عناصر الخطبة
1/ فضيلة الزواج وأهميته في الإسلام 2/ عقبات في طريق الزواج 3/ خطورة وضع هذه العقبات في طريق الزواجاقتباس
فيؤخر الزواج لدى كثير من الذكور والإناث بحجة إكمال الدراسة، أو الحصول على الوظيفة، أو القدرة المالية، أو عدم الرغبة في الارتباط المبكّر، أو غير ذلك من الأسباب التي أوهمت بها أدمغة الناس والشباب بسبب لَوْثَات الأفلام والمسلسلات والقنوات. وإن من المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين والأربعين، وهو لم يفكر -بعد- في موضوع الزواج ..
أما بعد: فأوصيكم -ونفسي- بتقوى الله -عز وجل-، واعلموا أن النعيمَ في هذه الدنيا لا يدوم، والأجلَ فيها على الخلائق محتوم، وانظروا مصارعَ المنايا، وتأمّلوا قوارعَ الرزايا، ورحم الله أمرأً عمّر بالطاعة لياليَه وأيامَه، وأعدّ العدّة للحساب يوم القيامَة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
عباد الله: أتحدث إليكم اليوم عن ضرورة اجتماعية لبناء الحياة، وتكوين الأسر، إنه أمر تقتضيه الفطرة، قبل أن تحث عليه الشريعة، إنه حصانة وابتهاج، وسكن وأنس واندماج، بل هو آية من آيات الله، الدالة على حكمته، كما قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21].
الزواج، سنة المرسلين، ووصية خاتم النبيين؛ ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء".
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، ولي طَول على النكاح لتزوجت؛ كراهية أن ألقى الله عزبًا".
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام".
الحديث عن الزواج حديث ذو شُجُون، وسيكون الكلام في هذه الخطبة عن العقبات التي تقف أمام الزواج في طريق الزواج وتؤدي إلى تأخيره أو تعسيره على أبنائنا وبناتنا.. وسأكتفي بذكر أربع عقبات:
فأوّل العقبات -رعاكم الله-: انتشار بعض المفاهيم الخاطئة حول الزواج وتأخيره؛ فيؤخر الزواج لدى كثير من الذكور والإناث؛ بحجة إكمال الدراسة، أو الحصول على الوظيفة، أو القدرة المالية، أو عدم الرغبة في الارتباط المبكّر، أو غير ذلك من الأسباب التي أوهمت بها أدمغة الناس والشباب؛ بسبب لَوْثَات الأفلام والمسلسلات والقنوات؛ وإن من المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين والأربعين، وهو لم يفكر -بعدُ- في موضوع الزواج.
إن تأخير الزواج مخالف للسنّة الشرعية كما هو مخالف للسنّة الفِطرية، وقد قرّر المتخصّصون في علم الاجتماع والحياة أنّ الزواج المبكّر هو أنجح الزِّيجات حتى ولو تعثّرت الظروف المادية، وأنه سبب لاستقرار الصحة النفسية والجسدية، هذا بالإضافة إلى اكتمال الدين والعَفاف وحصول الإحصان في بداية الحياة..
إنه لا تُعارض حقيقة بين الزواج ومتطلّبات الحياة الدنيوية؛ ذلك أنه جزءٌ من الحياة الطبيعية، وقد قال الحق -سبحانه-: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور:32].
وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة حقّ على الله عَوْنهم: المجاهد في سبيل الله، والمُكاتَب، والناكح يبغي العَفَاف" (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وحسنه الألباني).
ثم -ونقولها بصراحة- ماذا تنفع المرأةَ بالذات شهاداتها إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، ولم تسعد في حياتها بزوج وأولاد؛ يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا بعد الوفاة؟ كم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها؛ لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها.
وإذا كنا نقول: نعم للزواج المبكر فإننا نؤكد على حسن التربية وأداء الأمانة؛ بتهيئة الفتاة لحياتها الزوجية، وتعليمها وتربيتها لتحمّل المسؤوليات في بيتها.
العقبة الثانية: غلاء المهور؛ فقد حول غلاء المهور الزواج إلى أمر شاق، ولا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج، مع أن المهر في الزواج وسيلة لا غاية.
إن المغالاةَ فيه المهور، والمُباهَاةَ بها، وتقويمَ الخاطب بمقدار ما قدّم من مَهر لهو صِغَرٌ في النفس، ونقص في العقل، كما أن إرهاقَ الخاطب بالمهر الكثير، واشتراطَ الهدايا الكثيرة لأقارب الزوجة لهو جشع وطمع وانتهازية تورث الضغائن، وتُرهِق بالديون، وتُعيق مسيرة الزواج في المجتمع، وتسبّب الزواج من مجتمعات أخرى، بينما تمتلئ البيوت بالعَوانِس، وقد روى أحمد وأهل السنن أن عمر الفاروق -رضي الله عنه- قال: "أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"، وقد زوج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بما معه من القرآن، وقال لآخر: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب، وأنكر -صلى الله عليه وسلم- على المغالين في المهور؛ ففي صحيح مسلم، جاءه رجل يسأله فقال: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟! كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ".
الله المستعان، ماذا لو رأى -صلى الله عليه وسلم- أحوال المغالين اليوم؟! الذين جعلوا الزواج بمئات الألوف، بل ربما بالملايين.
العقبة الثالثة: عضل المرأة؛ وذلك بمنعِها من الزواج بالكفء إذا تقدّم إليها أو طلبتْه، ورغِب كلُّ واحدٍ منهما في الآخر، وقد قال الله -عز وجل- في محكم تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]
عضلُ النساء تحكّمٌ في حقوقهن، وإهدارٌ لكرامتهنَّ، بل هو إلغاءٌ لإنسانيتهنّ من غير خوف من الله ولا حياء من خلق الله، ولا نظرٍ في العواقب، ولا رعايةٍ لحقوق الرحِم والأقارب.
كم من الآباء أو الأولياء اليوم يستغلّون حياءَ المرأة وخجلَها، وحسنَ ظنّها وسلامةَ نيَّتها، لعصبيةٍ جاهلية، أو حميَّة قبلية، أو طمعٍ في مزيدٍ من المال.. فيمتنع أحدهم عن تزويج المرأة؛ طمعاً في مالها أو مرتَّبها، أو طلباً لمهرٍ كثير، أو مطالبات مالية له ولأفراد أسرته، فتبقى البنت المسكينة محرومة من الزواج، وربما يفوتها القطار، وتقتل آمالها وحياتها بسبب هذا الولي الظالم.
سبحان الله! أين الرحمة في قلوب هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! هل يسرُّهم أن يسمعوا الأخبار المفجعة عن بناتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟!.
وإن من المؤسف -حقاً- أن بعض الأولياء وصل به الجشع والطمع أن يعرض ابنته الحرة الكريمة سلعةً للمزايدة، وتجارةً للمساومة، وتلكم -والله- صورةٌ لئيمة يترفع عنها كرام المؤمنين.. بل إن كرام المؤمنين يبحثون بأنفسهم عن الأزواج الأخيار لبناتهم؛ كما عرض عمر -رضي الله عنه- ابنته حفصة على أبي بكر، ثم على عثمان، -رضي الله عنهم أجمعين-.. وكما زوج سعيد بن المسيب -رحمه الله- ابنته لتلميذه أبي وداعة.
ومن العضل كذلك: سوء خلق الولي مع الخطاب، فيبتعد الناس عن التقدُّم لخطبة ابنته أو موليته؛ لشدّته وتجهُّم وجهه واغتراره بنفسه ومركزه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن صور العضل أن يمتنع الخطاب من خطبة المرأة لشدّة وليِّها".
ومن أسوأ صور العَضْل: حَجْرُ المرأة على أحد أبناء قرابتها؛ فلا يسمح لها وليّها بالزواج من غيره، ولو بقيت عانسًا طول حياتها! وهذه جريمةٌ كبيرة وأنانية مُفرِطة، تراعي أعرافًا بالية، وتخالف الشريعة الخالدة.. إن المرأة لا يجوز أن تُجبَر على نكاح مَن لا تريد، وولايةُ أبيها عليها ولايةُ مصلحةٍ وصيانة، وحفظٍ وأمانة، وليست ولايةَ تسلّطٍ وتجَبّر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُنكَح الأيّم حتى تُسْتَأمَر، ولا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذَن"، فقالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (خرَّجه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح).
قال بعض أهل العلم: "إن المرأة إذا اختارت كفئًا، واختار الولي كفئًا غيرَه، فيقدَّم الذي اختارته؛ فإن امتنع كان عاضلاً".
فعلى الأولياء أن يتقوا الله في حق الفتاة، كما أنّ على الفتاة أن لا تتفرد برأيها، وأن تتفهّم مشورة وليّها في القبول والرفض، وأن تكون المصلحةُ مَناطَ الاختيار.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردهم إليه رداً جميلاً؛ إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه…
عباد الله: العقبة الرابعة -والأخيرة- أمام الزواج: الإسراف والمبالغة في التكاليف. حينما أُحيطت بعض حفلات الأعراس بهالةٍ من التكاليف والمبالغات، التي تضخّمت حتى أصبحت عَقَبةً كَأْدَاء، قد تتجاوز تكاليفها قيمة المهر؛ تكاليفُ باهظة، ونفقاتٌ مذهلة، وعاداتٌ فرضها كثير من الناس على أنفسهم، تقليدًا وتبعية، ومفاخرةً ومباهاة، وإسرافًا وتبذيرًا، وقد قال الله: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء:27].
وتعظم المصيبة إذا اقترنت هذه التكاليف بشيء من المنكرات والمعاصي؛ اختلاطٌ بين الرجال والنساء، جَلْبٌ للمغنّين والمغنّيات بالمعازف وآلات الطرب، تضييعٌ الصلوات، كشفٌ للعورات، وتعرٍّ في لباس الحفلات، ناهيك عن التصوير العلني والخفي! أيّ بركة تُرجَى، وأيّ توفيق يُؤمّل، إذا استُفْتِحَت الحياة الزوجية من أوّل ليلة بالمنكرات، ومعصيةِ ربّ الأرض والسماوات، الذي بيده مفاتيح القلوب، ولا يملك أسباب السعادة والتوفيق إلا هو.
ألا يُعدّ هذا الإسراف المحرم كفرًا بالنعمة، وبَطَرًا وتمرّدًا على المنعم سبحانه؟! ألا نعتبر -يا عباد الله- بأحوال إخوانٍ لنا في العقيدة في بقاعٍ شتى من العالم؛ لا يجدون ما يسدّ رمقهم، ولا ما يواري عوراتهم، بل ولا ما يدفنون به موتاهم؟!
نعوذ بالله من الكفر بنعمته، ونسأله -تعالى- أن لا يؤاخدنا بما فعل السفهاء منا.
عباد الله: لقد جاءت شريعتنا الغراء بتيسير أمور الزواج والحث على الاقتصاد فيه؛ فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير النكاح أيسره" (روى أبو داود وصححه الألباني).
ما نريده لأبنائنا وبناتنا هو تيسير الزواج والمساعدةُ على الإحصان والعفاف والحرصُ على الأكفاء ذوي الدين والخلق؛ مع البعد عن التكاليف والمبالغات التي تقصم ظهور الشباب وتصدهم عن الزواج.
وعلى الوجهاء والعلماء والأثرياء أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، وعلى وسائل الإعلام نصيب كبير في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع.
ولكل الآباء والأولياء نقول: اتقوا الله فيما ولاكم، واحرصوا على تزويج أبنائكم وبناتكم، ولا تعرِّضوهم للعنوسة أو الفتنة والانحراف لا قدر الله.
إننا إذا وضعنا العراقيل أمام الزواج فلا نلم إلا أنفسنا إذا انتشر الانحلال والدعارة -من المعاكسات والعلاقات المشبوهة والسفرات المحرمة- في زمن تعاظمت فيه ألوان الفساد وأنواع الفتن؛ مما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتهدم قيم الأمة وأخلاقها.. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"؛ نسأل الله العافية والسلامة.
اللهم صل على محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم