علاقة المسلم بالدنيا

محمد الغزالي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ اتهام الماديين للإسلام بترك الدنيا وإهمالها 2/ تصحيح مفهوم العبادة والعمل الصالح 3/ التمكن من الدنيا من ثمرات الإيمان الحق 4/ نماذج من تمكين الصالحين في الأرض

اقتباس

يؤسفنا كل الأسف، بل ينكس رؤوسنا، أن العمل الذي برز فيه هذا الرجل الصالح قديماً لا يحسنه الآن من ينتسبون إلى الصلاح والتقوى! بل يحسنه من أتقنوا الإلحاد والزيغ في الأرض! لماذا؟ لأن الذين يزعمون الصلاح والتقوى ظنوا الجهل بهذه الأمور عبادة، وحسبوا أن عيش المرء على ظهر الأرض وهو جاهل بقوانينها، عاجز عن تسخيرها وتطويعها، يؤهله للدار الآخرة! هذا كذب، هذا غباء شاع أيام الغباء في تاريخنا، وتاريخنا كالموج يرتفع ويهبط ..

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

 

وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد: فما هي علاقة المسلم بالدنيا التي يعيش فيها؟ إن بعض الملحدين -من شرق الأرض وغربها- يقولون: إن الدين يعلِّق أتباعه بالدار الآخرة، ويصرف أفكارهم إلى نواح غيبية مبهمة، ويبدد قواهم وراء العمل للدار التي يتوهمون أنهم يحشرون فيها، أو يعودون إلى ربهم فيها، وذلك كله على حساب علاقتهم بهذه الأرض وما فيها ومن فيها، فترى المتدينين يضيقون بالحياة، ويستوحشون منها، ولا يأسون لما يفوتهم من التقدم فيها، والاستكثار من خيرها، ويظنون أنهم إنما يحرزون أنصبتهم من الكمال النفسي، ومن التقدم الأخروي، على أنقاض هذه الحياة التي يتجهمون لها، ويجهلون أساليب العيش بها. هذا كلام يقوله الملحدون من أصحاب الفلسفات الشرقية أو الغربية عموما وهم ينتقدون الدين ونظرته إلى الحياة.

 

ونحن -من باب الأمانة- نقول: إن هذا التفكير إذا قيس بحقائق الإسلام المقررة، وقيمه المعتمدة، والمعاني التي توطدت واستقرت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ تبين أنه كلام تافه لا وزن له؛ لكن لاشك أن بعض المتدينين أعان على توجيه هذه التهم للإسلام، وأن مسلكه في الدنيا هو الذي جعل ألسنة أعداء الله تطول في قيمة الدين وأثره.

 

ولو أن المسلمين أنصفوا أنفسهم وكتابهم ونبيهم، وأحسنوا الأسوة بسلفهم الصالح، وتمشوا في الطريق التي أقام عليها الآباء الكبار أعرق حضارة عرفتها الدنيا؛ لكان الملحدون من شرق الأرض وغربها قد تقاصروا عن هذا الكلام، وعجزوا عن توجيه التهم للإسلام؛ ولكننا أسأنا الفهم، وأسأنا العمل، فكان من سوء الفهم وسوء العمل ما حرَّض أعداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يصفوا دينه بهذا الوصف الذي لا أصل له.

 

ما علاقة المسلم بهذه الدنيا؟ قال بعض العلماء: إن الإنسان له ناحيتان متقابلتان: هو أمام الله عبد يخضع له ويتلقى منه، وهو في هذا الكون الذي يعيش فيه سيد يصدر أوامره؛ هو أمام الله تابع يتلقى الأوامر، وليس له بالنسبة لهذه الأوامر إلا السمع والطاعة، ولكنه بالنسبة إلى الدنيا- التي يعيش فيها- ملك، يتنقل في فجاجها، ويسخِّر كل شيء له، وله الحق أن يقترح وأن يجتهد وأن يبتدع؛ لأنه أعلم بشؤون دنياه. أما في شؤون الدين فلا حق له في اقتراح ولا ابتداع؛ لأنه يتلقى عن الله فقط.

 

الناحيتان المتقابلتان في كيان الإنسان هما النطاق الذي يعمل داخله، هو أمام الله عبد، يعترف بحقه، ويسبح بحمده، ويشعر بجميله، ويستعد للقائه، ويأبى أن يشعر بأن الحول كله له أو الطول كله له؛ يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

أما الناحية الثانية في الإنسان -وهى أنه سيد في الكون- فهي تجيء من أن الله جعله كذلك, مكَّنه وملَّكه وسخَّر له، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:12-13]. هذا التسخير للإنسان هو الذي يحدد لنا ما مكانة الإنسان في الأرض، وعلاقته بهذه الدنيا التي يعيش فيها.

 

هل خلق الإنسان ليكون مزلزَل القدم على ظهر الأرض؟ هل خلق ليكون غريبا بين خيرات الله التي أحاطت به؟ كلا، يقول الله جل شأنه: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف:10].

 

التمكين في الأرض وظيفة لها مؤهلات، وما يستطيع أن يكون مكينا في الأرض إلا من استجمع الخصائص الأدبية، والمواهب العقلية، والإمكانات المادية التي تجعل له هذا التمكين المطلوب؛ ولعله مما ينبغي توجيه النظر إليه أن الله سبحانه وتعالى كلما أنعم على إنسان جعل التمكين في الأرض مرادفا لهذه النعمة، فيوسف -عليه الصلاة والسلام- عندما تولى شؤون المال في "مصر" قال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55]، فهو يطلب منصبا ترشِّحُه له مؤهلات خاصة -الحفظ والعلم- ولو كان لا يستجمع هذه الصفات ما أهل، ولا طلب، وما ينبغي له أن يطلب وهو لا يحفظ ولا يعلم، يقول الله -جل شأنه- بعد أن نال يوسف هذه الوظيفة: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) [يوسف:56].

 

هل هذا التمكين في الأرض نقمة أو لعنة؟ لا؛ هو نعمة من الله، يقول جل شأنه: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:56]، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فقد تولت الآية التي بعدها شرح المكانة الأخروية: (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف:57].

 

تحدث القرآن الكريم عن ذى القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف:83-85]، التمكين في الأرض كان الصفة البارزة في قصة الرجل الذي أراد الله أن يسوق لنا خبره، وأن يحكى لنا تاريخه، وهنا نرى أن التمكين في الأرض يبدأ نعمة من الله على من أراد من خلقه، فهو يمهد له ويعينه؛ ولكن على من يحظى بهذه النعمة أن يبذل قواه، وأن يمد أسبابه فإنه إن انكمشت يده وانقبضت، ولم يؤت السبب المطلوب منه؛ ضاعت النعمة ولم تبق له، ولذلك يقول جل شأنه: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) أي: أدى ما عليه واشتغل، وبذل الجهد.

 

ونرى جهده بارزا في عملٍ يؤسفنا كل الأسف، بل ينكس رؤوسنا، أن العمل الذي برز فيه هذا الرجل الصالح قديماً لا يحسنه الآن من ينتسبون إلى الصلاح والتقوى! بل يحسنه من أتقنوا الإلحاد والزيغ في الأرض! لماذا؟ لأن الذين يزعمون الصلاح والتقوى ظنوا الجهل بهذه الأمور عبادة، وحسبوا أن عيش المرء على ظهر الأرض وهو جاهل بقوانينها، عاجز عن تسخيرها وتطويعها، يؤهله للدار الآخرة! هذا كذب، هذا غباء شاع أيام الغباء في تاريخنا، وتاريخنا كالموج يرتفع ويهبط، وقد شاعت -ولا تزال- أفكار من أيام الهبوط في حضارتنا!.

 

هذا الرجل -ذو القرنين- جاء إلى قوم من الهمل -يشبهون الأمة الإسلامية الآن- لما جاءهم قالوا له شاكين باكين: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) جائزة ومكافأة (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف:94]،لم لا يحسنون بناء سد لهم؟ لأنهم عجزة! فكان الرجل ذكيا تقيا قال: أنا مستغن عن جوائزكم ومكافأتكم وخرجكم: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف:95-96] قطعه (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: بين جانبي الوادي (قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف:96]، أي: نحاسا ذائبا (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف:97].

 

سطر في القرآن الكريم وصف استحكامات حربية قامت كل أساس من سدود أذيب فيها النحاس والحديد والصخر والتراب فكان سدا ضخما! مَن المهندس الذي أشرف على هذا العمل؟ رجل صالح من عباد الله الصالحين! وهذا العمل فيما يتصور الناس ليس عمل عباد الله الصالحين الآن! لماذا؟ لأن عمل عباد الله الصالحين في تصور الأغبياء أن يضعوا مسبحة بين أيديهم ثم يبدؤون العبث بحباتها ويحسبون ذلك ذكرا لله، وهو نسيان لله! ليس هذا تدينا.

 

ثم نرجع إلى الإسلام نفسه في نصوصه القرآنية والنبوية لنرى الموضوع مفصلا. من أهم ما تقوم به الأمم الزراعة، يرى الإسلام أن الزراعة عبادة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:  "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". وروى أحمد بن حنبل في مسنده: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل" ومعنى هذا أنك تعمل إلى قيام الساعة، فلو قامت الساعة وأنت تزرع فلا ترم ما بيدك، بل تمم الزراعة، فإنك في عمل صالح يحسب لك.

 

ومن عجائب الإسلام أنه اعتبر أن الاقتصاد الإسلامي لا يجوز أن يقوم على مصدر واحد من مصادر الثروة، بل لابد أن يعتمد على مصادر شتى، وأن الاكتفاء بالمصدر الواحد غلط، ولهذا جاء في صحيح البخاري أن أبا أمامة الباهلي رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل". وفى حديث آخر: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم". قال ابن حزم: "إن الزرع المذموم الذي يدخل الله تعالى على أهله الذل هو ما تشوغل به عن الجهاد".

 

هذا كلام ابن حزم، و هو كلام يجمع بين النصوص المختلفة، ولكن الحقيقة أن ما يؤكده النبى -صلى الله عليه وسلم- هو أن الأمة لا يجوز أن تكتفي بالزرع، فلابد -مع الزراعة- من تجارة ومن صناعة!.

 

فيما يتصل بالصناعة نجد أمورا ينبغي أن تعرف: أحد أنبياء الله الكرام اشتغل في الصناعة: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) [سبأ:10-11]. وتفسير: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي: دروعا سابغة. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي: أحكم النسج، أو كما يقول بعض المفسرين: 

 

الخطبة كاملة في المرفق نظرا لطوله لم تظهر كاملة.

 

 

المرفقات

المسلم بالدنيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات