عناصر الخطبة
1/ أسباب ذكر قصص الأنبياء في القرآن 2/ لمحة من حياة نبي الله شعيب عليه السلام 3/ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة 4/ خطورة تنحية الإسلام عن مناحي الحياة 5/ أهمية التزام المسلمين بدينهم في جميع معاملاتهم وعاداتهم وأخلاقهم 6/ جمع الإسلام دين العبادة والمعاملة 7/ شخصية المسلم منسجمة غير متناقضة 8/ الإسلام منهج صالح للتطبيق في كل زمان ومكان.اقتباس
دين الله الذي بشَّر به جميع الأنبياء، ودعوا إليه أقوامهم، ليس دين كهنوت بل هو دين شامل نزل لإصلاح شؤون الآخرة والدنيا على حد سواء، ونزل ليحكم حياة الناس طولاً وعرضًا. أما أولئك الذين اختصروا هذا الدين العظيم، وقلَّصوه في هيئة شعائر مكنونة بين المسلم وبين ربه فقد أخطئوا خطأ جسيمًا وأعادوا سنة الأولين الذين قالوا: (أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء)...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سورة هود سورة مكية نزلت تسلِّي النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت آياتها تسليه -عليه الصلاة والسلام-، وتشد من أزره وتثبته على طريق الحق وتحدثه عن معاناة إخوانه الأنبياء من قبله لما جاءوا بما يخالف أهواء أقوامهم والعادات التي توارثوها وقدسوها.
وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- على نفس الدرب ونفس المنهج؛ فليتعظ وليلتزم وليثبت وليستقم كما أُمِرَ.
وكان من ضمن أولئك الأنبياء نبي الله شعيب -عليه السلام-، اشتهر قوم شعيب إضافة إلى الشرك بالفساد المالي والتجاري، يقول سبحانه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) [هود:84].
بدأ دعوته لهم بالتوحيد دعوة الإسلام الخالدة (اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وأعقب التوحيد بالدعوة إلى الإصلاح المالي وتطهير المعاملات التجارية (وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ).
وفي هذا دلالة واضحة على أن ذلك الأمر من الدين؛ لأن في إنقاص المكيال والميزان معصية لله، وطاعة الله مصداق نقاء التوحيد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق ولا لعادة ولا عرف ولا شهوة ولا مصلحة شخصية في معصية الله.
ثم استمرت الآيات تخبر عن تهكُّم قوم شعيب على دعوته ودينه الذي يتدخل في شؤونهم المالية، (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود:87].
تهكُّم وسخرية، يعني ماذا دهاك يا شعيب! ما علاقة صلاتك وعبادتك بمنهجنا في الاقتصاد؟! في معاملاتنا المالية؟!
قال القرطبي: "أي: أنهم قالوا إذا تراضينا فيما بيننا في البخس، فلِمَ تمنعنا منه يعني نحن نتراضى، كلٌّ منا يرضى أن يفعل ذلك، وكأن التراضي وحده هو أساس صحة العمل".
ونقل ابن جرير عن ابن زيد قوله: "نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم، فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء؛ إن شئنا قطعناها، وإن شئنا خرقناها، وإن شئنا طرحناها".
وموقفهم هذا هو شكل من أشكال الدفاع عن الحرية التي لا تخضع لدين ولا شرع، أي فَصْل للدين عن الحياة وشؤونها، نعم هي فلسفة جاهلية قديمة، اعتراض قوم شعيب هو عن ألا يكون للدين أو للعبادات أثر في الحياة.
تقديسهم للحرية المطلقة تجعلهم يكيِّفون الأشياء والأسماء ويصنِّفونها بأهوائهم، ولذلك لما نهى نبينا -صلى الله عليه وسلم- جهال قريش عن الربا (قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة: 275]؛ أي: أن الربا في نظرهم معاملة مالية فيها مصالح، والبيع معاملة مالية فيها مصالح؛ فلا فرق بينهما، أي: الربا والبيع مثل بعض.
فردَّ الله –تعالى- عليهم بقوله: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، أي: أن الشرع هو الذي يقرِّر المصلحة، هو الذي يميز بين الأشياء، وأنه هو الذي يحدِّد ما يمارس وما يجتنب لا هي فلسفتكم ولا أهوائكم.
قال –سبحانه- في سورة أخرى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام: 57]، وقال أيضًا عز من قائل: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 48- 50].
دين الله الذي بشَّر به جميع الأنبياء، ودعوا إليه أقوامهم، ليس دين كهنوت بل هو دين شامل نزل لإصلاح شؤون الآخرة والدنيا على حد سواء، ونزل ليحكم حياة الناس طولاً وعرضًا.
أما أولئك الذين اختصروا هذا الدين العظيم، وقلَّصوه في هيئة شعائر مكنونة بين المسلم وبين ربه فقد أخطئوا خطأ جسيمًا وأعادوا سنة الأولين الذين قالوا: (أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء) [هود:87].
معاشر الإخوة: إنه لا يكفي أن يكون أفراد المجتمع ملتزمين بالمظاهر والشعائر الدينية، بل لا بد من أن يتحول ذلك إلى سلوك اجتماعي في جميع معاملاتهم وعاداتهم وأخلاقهم.
يا إخوة: الصلاة لوحدها لو كان صلاة تامة تُقام على أصولها لغيَّرت المجتمع بكل مقوماته، ولشكَّلت صحوة في الضمير ولأثَّرت في حياة الفرد والمجتمع كما هو في القرآن (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].
وهل يقوم الإنسان بالفحشاء والمنكر أثناء صلاته أم خارج الصلاة؟
ألم تروا كيف أوحى الله –تعالى- إلى موسى وأخيه هارون أن يأمروا قومهم بالصلاة لاسيما وهو في خوف من بطش فرعون، يقول تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87]،
قال: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ)؛ لأن الصلاة وسيلة ثبات ومصدر رشد، وإذا أُقيمت كما يجب وتشبَّع بها القلب، وتطهَّر بها الضمير، فسيكون لها دور كبير وأثر عظيم خارج المسجد وخارج المصلى، بل إنها تحفظ المجتمع من الزيغ والانحراف في شتى أموره الحياتية تنهى عن الفحشاء والمنكر.
الصلاة لوحدها تُحدِث هذا الصلاح في المجتمع فكيف بالدين كله؟!
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد:
فإنَّ الإسلام دين يجمع بين العبادة والمعاملة؛ فهو يوثق الصلة بين العبد وربه وبين العبد ومخلوقات ربه، ينقسم الدين إلى عبادات ومعاملات؛ تقسيم فقهي فني يسهِّل المعلومة أمام الدارس فيما تأخر من عصور، وليس تقسيمًا حقيقيًّا.
ليس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادات ومعاملات، إن كل عبادة هي معاملة مع الله –تعالى-، وكل معاملة مع الخلق هي أيضًا عبادة لله –عز وجل- يجب أن يُرَاعَى فيها أمره ونهيه.
الدين حياة كاملة يعيشها المسلم وليس مصحفاً في زاوية مسجد وفي قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89].
يقول الإمام الشافعي في كتابه الأم: "فليست تنزل بأحد من دين الله نازلة، -أي: أمر مستجد- إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها"، هذا كلام أهل العلم.
وفي قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59]؛ يقول سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- في كتابه في لفظ "تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ"، شيء نكرة يعم كل شيء يتنازع فيه البشر في جميع الأعصار والأحوال".
هكذا يرى أهل العلم الراسخون منهم هكذا يرون دين الله.
أيها الإخوة: شخصية المسلم منسجمة غير متناقضة فلا يصح أن يقبل على بعض دين ويعرض عن بعضه، ولا أن يتدين ببعض ما شرع ويذر بعضه.
ولقد عاب الله –تعالى- على بعض أهل الكتاب لما طبَّقوا بعض أحكامه وأهملوا بعضه؛ تماشيًا مع أهوائهم، فقال -سبحانه-: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:85].
فمن تعظيم الله –تعالى- تعظيم دينه، ومن تعظيم دينه الكفّ عن القول بانفصال الدين عن الحياة، وإقرار هيمنته على الحياة كلها بما يصلح البشرية في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم