عظمة منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة

الشيخ د محمود بن أحمد الدوسري

2023-08-11 - 1445/01/24 2023-08-29 - 1445/02/13
عناصر الخطبة
1/رفعة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة 2/فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه 3/علو مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة 4/ سيِّد الأوَّلين والآخِرين يوم القيامة 5/الحوض والشفاعة والمقام المحمود.

اقتباس

هو أعظمُ مخلوق عند خالقه، وأشرفُ مبعوث، وأعظمُ مذكور، وأحبُّ مخلوق إلى خالقه -سبحانه- وتعالى، فضَّلَه الله -تعالى- على الخلق أجمعين، وجعله واسطةَ العِقْدِ من الأنبياء والمرسلين، وَدُرَّةَ الكونِ وغُرَّته من الثَّقلين في الدنيا، وكذا يوم الدِّين.

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

وبعد: إذا كان نبيُّنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- قد نال منزلة رفيعة عند ربِّه -تعالى- في الدنيا؛ فإنَّ ما ادَّخره له -سبحانه- من منزلةٍ ومكانةٍ وكرامة في الآخرة لهو أكبر وأعظم، فقد بلغت منزلتُه في الآخرة درجةً لم يُقاربْه فيها أحد، فضلاً عن أنْ يصل إليها، سواء أكان مَلَكًا مقرَّبًا أو نبيًّا مرسلاً، وتلك المكانة العظيمة وهذه المنزلة السامية لَدَليل دامغ على منزلته عند ربِّه، ومكانته عند خالقه -سبحانه وتعالى-.

 

ولا عجب في ذلك؛ إذ هو أعظمُ مخلوق عند خالقه، وأشرفُ مبعوث، وأعظمُ مذكور، وأحبُّ مخلوق إلى خالقه -سبحانه- وتعالى، فضَّلَه الله -تعالى- على الخلق أجمعين، وجعله واسطةَ العِقْدِ من الأنبياء والمرسلين، وَدُرَّةَ الكونِ وغُرَّته من الثَّقلين في الدنيا، وكذا يوم الدِّين.

 

وكما كانت منزلتُه في الدنيا منزلةً متميِّزة، ومكانتُه مكانةً متفرِّدة، فهكذا أيضًا في الآخرة؛ وذلك بما اختصَّه الله به دون غيره من خصائص وهباتٍ وعطايا لم يمنحها لغيره.

 

إخوتي الكرام: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له منزلة خاصة عند ربه يوم القيامة، فقد اختصه الله -تعالى- بخصائص لم تُعط لأحد غيره، وهي وإنْ دلَّت فإنما تدل على عظيم شأنه وعلو مكانته عند ربه -سبحانه وتعالى-، ومن ذلك:

أولاً: أنه أوَّل مَنْ يُبعث يوم القيامة:

فقد جعل الله -تعالى- له الأوليَّة في الآخرة في أمور كثيرة منها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أوَّل مَنْ ينشقُّ عنه قبرُه؛ كما في قوله: "أَنَا َأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ"(رواه مسلم، ح2278)، وفي رواية: "فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأَرْضُ"(رواه البخاري، ح2281)، وما ذاك إلاَّ لكرامته على الله -تعالى-، وسيادته يوم الدِّين على جميع العالمين.

 

ثانيًا: هو سيِّد الأوَّلين والآخِرين يوم القيامة:

وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ الْقِيَامَةِ؛ وَلاَ فَخْرَ"(صحيح: الترمذي: ح3615). وفي رواية: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَومَ الْقِيَامَةِ"(رواه البخاري: ح4435).

 

والسيد: هو الذي يفوق قومَه في الخير، وهو الذي يُفزع إليه في النوائب والشدائد، ومَن اتَّصف بالصِّفات العَلِيَّة، والأخلاق السَّنية. وكل هذه الصفات متحققة في شخص نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-. (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15/37).

 

قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "وهذا مُشْعِر بأنه أفضل منهم في الدَّارين، أمَّا في الدنيا: فَلِمَا اتَّصف به من الأخلاق العظيمة".

وأمَّا في الآخرة: فَلأنَّ الجزاء مُرتَّب على الأخلاق والأوصاف، فإذا فَضَلَهم في الدنيا في المناقب والصفات، فَضَلَهم في الآخرة في المراتب والدرجات. وإنما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ"؛ لِتَعْرِفَ أُمَّته مَنزِلته من ربِّه -عز وجل-.(بداية السول في تفضيل الرسول، 34).

 

وسبب التقييد بيوم القيامة: أنَّ في يوم القيامة يظهر سُؤدده لكلِّ أحدٍ، ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين. (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15/37).

 

عباد الله: ومما يبين عظمة منزلته -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة:

ثالثًا: شهادته على الأُمم يوم القيامة:

فمن أبرز مناقبه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، ومقاماته الجليلة التي سوف يقفها يوم المحشر شهادته على جميع الأمم يوم القيامة.

 

وشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة نوعان:

1- شهادة يشترك معه فيها جميع الأنبياء -عليهم السلام-؛ إذْ سيشهد كلُّ رسولٍ على قومه الذين أُرسل إليهم، ويدل عليها قوله -تعالى-: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء)[النحل: 89].

 

2- شهادة تظهر فيها بوضوح مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنزلته يوم القيامة، إذْ ينفرد هو وأُمَّته بها على سائر الأنبياء والأمم، ويدل عليها قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].

 

وهذه الشهادة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته تكون يوم القيامة حينما يتَّهم أقوامٌ الرسل أنبياءَهم -زورًا وبهتانًا- أنهم لم يبلِّغوهم رسالةَ ربِّهم! عندها يشهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتشهد أُمَّته من بعده بأنَّ الرسل أدوا الأمانة، وبلغوا الرسالة، ولا ريب أنه مقام عظيم للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأمته من بعده.

 

ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الثَّلاَثَةُ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فيقولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ، فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فيقولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَ هذا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فيقولُ: وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ، قَالَ: فَذَلِكُمْ قَوْلُهُ -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]"(صحيح: رواه ابن ماجه: ح4284).

 

ومما يُبين عظمة منزلته -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة:

رابعًا: إعطاؤه المقام المحمود:

فمن تفضيل الله -تعالى- لنبيِّه الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن جعله صاحبَ الشفاعة العظمى يوم المحشر؛ لإراحة الناس من هول الموقف وتعجيل الحساب يوم القيامة، وذلك عند مجيء الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاَّ له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه، فيكون هو المخصوص به، وفيه جاء قوله -تعالى-: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسراء: 79]، وفسَّر جمهور الصحابة -رضي الله عنهم- المقام المحمود بأنه الشفاعة العظمى (انظر: فتح الباري: 11/427).

 

لأنه هو المقام الذي يحمده عليه أهل الموقف، ومما جاء فيه:

1- عن كَعْبِ بن مَالِكٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ"(صحيح: رواه أحمد في المسند: ح15821).

 

2- وعن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: "إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يوم الْقِيَامَةِ حتى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حتى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ"(رواه البخاري، ح1405).

 

وأحاديث الشفاعة العظمى بلغت حدَّ التواتر، ومنها: عن أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يومَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حتى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الذي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا. فَيقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، وَيَقُولُ: ائْتُوا نُوحًا، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا إِبْراهِيمَ الذي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلاً، فَيَأْتُونَهُ فَيقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا مُوسَى الذي كَلَّمَهُ اللهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا عِيسَى، فَيَأْتُونَهُ فَيقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُقَالُ لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ في الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ"، وكان قَتَادَةُ يقولُ عِنْدَ هذا: أَيْ وَجَبَ عَلَيهِ الْخُلُودُ.(رواه البخاري: ح6197).

 

وقول الأنبياء -عليهم السلام-: "لَسْتُ هُنَاكُمْ": أي: لست أهلاً لذلك، يقولونه تواضعًا وإكبارًا لِمَا يُسألونه. و"هناك" إذا أُلْحِقَ به كافُ الخطاب، يكون للبعيد من المكان المشار إليه، أي أنا بعيد من مكانِ الشفاعة ومقامِها.(انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/55، 56).

 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "اتفق المسلمون على أنه -صلى الله عليه وسلم- أعظمُ الخَلْقِ جاهًا عند الله، ولا جاه لمخلوقٍ عند الله أعظمُ من جاهه، ولا شفاعةَ أعظمُ من شفاعته"(مجموع الفتاوى، 1/145).

 

فهذا نبيُّنا، هذا قائدنا، هذا رحمةُ الله إلينا، هذا شفيعُنا عند ربِّنا، يشفع للناس أجمعين أنْ يُعجِّل الله لهم الحساب، فيُشَفِّعه اللهُ الشفاعةَ العظمى التي تَراجع عنها الأنبياء والمرسلين، فهم دونها، أمَّا هو -صلى الله عليه وسلم- فهو لها وهو أهلها، ثُمَّ يشفع لأمته شفاعته الخاصة رحمةً بهم ورأفةً لهم.

 

أيها المسلمون: افتحوا قلوبكم للإسلام، اقرؤوا القرآن، وتدبَّروا آياته، تَذَاكروا السنة واعرفوا قدر نبيِّكم، فو الله لَلشفاعة العظمى والخاصة وأحاديثها وحدها كفيلةٌ - لو آمنتم بها- أن تأخذ بكم إلى رَوْحٍ وريحانٍ وجنةٍ، لا، بل وجنانٍ يحدوكم إليها نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- باتِّباعكم لهديه، والسَّير على طريقته، وإنَّ في ذلك لذكرى لِمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.

 

ومما يُبين عظمة منزلته -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة:

خامسًا: ادَّخَرَ دعوتَه المُستجابة لأُمَّتِه يوم القيامة:

عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُُمَّتِي يَومَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا"(رواه مسلم: ح199).

 

قال النووي -رحمه الله- في معنى قوله: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ": "أنَّ كلَّ نبيٍّ له دعوةٌ مُتيقَّنةُ الإجابة، وهو على يقينٍ من إجابتها، وأمَّا باقي دعواتِهم فَهُم على طَمَعٍ من إجابتها، وبعضها يُجاب، وبعضها لا يُجاب... وفي هذا الحديثِ: بيانُ كمالِ شفقةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على أُمَّتِه، ورأفتِه بهم، واعتنائِه بالنَّظر في مصالحهم المُهِمَّة، فأخَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- دعوتَه لأُّمَّته إلى أهمِّ أوقات حاجاتهم"(شرح النووي على صحيح مسلم، 3/75، 76).

 

وقال ابن بطال -رحمه الله-: "في هذا الحديث بيان فضل نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أُمَّتَه على نفسِه وأهلِ بيتِه بدعوته المُجابة، ولم يجعلْها أيضًا دعاءً عليهم بالهلاك، كما وقع لغيره مِمَّن تقدَّم"(فتح الباري، 11/97).

 

وقال ابن الجوزي-رحمه الله-: "هذا من حُسْنِ تَصرُّفِه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه جَعَلَ الدَّعوةَ فيما ينبغي، ومن كَثرةِ كَرَمِه؛ لأنَّه آثر أُمَّتَه على نفسِه، ومن صِحَّة نَظَرِه؛ لأنَّه جعَلَها للمذنبين من أُمَّتِه؛ لكونهم أحوجَ إليها من الطائعين"(فتح الباري، 11/97).

 

اللهم بارك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أيها المسلمون: ومما يوضح عظمة منزلته -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة:

سادسًا: كلُّ الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وهو إِمامُهم وخطيبُهم:

جعلَ الله -تعالى- لواءَ الحمد بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، وجعل الأنبياء والمرسلين تحت لوائه، وهو إمامهم وخطيبهم في ذلك اليوم المشهود:

 

أ- عن أبي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ الْقِيَامَةِ؛ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ؛ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ: آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ؛ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِي"(صحيح: رواه الترمذي: ح3615). ولمَّا كان -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ الخلائق؛ أُعطي أعظمَ الألوية، وهو لواء الحمد؛ لِيأوِي إلى لوائه الأوَّلون والآخِرون.

 

ب- وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ، غَيرَ فَخْرٍ"(حسن: رواه الترمذي: ح3613).

 

ومما يدل على عظمة منزلته -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة:

سابعًا: أنه صاحب الحوض المَورود:

يُكرِم اللهُ -تعالى- رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في الموقف العظيم بإعطائه مورِدًا كريمًا، وحوضًا عظيمًا، واسِعَ الأرجاء، كلُّ زاوية من زواياه مسيرة شهر؛ لأنَّ عرضَه وطولَه سواء. ماؤه أبيض من اللَّبن، وطعمُه أحلى من العسل، وريحه أطيب من المِسك، وكيزانه كنجوم السماء. منبع الحوض من نهر الكوثر في الجنة، فهو امتداد له، ترِد عليه أُمَّةُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، مَنْ شَرِبَ منه شَربةً لا يظمأ بعدها أبدًا.

 

معشر الأحبة: والأحاديث الواردة في الحوض متواترة، وقد رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من خمسين صحابيًّا.(انظر: فتح الباري: 11/468)، ومنها:

أ- عن عبدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ من الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلاَ يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا"(رواه مسلم: ح2292). قوله: "زَوَايَاهُ سَوَاءٌ": أي: أنه مُربَّع، لا يزيد طوله عن عرضه شيئًا. (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15/55).

وفي رواية: "مَاؤُهُ أَبْيَضُ من اللَّبَنِ"(رواه البخاري: ح6208).

 

ب- وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مْن عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا من الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلآنِيَتُهُ أَكْثَرُ من عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاِس عَنْ حَوْضِهِ". قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قال: "نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ"(رواه مسلم، ح247).

 

قوله: "إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ ِمْن عَدَن": أي: بُعد ما بين طَرَفَي حوضي أزيد من بُعد أيلة -وهي مدينة العقبة في الأردن- عن مدينة عدن في اليمن. (انظر: مرقاة المفاتيح: 10/225).

 

ج- وعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ"(رواه مسلم: ح2303).

 

د- وعن ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا سُئِلَ عن شَرَابِهِ: قال: "أَشَدُّ بَيَاضًا من اللَّبَنِ، وَأَحْلَى من الْعَسَلِ، يَغُتُّ فيه مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ من الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا من ذَهَبٍ وَالآخَرُ من وَرِقٍ"(رواه مسلم: ح2301).

 

قوله: "يَغُتُّ فيه مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ من الْجَنَّةِ": أي: يُدفِقان فيه الماءَ دفقًا متتابعًا شديدًا، يُزيِّدانه ويُكثِّرانه. (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15/63).

 

هـ- وعن سَمُرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ؛ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً"(صحيح: رواه الترمذي ح2443).

 

دل الحديث على أنَّ لكلِّ نبيِّ حوضًا يختصُّ به، لكنْ الحَوضُ الأعظم مُخْتَصٌ به -صلى الله عليه وسلم-، لا يشركه فيه نبيٌّ غيره.

 

الدعاء...

 

المرفقات

عظمة منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة.doc

عظمة منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات