علم الأبراج

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ، وَاصْبِرُوا وَصَابِرُوا؛ فَإِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].

 

عِبَادَ الله: أَقْسَمَ اللهُ بِالسَّمَاءِ، وَمَا فِيْهَا مِنَ الأَبْرَاج، قال -جل جلاله-: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)[البروج: 1]. قالَ المُفَسِّرُونَ: “أَيْ ذَاتِ المَنَازِلِ المُشْتَمِلَةِ عَلَى الكَوَاكِبِ المُنْتَظِمَةِ في سَيْرِهَا، وَهِيَ مَنَازِلُ مُرْتَفِعَةٌ عَالِيَةٌ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا”.

 

وَفِي هَذَا العَصْرِ؛ ظَهَرَ مَا يُسَمَّى بِعِلْمِ الأَبْرَاجِ: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ وَالكِهَانَةِ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ؛ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ!”(رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني).

 

وَقَطَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- العِلَاقَةَ بَيْنَ الأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ، وَالحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ؛ فَفِي الحَدِيث: “إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ”(رواه البخاري، ومسلم). قَالَ قَتَادَةُ: “خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا؛ فَمَنْ تَأَوَّلَ غَيْرَ ذَلِكَ: أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ”(صحيح البخاري، كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بابٌ في النجوم).

 

وَتَعْلِيْقُ الحَظِّ بِالأَبْرَاجِ أَوْ تَحْلِيل الشَّخْصِيَّةِ بِوَاسِطَتِهَا نَوْعٌ مِنَ الوَثَنِيَّةِ الحَدِيْثَةِ، وَالكِهَانَةِ الجَدِيْدَة، قالَ أَهْلُ الفَتْوَى: “تَعْلِيْقُ النَّحْسِ وَالسَّعْدِ في الأَفْلَاكِ والأَبْرَاجِ: مِنْ شِرْكِ المَجُوسِ والصَّابِئَةِ، وَهُوَ دَجَلٌ وَكَذِبٌ، وتَلَاعُبٌ بِعُقُولِ النَّاسِ، وَإِدْخَالٌ لِلْفَسَادِ في عَقَائِدِهِمْ؛ وَعَلَيْهِ فَإِنَّ “أَبْرَاجَ الحَظِّ”: يَحْرُمُ نَشْرُهَا والنَّظَرُ فِيْهَا”.

 

وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ النُّجُومَ مُؤَثِّرَةٌ وفَاعِلَةٌ بِذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تَخْلُقُ الحَوَادِثَ؛ فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَر؛ لِأَنَّ ادَّعَى أَنَّ مَعَ اللهِ خَالِقًا آخَرَ.

 

وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الأَبْرَاجَ وَسِيْلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الغَيْبِ، ويَسْتَدِلّ بِحَرَكَاتِهَا السَّمَاوِيَّةِ، عَلَى الأَحْدَاثِ الغَيْبِيَّة؛: كَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ سَتَكُوْنُ حَيَاتُهُ كَذَا، أو شَخْصِيَّتُهُ كَذَا؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ في بُرْجِ كَذَا! فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَر؛ لِأَنَّهُ ادِّعَاءٌ لِعِلْمِ الغَيبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ! (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله)[النمل: 65].

 

وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الأَبْرَاجَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الشَّيءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَيَنْسِبُهُ إلى الأَبْرَاجِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَر؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ سَبَبًا -لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ سَبَبًا شَرْعِيًّا وَلَا قَدَرِيًّا-؛ فَقَدْ وَقَعَ في الشِّرْكِ الأَصْغَر؛ لِأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ: هُوَ مُسَبِّبُ الأَسْبَاب.

 

وَمِنْ ذَلِكَ: نِسْبَةُ الأَمْطَارِ إلى الأَبْرَاجِ؛ وأَنَّهَا سَبَبٌ في نُزُوْلِهَا؛ فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ الصُّبْحِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْل؛ فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ قَالَ: “هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟” قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: “أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ! فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ! وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ”(رواه البخاري، ومسلم).

 

وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِـسَيْرِ النُّجُومِ عَلَى مَعْرِفَةِ الجِهَاتِ، وَأَوْقَاتِ الفُصُوْلِ والأَمْطَارِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تُدْرَكُ بِـالحِسِّ وَالعِلْمِ والتَّجْرِبَةِ؛ لا بِالتَّخَرُّصِ والوَهْمِ! قال تَعَالَى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)[النحل: 16].

 

وَمَنْ ذْهَبَ إِلَى أَهْلِ الأَبْرَاجِ وَسَأَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيق؛ وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ الفُضُوْلِ والتَّسْلِيَةِ مَثَلاً؛ فَقَدْ وَقَعَ في كَبِيْرَةٌ شَنِيْعَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوب، قال -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً”. وَالعَرَّافُ: اِسْمٌ لِكُلِّ مَنْ يَدَّعِى مَعْرِفَةَ الغَيْبِ، وَيْدُخُلُ فِيهِ أَهْلُ الأَبْرَاجِ! والاِتْيَانُ إِلَيْهِمْ: يَشْمَلُ الإِتْيَانَ إِلى أَمَاكِنِهِم، أو الاِتِّصَالِ عَلَيْهِمْ، أو مُشَاهَدَةِ قَنَوَاتِهِمْ، أو قِرَاءَةِ صُحُفِهِمْ وَمَجَلَّاتِهِمْ.

 

وَمَنْ ادَّعَى الغَيبَ بِأُمُورٍ خَفِيَّةٍ؛ فَهُوَ دَجَّالٌ يَسْتَعِينُ بِالشَّيطان، أو يَسْتَعِينُ بِالكَذِبِ والبُهْتَان، (هلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)[الشعراء: 221-222].

 

وَتَصْدِيْقُ الأَبْرَاجِ تَكْذِيْبٌ لِلْقُرْآن، وَكُفْرٌ بِالرَّحْمَن، قال عز وجل: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-”.

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

أَمَّا بَعْدُ: يَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِ في تَعَامُلِهِ مَعَ الغَيبِ المَجْهُولِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ، مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ المُبَاحَةِ، وأَنْ يَحْذَرَ مِنْ تَصْدِيقِ الأَبْرَاجِ؛ وَلَوْ تَلَبَّسَ أَصْحَابُهَا بِلِبَاسِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، أو التَّسْلِيَةِ وَالبَهْرَجَةِ! قَالَتْ عَائِشَةُ: “مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ”، ثُمَّ قَرَأَتْ: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) [لقمان: 34] (رواه البخاري).

 

فَلا تَسْمَحُوا لِهَؤُلاءِ الأَفَّاكِيْنَ أَنْ يَتَلَاعَبُوا بِدِيْنِكُمْ، وَيَسْتَخِفُّوا بِعُقُوْلِكُمْ؛ فَحَافِظُوا عَلَى تَوْحِيْدِكُمْ؛ فَهُوَ رَأْسُ مَالِكُمْ، وَسَبَبُ نَجَاتِكُمْ! (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 45].