علم الله تعالى

الشيخ عبدالله اليابس

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/ اختفاء الطائرة الماليزية وعدم الوصول لمكانها 2/ مقارنة بين علم البشر القاصر وعلم الله المحيط 3/ دلائل إحاطة علم الله بالموجودات 4/ ثمرات معرفة اسم الله العليم 5/ أمثلة واقعية لمراقبة الله -عز وجل-

اقتباس

طائرة تقلع من ماليزيا وعلى متنها أكثر من مائتين وثلاثين نفسًا بشرية، وبعد فترة من إقلاعها تُفقد الطائرة، بركابها، تهرع فرق البحث لإيجاد تلك الطائرة ولكن لا جدوى، تتسارع الدول للمشاركة في البحث عن هذه الطائرة حتى زاد عدد الدول المشاركة في عملية البحث عن خمس وعشرين دولة، وإلى هذه اللحظة لا أثر لهذه الطائرة.

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ), (ياَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً), (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

 

أما بعد:

 

طائرة تقلع من ماليزيا وعلى متنها أكثر من مائتين وثلاثين نفسًا بشرية، وبعد فترة من إقلاعها تُفقد الطائرة، بركابها، تهرع فرق البحث لإيجاد تلك الطائرة ولكن لا جدوى، تتسارع الدول للمشاركة في البحث عن هذه الطائرة حتى زاد عدد الدول المشاركة في عملية البحث عن خمس وعشرين دولة، وإلى هذه اللحظة لا أثر لهذه الطائرة.

 

استخدموا الطائرات والأقمار الصناعية والمكبرات وجميع الأجهزة الحديثة في البحث عن أثر ولو بسيط لتلك الطائرة العملاقة، لكن رجعوا بخفي حنين.

 

في العلم البشري ما زال الأمر لغزاً, ولا أحد ممن على ظهر الأرض يعلم عن موقع تلك الطائرة, جميع الاستخبارات والقوات والجيوش والمعسكرات لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويلاً.

 

هذا علم البشر، ضعيف، قليل، قاصر، مهما تطورت التقنيات، ومهما تباهى الإنسان بقدرته على كل شيء, وبعلمه بكل شيء, لكن كل هذا العلم لا يساوي شيئًا أمام علم الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).

 

رأى موسى -عليه السلام- لما كان مع الخضر طائرًا ينقر في البحر ليأخذ من مائه, فقال الخضر: "يا موسى: إن معك علمًا لم يعلمنيه الله تعالى, ومعي علم لم يعلمكه الله -عز وجل-, يا موسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر".

 

الله -تبارك وتعالى- هو العليم، العالم، العلام، ورد اسم الله -تبارك وتعالى- (العليم) في كتاب الله تعالى مائة وسبعًا وخمسين مرة.

 

إذا كان البشر عجزوا عن إيجاد طائرة ضخمة فيها أكثر من مائتين وثلاثين نفسًا بشرية فإن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ), يعلم سبحانه عن سقوط الورقة من الشجرة في الغابة المليئة بالأشجار, يعلم أين وقعت, ومتى ستقع, وكيف ستقع, يعلم عن الحبة في ظلمة الأرض, يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء, بل أدق من ذلك (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

 

جاءت خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- تشكو أمرها وزوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكانت دار النبي -صلى الله عليه وسلم- مجرد حجرة صغيرة ضيّقة, وكانت عائشة -رضي الله عنها- في جانب الدار ولا تسمع حديث خولة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وسمعها الله -جل الله في علاه-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

 

وهو العليم أحاط علمًا بالذي *** في الكون من سر ومن إعلان

وبكل شيء علمه سبحانه *** فهو المحيط وليس ذا نسيــــان

وكذاك يعلم ما يكون غدًا وما *** قد كان والموجــود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـــ *** ــف يكـون ذا الأمر ذا إمكان

 

(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)، (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

 

يقول الخطابي -رحمه الله-: "والآدميون -وإن كانوا يوصفون بالعلم- فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات دون نوع, وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال, وقد تعترضهم الآفات فيَخلُفُ علمهم الجهل, ويَعقُبُ ذكرهم النسيان, وقد نجد الواحد منهم عالمًا بالفقه غير عالم بالنحو, وعالمًا بهما غير عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور, وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)، (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)". اهـ.

 

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إذا تبيّن لنا سعة علم الله تعالى, واطلاعه على كل صغير وكبير, وعلمه بما تخفي الصدور وما تنويه النفوس, فإنه لا بد لهذا العلم أن يثمر ويطبق على أرض الواقع.

 

إن من أهم ثمار معرفة اسم الله العليم هو مراقبة الله -تبارك وتعالى- في السر والعلن:

 

وما بصرت عيناي أجمل من فتى *** يخاف مقام الله في الخلوات

 

أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم إلا ظله عن سبعة أصناف من البشر, ويجمع جميع هذه الأصناف صفة المراقبة: "الإمام العادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".

 

قال ابن المبارك -رحمه الله- لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله عن تفسيرها فقال: "كن أبدًا كأنك ترى الله -عز وجل-".

 

قال أبو عثمان: قال لي أبو حفص: "إذا جلست للناس فكن واعظًا لنفسك وقلبك, ولا يغرنك اجتماعهم عليك, فإنهم يراقبون ظاهرك, والله رقيب على باطنك".

 

وقال ابن عطاء: "أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات".

 

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيـب

ولا تحسبن الله يغفل ســاعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغــيــب

ألم تر أن الـــيوم أسرع ذاهب *** وأن غدًا للناظرين قـــريب

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

لما عصى إبليس -لعنه الله- ربه -تبارك وتعالى- وطُرد من الجنة, هدد وتوعد بني آدم: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين), ويقول الله تعالى عن إبليس: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا).

 

إذاً فعدونا الأزلي هو إبليس -لعنه الله-, وقد سخّر حياته لإضلال بني آدم, وهدفه في الحياة -كما يقال- هو إدخالهم معه نار جهنم.

 

الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-, فلذلك فإنه يزين للإنسان معصية الله -تبارك وتعالى- إذا خلا بنفسه ولا رقيب عليه ولا حسيب, فإذا غاب عن الإنسان علم الله تعالى به واطلاعه عليه مالت نفسه إلى الحرام وعصى الله تعالى.

 

قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى مكة، فعرَّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل, فقال له: يا راعي الغنم: بعني شاة من هذه الغنم, فقال: إني مملوك, فقال: قل لسيدك أكلها الذئب, فقال: فأين الله؟! قال: فبكى عمر -رضي الله عنه-, ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال: "أعتَقَتك في الدنيا هذه الكلمات وأرجو أن تعتقك في الآخرة".

 

ولعلّ أغلبكم شاهد التسجيل المرئي الذي انتشر قبل فترة لراعي غنم في جوف الصحراء، يعرض عليه أحد المارة شراء شيء من غنم كفيله, فيرفض ذلك ويقول: وما تنفعني النقود في قبري؟! فجازاه الله تعالى مبالغ مالية كبيرة كافأه بها بعض المحسنين جزاءً لأمانته.

 

وما أبصرت عيناي أجمل من فتى *** يخاف مقام الله في الخلوات

 

قال ابن رجب -رحمه الله-: "أكره رجل امرأة على نفسها, وأمرها بغلق الأبواب, فقال لها: هل بقي باب لم يغلق؟! قالت: نعم؛ الباب الذي بيننا وبين الله! فلم يتعرض لها".

 

وراود رجل امرأة عن نفسها، فلمّا تمكّن منها قال: من يراني ويراك غير هذا الكوكب؟! قالت: فأين مكوكبها؟! أين الله؟! فتركها وخلى سبيلها.

 

لا شك أن الوصول للمعاصي في هذا الزمان سهل الإمكان, فالمنظر الحرام والمسمع الحرام بين يديك في جوالك وأنت على فراشك لا يعلم بك أقرب الناس إليك، لكن:

 

وإذا خلوت بريبة في ظلــمــة *** والناس داعية إلى العصيانِ

فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

 

قال رجل للجنيد: بمَ أستعين على غض البصر؟! قال: "بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه".

 

لو علم أحدنا أن شخصًا ممن يحبه ويجلّه ويقدّره يراه على تلك المعصية لم يتجرأ على ارتكابها، بل حتى لو علم أن طفلاً يشاهده ما تجرّأ على ذلك، فكيف بربك -تبارك وتعالى- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟!

 

تعصي الإله وأنت تظهر حبــــه *** هذا محال في القياس بديـــع

لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيــع

في كل يوم يبتديـــك بنعمة *** منه وأنت لشكر ذاك مضيع

 

الشجاعة صبر ساعة، ومن راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

 

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله.

 

 

 

 

المرفقات

الله تعالى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات