عناصر الخطبة
1/عبادة الشكر من أعظم العبادات 2/بيان حال بعض الأنبياء والصالحين مع عبادة الشكر 3/الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح 4/بعض الوسائل المعينة على تحقيق عبادة الشكر 5/أعظم الشكر توحيد الله والمسارعة لعبادته 6/فضل شهر شعبان وبعض الأحكام الفقهية المتعلقة به 7/شكر نعمة الأمن والأمان في بلاد الحرميناقتباس
اعلموا -رحمكم الله- أن النعم نوعان؛ مستمرَّة ومتجددة؛ فالنعم المستمرَّة شكرُها يكون بالعبادات والطاعات، والنِّعَم المتجددة شُرع لها سجودُ الشكر، شكرًا لله عليها، وخضوعًا له وذُلًّا، واعترافًا بفضله وإحسانه -جل وعلا-...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله المتفرِّد بالعزة والجلال، جلَّ عن الشبيه والمثال، أرسى الأرضَ بالجبال، وأنشأ السحابَ الثقالَ، تكرَّم على العباد بالعطاء والإفضال، فَمَنْ شكَرَهُ زادَ، وإن لم يشكر أزالَ.
أحمده حمدَ الشاكرينَ في كلِّ حال، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أشرف من نطق وقال، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، تقوى مَنْ أجاب فأناب، وراجَع فتابَ، وحاذَر فابتدرَ، وعُمِّرَ فاعتبر، وتزوَّد لرحيله، وتأهَّب لسبيله؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[الْبَقَرَةِ: 197].
مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن من أعظم العبادات وأرجاها، وأجلِّها وأسماها، عبادةَ الشُّكر، فكم أسبَغ اللهُ علينا من نعمة، ومَنَّ علينا مِنْ مِنَّةٍ! وكشف عَنَّا من كربة! وفرَّج عَنَّا من نقمة! ولو كشَف اللهُ لنا الغطاءَ عن ألطافه بنا لذابت قلوبُنا محبةً وشكرًا له، وشوقًا إليه، فنعمه تترى علينا في كل حين، نتقلب فيها، مُمْسِينَ وُمصْبِحِينَ؛ (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34]؛ فمقابَلة نِعَم الله بالشُّكر، ومعرفة ما يجب لها من الحمد والذِّكْر واجب على كل مسلم، وحتمٌ لازمٌ على كل مؤمن، وذلكم هو السبيل لزيادة النعم ودوامها، كما أن عدمه سبب لزوالها واضمحلالها؛ فالنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 7].
عبادَ اللهِ: إن الشكر هو صفة الأنبياء والمرسَلينَ، فقد أخبر الله -تعالى- عن نبيِّه نوح -عليه السلام- فقال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 3]، وقال عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النَّحْلِ: 121].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه أمرٌ يسرُّه خرَّ ساجدًا؛ شكرًا لله وامتنانًا، وأحبُّ خلق الله إلى الله، مَنِ اتصَف بصفة الشكر وداوَم عليها، كما أن أبغض خلقه إليه مَنْ عطَّلَها واتصف بضدها، وقد بلَغ مِنْ عِظَمِ منزلةِ الشكرِ أن الله -تعالى- سمَّى نفسه شاكرًا وشكورًا، وسمَّى به الشاكرين، فأعطاهم من وصفه، وسماهم باسمه، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلًا؛ فالشكر ثوابه عظيم، وأجره عميم، قال العزيز العليم: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 144]، ولم يذكر الله في الآية جزاء الشكر؛ ليدل ذلك على كثرته وعظمته.
واعلموا -يا عباد الله- أن الشكر أمان من العقوبات، ونجاة من المكروهات، قال الله -عز وجل-: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 147]، فمن ضيع شكر النعم حلت به النقم، ومن لم يحاسب نفسه قبل يوم القيامة حل به الندم.
أيها المؤمنون: لقد دلت نصوص الوحيين على أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فيظهر الشكر في القلب إقرارًا بالنعم وإيمانًا، ونسبتها لواهبها تفضلا منها وإحسانًا، قال -تعالى- على لسان سليمان -عليه السلام-: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)[النَّمْلِ: 40]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مطرنا بفضل الله ورحمته"(رواه البخاري ومسلم).
ويظهر الشكر في اللسان؛ حمدًا وثناءً وتحدُّثًا، قال -جل وعلا-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضُّحَى: 11]، وكذا يظهر الشكر في الجوارح عبادة وطاعة واستعمالًا؛ فصرف النعم فيما يرضي الله هو حقيقة الشكر وبرهانه، قال جلَّ شأنُه: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سَبَأٍ: 13]، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"(رواه البخاري).
وكما أن الشكر يكون بتسخير النعم في تحقيق الفضائل، فكذلك يكون في التوقي والحذر من أن تكون النعمُ مطيةً للمعاصي والرذائل؛ فالمعاصي نار النعم، تأكلها كما تأكل النارُ الحطبَ، وبذلك يُعلَم -يا عباد الله- أن الشكر لله هو الاعتراف بنعم الله، والتحدُّث بها والاستعانة بها على طاعة المنعم دون معصيته، ولا بد أن يقترن هذا بالخضوع للمنعم ومحبته، فبهذه الأركان يكون الشكر تامًّا.
أيها المسلمون: وإن من الوسائل المُعِينة على تحقيق الشكر أن يتأمل العبد في نعم الله، وأن يستحضرها في كل حين، وأن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل منه، وأن يعلم أن الله سائله يوم القيامة عن النعم، وعن شكرها، وقبل ذلك كله أن يطلب العبد من ربه الإعانة على الشكر، فقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهمَّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(رواه أحمد).
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن العبد مهما أطاع ربه وشكره، وتقرب إليه بأنواع القربات والطاعات فلن يقوم بالشكر على الكمال والتمام؛ لأن شكره لله هو محض توفيق من الله، وكلما كان العبد أكثرَ شكرًا، فاللهُ أكثرُ؛ (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 144]، فاشكروا ربكم على ما حباكم من النِّعَم، وأولاكم من المنن، ودفع عنكم من النقم، وما خصكم بجميل العطايا والكرم.
عبادَ اللهِ: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من البينات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله -جلَّ في علاه-، أحمده -سبحانه- وأشكره، على ما أنعم به علينا وأسداه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه ومجتباه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمَّا بعدُ، أُمَّةَ الإسلامِ: إن أعظم الشكر هو توحيد الله -تعالى-، والمبادرة إلى عبادته، وأداء فرائضه وواجباته، والبُعْد عن محرماته، قال -تعالى-: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزُّمَرِ: 66]، كما أن أعظم كفران النعم هو الكفر بالله، وترك فرائضه وواجباته، وفعل المعاصي، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن النعم نوعان؛ مستمرَّة ومتجددة؛ فالنعم المستمرَّة شكرها يكون بالعبادات والطاعات، والنعم المتجددة شُرع لها سجودُ الشكر، شكرًا لله عليها، وخضوعًا له وذُلًّا، واعترافًا بفضله وإحسانه -جل وعلا-.
إخوةَ الإيمانِ: وإن من النعم المتجددة ما يعيده الله -تعالى- على الأمة من مواسم الخيرات، في الشهور والأيام، وها قد أظلكم شهر يغفل عنه كثير من الأنام؛ وهو شهر شعبان، الذي ترفع فيه الأعمال، فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(رواه النَّسائيُّ).
وممَّا ينبغي على المسلم في شهر شعبان المبادَرة إلى قضاء ما فاته من شهر رمضان، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان" مُتفَق عليه.
ألَا واعلموا -يا عباد الله- أن من النعم الكبرى، والمنن العظمى التي تستوجب منا الشكرَ والامتنانَ ما أكرَم اللهُ به بلادَنا من نعمة الإيمان والأمن والأمان، وما نعيشه في ربوعها من رغد عيش وسعادة واطمئنان، في ظل قيادتنا الرشيدة، فنسأل الله -تعالى- أن يجزي ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمين محمد بن سلمان، خير الجزاء وأعظمه وأوفاه، على ما تحققه بلادنا الغالية المملكة العربيَّة السعوديَّة، من نجاحات باهرة، وإنجازات ظاهرة، في جميع الميادين، المحليَّة منها والإقليميَّة، والأصعدة الدوليَّة والعالميَّة، فنسأل الله -جل وعلا- أن يحفظ على هذه البلاد عقيدتها وإيمانها وولاة أمرها، وأمنها ورخاءها واستقرارها وازدهارها، وأن يجعلها شامخة عزيزة إلى يوم الدين.
عبادَ اللهِ: هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على خير الشاكرين، وإمام الذاكرين، وقدوة الخلق أجمعين، كما أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحم حوزة الدين، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاء، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ أعنا على ذكركم وشكرك وحسن عبادتك، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لنا ذرياتنا إنَّا تبنًا إليك، وإنا من المسلمين.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءةِ نقمتك، وجميع سخطك، اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، واحفظ ولاة أمرنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، ووفقهما وأعوانهم لكل ما فيه صلاح وعز ونصر للبلاد والعباد، إنك أنت الكريم الجواد.
اللهمَّ وفق ولاة أمور المسلمين لكل ما تحب وترضى، واجعل كلمتهم على الحق والهدى يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احفظ وانصر رجال أمننا، وجنودنا على ثغورنا، وكن لهم عونًا ونصيرًا، ومؤيدا وظهيرًا، إنك سميع الدعاء.
اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين، يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ بارك لنا في الشهور والأيام، ويسر لنا الطاعات في شعبان، وَامْنُنْ علينا ببلوغ شهر رمضان، يا رحيم يا رحمن.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم