عناصر الخطبة
1/ اعتناء الإسلام بالنفس البشرية 2/ الله لطيف بعباده 3/ الثقة واليقين برب العالمين 4/ حالُ أهل الإيمان والصلاح مع ربهم 5/ صفات الإنسان القلِق 6/ أين الراحة إذا كانت الدنيا هي مُنتهَى الأمل؟! 7/ شقاء البشرية في إعراضها عن دين ربها 8/ من أعظمِ مُفرِّجات الهُموم 9/ الفرق بين القلق المحمود والمذموماقتباس
كم من مُسلمٍ تكالَبَت عليه الهُموم، فتوضَّأ وتطهَّر، ثم قصَدَ إلى زاويةٍ من بيتِه، أو مشَى إلى مسجِده فتلا من كتابِ الله ما تيسَّر له، أو صلَّى ما كُتِبَ له فانزاحَت هُمومُه، وقامَ كأنَّما نشِطَ من عِقال؟! وكم من مُسلمٍ اضطجَعَ على جنبِه الأيمن في منامِه، وقرأ بعضَ آيات أو تلا بعضَ أوراد، فنامَ قريرَ العين محفوظًا بحِفظِ الله؟! وكم من مُسلمٍ أصابَه قلقٌ أو وحشةٌ فاستأنَسَ بآياتٍ من كتابِ ربِّه، فوجدَه نعمَ الأنيس وخيرَ الجليس؟! وكم من مُسلمٍ نالَه فقرٌ أو مسَّه جوعٌ، فوجدَ في كتابِ الله شِبَعَه وغِناه؟! وكم من غنيٍّ كادَ أن يُطغِيَه غِناه، فأنقَذَه مولاه بآياتٍ من كتابِه، فانكشَفَ له السِّتار، وتذكَّر النِّعَم، وابتغَى ما عند الله؟!...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله تعالى في عظمَته وملكُوته وكبريائِه، وتقدَّس في مجدِه وعزَّته وعليَائِه، حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، أفاضَ علينا من كرمِه وجُودِه ونعمائِه، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلِه وآلائِه.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها الفوزَ يوم لقائِه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ رُسُله وخاتمُ أنبيائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه وأوليائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مُبارَكًا مزيدًا إلى يوم جزائِه.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتَّقُوه ما استَطعتُم؛ فقد أفاضَ عليكم من نعمِه وفضلِه ما عن شُكرِه قد عجَزتُم، وجاءَكم النذير، وأبلغَ في إنذارِه لو سمِعتُم.
اتَّقُوه؛ فتقواهُ خيرُ واقٍ، وفيها التنافُسُ والسِّباق، واعلَموا أن لكل أجلٍ كتابًا، ولكل غائِبٍ إيابًا، ولكل عملٍ جزاءً وثوابًا. وأنتم إلى ربِّكم صائِرُون، وعلى طريقِ من سبَقَكم سائِرُون، وعلى من لا تخفَى عليه خافيةٌ سوف تُعرَضُون، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 1].
أيها المسلمون:
خلقَ اللهُ الناسَ من نفسٍ واحدة؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء: 1]، نفسٌ واحِدة تكتسِبُ بحكمةِ الله وقُدرتِه أوصافًا، وتحمِلً سِماتٍ، وتعيشُ أحوالاً تتنازعُها الشهواتُ والشُّبُهات، والمحبُوبات والمكرُوهات، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10]، (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 8- 10].
عباد الله:
لقد اعتنَى القرآنُ الكريمُ بهذه النفسِ الإنسانيَّة غايةَ العناية؛ لأن الإنسانَ هو محلُّ التكليف، وهو المقصودُ بالهدايةِ والتوجيهِ والإصلاحِ.
ومن شرحَ اللهُ صدرَه للإسلام، وعمَرَ قلبَه بالإيمان اطمأنَّت نفسُه، وهدَأَت سريرتُه، وتنزَّلَت عليه السَّكينة، وامتلأَ بالرِّضا قلبُه، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح: 4]، (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38]. وفي الحديث: "الإيمانُ قيَّد الفَتْكَ، لا يفتِكُ المُؤمن" (رواه أبو داود). والفَتْكُ: هو البَطشُ.
الله أكبر .. عباد الله! كم من مُسلمٍ تكالَبَت عليه الهُموم، فتوضَّأ وتطهَّر، ثم قصَدَ إلى زاويةٍ من بيتِه، أو مشَى إلى مسجِده فتلا من كتابِ الله ما تيسَّر له، أو صلَّى ما كُتِبَ له فانزاحَت هُمومُه، وقامَ كأنَّما نشِطَ من عِقال؟!
وكم من مُسلمٍ اضطجَعَ على جنبِه الأيمن في منامِه، وقرأ بعضَ آيات أو تلا بعضَ أوراد، فنامَ قريرَ العين محفوظًا بحِفظِ الله؟!
وكم من مُسلمٍ أصابَه قلقٌ أو وحشةٌ فاستأنَسَ بآياتٍ من كتابِ ربِّه، فوجدَه نعمَ الأنيس وخيرَ الجليس؟!
وكم من مُسلمٍ نالَه فقرٌ أو مسَّه جوعٌ، فوجدَ في كتابِ الله شِبَعَه وغِناه؟!
وكم من غنيٍّ كادَ أن يُطغِيَه غِناه، فأنقَذَه مولاه بآياتٍ من كتابِه، فانكشَفَ له السِّتار، وتذكَّر النِّعَم، وابتغَى ما عند الله؟!
الصالِحون الطيِّبُون المُحسِنون، المشَّاؤُون للمساجِد هم المُطمئنُّون بذِكر الله، وهم الأقوَى والأقدرُ على مصائِبِ الحياة وتقلُّباتها، لا تُعكِّرُ التقلُّبات طُمأنينَتَهم، ولا تستثِيرُ المُنغِّصاتُ سكينتَهم.
معاشر المسلمين:
هذا هو حالُ أهل الإيمان والصلاح، بينما يتعذَّبُ ملايين البشر اليوم يلهَثُون وراءَ المُسكِّنات والمُنوِّمات، والعيادات والمُستشفَيَات، ويبحَثُون في الكتب والمُؤلَّفات والمقالات. أقلقَهم القلق، وفقَدَت نفوسُهم الأمن، قلِقُون من الموت، يخافُون من الفشل، جزِعُون من الفقر، وجِلُون من المرض، إلى غير ذلك مما تجرِي به المقادِيرُ على جميع الخلائِق.
القلقُ - حفِظَكم الله وسلَّمكم - انفعالٌ واضطِرابٌ داخِلَ النفس يُعانِي منه الإنسانُ حين يشعُرُ بالخوف أو الخطَر من حاضِرٍ أو مُستقبَل.
والإنسانُ القلِقُ يعيشُ حياةً مُظلِمة، مع سُوءِ الظنِّ بمن حولَه وبما حولَه. تغلُبُ عليه مشاعِرُ الضيق والتشاؤُم والتوتُّر والاضطِراب وعدم الثِّقة؛ بل يرَى الناسَ عُدوانيين حاقِدين حاسِدين، حتى قالوا: "إن وراءَ مُرتكِب الجريمة قلَقًا دفعَه إلى اقتِرافِها"، إما خوفٌ من موت، أو خوفٌ من جُوع، أو خوفٌ من فقر، أو خوفٌ من مرض، أو فشل، أو غير ذلك من الدوافِع والهواجِس التي تمتلِئُ بها هذه الحياة.
هذا القلِقُ المُضطرِبُ غلَبَت عليه الدنيا، فكانت أكبرَ همِّه فزادَ قلقُه، وطالَ أرَقُه، "ومن كانت الدنيا همَّه جعلَ الله فقرَه بين عينَيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِب له".
ثم تذكَّر - حفِظَكم الله ورحِمَكم - هذا الدعاء: "اللهم لا تجعَل الدنيا أكبرَ همِّنا". أين الراحة إذا كانت الدنيا هي مُنتهَى الأمل؟! وأين الطُّمأنينةُ إذا كانت الدنيا هي غايةَ السعي؟!
هدوءُ النفس وراحةَ البال - عباد الله - نعمةٌ عظيمةٌ لا يعرِفُ قيمتَها إلا من فقَدَها، ومن أصابَه الأرَق أو دبَّ إليه القلَق عرفَ معنى هذه النعمة، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الروم: 23].
من فقَدَ راحةَ البال تدلهِمُّ أمامَه الخُطُوب، وتجثُمُ على صدرِه الهُموم، فيتجافَى عنه النوم، ويفقِدُ الراحة، وتُظلِمُ الدنيا في عينَيه.
معاشر المسلمين:
مساكِينُ أهل هذا العصر حين يدرُسُون النفسَ الإنسانيَّة مقطوعة الصِّلة بالله خالِقِها ومُدبِّرها، ومُقدِّر أحوالِها وشُؤونِها، يتكلَّمون عن أثر البيئة، وعن أثر الأُسرة، وعن أثر الاقتِصاد، ولا يتكلَّمون عن الهُدى والضلال، والكُفر والإيمان، والطاعة والعبادة.
فانقَلَبَت عندهم المعايِير، واضطرَبَت لديهم المقايِيس، وذهبَت الفضائِل، وضاعَت القِيَم، وانحلَّت الأخلاق، فلم تُفِد حلولُهم، ولن تُجدِي اختباراتُهم ولا مُختبراتُهم، من ضلالِهم وانحِرافاتِهم؛ أن عَدُّوا ضبطَ الشهوات كبتًا، والإحساسَ بالذنبِ تعقيدًا؛ بل المرأةُ عندهم إذا لم تتَّخِذ صديقًا يُعاشِرُها بالحرام فهي مريضةٌ شاذَّة، ونعوذُ بالله من انتِكاسِ الفِطَر.
وفي كلمةٍ مُنصِفة: فقد انتقَدَ عُقلاؤُهم هذا الانحِرافَ المُهلِك في مبادِئ هذه الحَضارَة وفِكرِها ونظرتِها للإنسان ونفسِ الإنسان؛ فقال قائلٌ منهم: "إن بينَنا وبين الله رابِطةً لا تنفصِل، فإذا خضَعنا لله تحقَّقَت آمالُنا وأمنيَّاتُنا، وحقَّقنا أمنَنا وطُمأنينَتنا".
وقال آخر: "إن أعظمَ علاجٍ للقلق هو الإيمان".
ويقولون: "الإيمانُ والاستِقامةُ كفِيلانِ بإبعادِ القلَق والتوتُّر، والشفاء بإذن الله من الأمراضِ النفسيَّة".
ويقولون: "الصلاةُ أقربُ طريقٍ لبثِّ الطُّمأنينة في النفوس، وبثِّ الهُدوء في الأعصاب".
نعم، عباد الله:
لا حصانَة للنفس ولا حِفظَ للمُجتمع أعظمُ وأنجَعُ وأسرعُ من الإيمانِ بالله والسَّير على هُدى الله؛ الإيمانُ ينشُرُ الأمان، ويبعثُ الأمل، والأملُ يبعثُ السَّكينة، والسَّكينةُ تُورِثُ السعادة. فلا سعادةَ بلا سَكينة، ولا سَكينةَ بلا إيمان، فالإيمانُ هو الغذاءُ، وهو الدواء، وهو الضياء.
صاحبُ الإيمان راسِخُ العقيدة، حسنُ العبادة، جميلُ التوكُّل، كثيرُ التبتُّل، عظيمُ الخُضوع، طويلُ الخُشوع، مُديمُ الذِّكر، عميقُ الفِكر، مُلازِمٌ للعمل الصالِح، واسِعُ الصدر، عظيمُ الأمل، كثيرُ التفاؤُل. لا يتحسَّرُ على ماضِيه باكِيًا، ولا يعيشُ حاضِرَه ساخِطًا، ولا ينتظِرُ مُستقبَلَه خائِفًا قلِقًا.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "لا تُفسِد فرحَك بالقلق، ولا عقلَك بالتشاؤُم، إنك لو تأمَّلتَ حالَك لوجدتَّ أن الله قد أعطاك أشياء دونَ أن تطلُبها، فثِق أن الله لم يمنَع عنك حاجةً رغِبتَها إلا ولك في المنعِ خيرٌ تجهلُه".
معاشر الأحِبَّة:
المُؤمنُ مُؤمنٌ بأقدارِ الله ومقادِيرِه، فما شاءَ الله كان، وما لم يشَأ لم يكُن، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22، 23].
والله هو الرزَّاق، ورِزقُ الله لا يجُرُّه حِرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهيةُ كارِه، والمُسلمُ يجمعُ بين التوكُّل والأخذ بالأسباب، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22، 23]، "فاتَّقُوا الله وأجمِلُوا في الطلَب؛ فإن نفسًا لن تموتَ حتى تستوفِيَ رزقَها وأجلَها"؛ (رواه ابن ماجه).
المُؤمنُ يعيشُ وذِكرُ الله شِعارُه، والتوكُّلُ على الله دِثارُه، وما تلذَّذَ المُتلذِّذُون بمثلِ ذِكر الله. وعجَبًا لمن ابتُلِيَ بالغمِّ كيف ينسَى: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
رُوِي عن جعفر الصادقِ - رضي الله عنه ورحِمه -: "عجِبتُ لمن اغتمّ ولم يفزَع إلى قولِه تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) دعوة ذي النُّون - عليه السلام -فإني سمعتُ اللهَ يُعقِبُها بقولِه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
وعجِبتُ لمن أصابَه الحَزَن ولم يفزَع إلى قولِه تعالى: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173]، فإني سمعتُ الله يقول: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)[آل عمران: 174].
وعجِبتُ لمن أحاطَت به المكائِد ولم يفزَع إلى قولِه تعالى: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، فإني سمعتُ اللهَ يُعقِبُها بقوله: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) [غافر: 45]".
ويُصدِّقُ ذلك ويُجلِّيه: قولُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "دعوةُ ذي النُّون إذ دعا ربَّه وهو في بطنِ الحُوت: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، لم يدعُ بها رجلٌ مُسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلا استُجيبَ له" (أخرجه أحمد في "مسنده"، والترمذي في "جامعه").
ومن الدَّقيقِ اللطيفِ - عباد الله -: ارتِباطُ دعوات المكرُوب بتحقيقِ التوحيد؛ يقولُ - عليه الصلاة والسلام -: "اللهم رحمتَك أرجُو، فلا تكِلني إلى نفسِي طرفةَ عينٍ، وأصلِح لي شأني كلَّه، لا إله إلا أنت" (رواه أبو داود).
وقال لأسماء بنت عُميسٍ: "ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهنَّ عند الكَربِ؟ الله ربِّي لا أُشرِكُ به شيئًا"؛ (رواه أبو داود).
معاشر المُسلمين:
الالتِجاءُ إلى الله والتوكُّل عليه وحُسن الظنِّ به من أعظمِ مُفرِّجات الهُموم، وكاشِفات الكُروب، وطارِدات القلَق، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]، (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 123].
والتعلُّقُ بالله ودُعاؤُه من أعظم السُّبُل يُعفِي القلق؛ كيف وقد كان نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إذا أكربَه أمرٌ قال: "يا حيُّ يا قيوم، برحمتِك أستغيث"؛ (رواه الترمذي).
وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مُؤمنٍ يُصيبُه همٌّ أو غمٌّ أو حَزَن فيقولُ: اللهم إني عبدُك، ابنُ عبدِك، ابنُ أمَتِك، ناصِيَتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك اللهم بكل اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثَرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآن الكريمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حَزَني، وذهابَ همٍّ وغمِّي؛ إلا فرَّج الله عنه"؛ (رواه أحمد في "مسنده").
وبعد، عباد الله:
فيجمعُ لكم ذلك كلَّه كتابُ الله؛ فهو الشفاءُ لما في الصدور، والشفاءُ لكل الأمراض البدنيَّة والنفسيَّة، والظاهرة والباطِنة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، بتلاوتِه تطمئنُّ القلوبُ فلا اضطِراب، وبالاستِمساكِ به تطمئنُّ فلا قلق، وبتدبُّره تطمئنُّ فلا وسوسة.
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابِه، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَ كتابَه لقلوبِنا دواءً، ولأبصارِنا جلاءً، ولأمراضِنا شفاءً، اللهم آمين. استجِب اللهم ربَّنا دعاءَنا، واغفِر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله فاطِر الأرض والسماء، جامعِ الخلائِق لفصلِ القضاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يسعَدُ قائلُها يوم الجزاء، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه سيِّدُ المُرسَلين وخاتمُ الأنبياء، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ السادة الكرامِ الأصفِياء، وأصحابِه الغُرِّ الميامين النُّجَباء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على هديِهم فاهتَدَى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا.
أما بعد، معاشر المسلمين:
أما ما كان من القلَق حافِزًا إلى الخير، وباعِثًا على العمل، فهو قلقٌ محمود؛ بل هو خيرٌ وفضلٌ ونعمةٌ، اقرأُوا إن شِئتُم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 60، 61]، فالمُحاسبةُ والقلقُ خشيةَ التقصير من صِفاتِ المُؤمنين المُخلِصين. أما عدمُ الاكتِراث والمُبالاة فمن صِفاتِ المُنافِقين.
يقولُ الحسنُ - رحمه الله -: "المُؤمنُ أحسنُ الناس أعمالاً، وأشدُّ الناسِ خوفًا؛ فالمُؤمنُ لا يزدادُ صلاحًا وبرًّا وعبادةً إلا ازدادَ خوفًا ويقول: لا أنجُو، إنه يخشَى عدمَ القبول".
المُؤمنُ لا يخافُ إلا الله، يخافُ أن يكون فرَّط في حقِّه، ويخافُ أن يكون قد اعتَدَى على خلقِه، كما قال أبو الأنبياء - عليه السلام -: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنعام: 81].
ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، واعمَلوا مُشفِقين، وجِدُّوا حذِرِين، واستحضِرُوا مقالةَ عبادِه المُؤمنين: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[الطور: 26].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله، فيومُكم هذا هو سيِّدُ الأيام، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هو سيِّدُ الأنام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم قُربةٌ ليسَت لغيرِه، وكلُّ خيرٍ نالَتْه هذه الأمة في الدنيا والآخرة فإنما نالَتْه على يدِه - عليه الصلاة والسلام -.
فجمعَ الله لأمَّته به خيرَي الدنيا والآخرة، وقد أمرَكم بالصلاةِ والسلام عليه ربُّكم - عزَّ شأنُه - في مُحكَم تنزيلِه، فقال - وهو الصادقُ في قَوله - قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خِيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في دِيارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمنَنا وأمَّتَنا ووُلاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا، ورِجالَ أمننا، وقوَّاتنا ووحدَتنا واجتماعَ كلمتنا، اللهم من أرادَنا بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، ويا غياثَ المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعَفين مظلومين في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، وفي أفريقيا الوسطى، قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان والتشريد والحصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبِهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددِك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كل مُمزَّق، اللهم واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم وأصلِح إخواننا في مصر، وفي ليبيا، وفي العراق، وفي اليمن، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وابسُط الأمنَ والعيشَ الكريمَ في ديارِهم، وأقِم علمَ الشرع فيهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم