٍ عن أبيهِ قالَ: "عادَنِي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّةِ الوَدَاعِ مِن وَجَعٍ أَشْفَيْتُ منهُ على الْمَوْتِ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، بَلَغَ بي مِن الوَجَعِ ما تَرَى، وأنا ذُو مالٍ، ولا يَرِثُني إلاَّ ابنةٌ لي واحدةٌ، أفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مالي؟ قالَ: لا، قلتُ: أفَأَتَصَدَّقُ بشَطْرِهِ؟ قالَ: لا، قلتُ: فالثُّلُثِ، قالَ: والثُّلُثُ كثيرٌ، إنكَ أنْ تَذَرَ ورَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ، ولَسْتَ تُنْفِقُ نفَقَةً تَبتغي بها وجْهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ بها، حتى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُها في فِيِّ امْرَأَتِكَ” الحديث رواه البخاري ومسلم.
واحذروا أنْ تَجُورُوا في وصاياكم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ والْمَرأَةُ بطاعةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُما الْمَوْتُ فيُضَارَّانِ في الوصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُما النَّارُ” رواه الترمذي وقال: “حَسَنٌ غَريبٌ”، ولَمَّا قال حنيفةُ -رضي الله عنه-: “أَرَدْتُ أنْ أُوصِيَ، وإني قلتُ: إنَّ أَوَّلَ ما أُوصِي أنَّ لِيَتِيمِي هذا الذي في حِجْرِي مِئَةً مِن الإبلِ كُنَّا نُسَمِّيها في الجاهليَّةِ: الْمُطَيَّبَةَ، فَغَضِبَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حتى رَأَيْنا الغَضَبَ في وَجْهِهِ، وكانَ قاعداً فَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، وقالَ: "لا، لا، لا، الصَّدَقَةُ خَمْسٌ، وإلاَّ فَعَشْرٌ، وإلاَّ فَخَمْسَ عَشْرَةَ، وإلاَّ فعِشْرُونَ، وإلاَّ فَخَمْسٌ وعِشْرُونَ، وإلاَّ فَثَلاثُونَ، وإلا فَخَمْسٌ وثلاثُونَ، فإنْ كَثُرَتْ فأَرْبَعُونَ" رواه الإمام أحمد وصحَّحه مُحقِّقو الْمُسند.
فلا يَحِقُّ للمُوَرِّثِ أنْ يُوَرِّثَ مَحْرُوماً أو يَحْرِمَ وارثاً حتى ولو كان قاطعاً، ولا يُوصي لغيرِ وارثٍ أكثر مِن الثلث، وعلى المسلمِ أنْ يَحرِصَ على كتابةِ وصيتهِ وإخبار أولاده بها، وأن تكون ظاهرة لا مَخْفِيَّة، فقد لا يعلمون بها إلا بعد سنوات، عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: “ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أنْ يُوصِيَ فيهِ يَبِيتُ ليْلَتَيْنِ إلاَّ ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ” رواه البخاري ومسلم.
أحسن اللهُ أعمالنا وآجالنا، وأغنى ذُريَّاتنا وذراري المسلمين، آمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم