عظمة الله

فواز بن خلف الثبيتي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ عظمة الله في الكون وقوته وسعة علمه وإحاطته 2/ تعظيم الله في القلوب طريق للتقوى 3/ خطر خشية الناس أكثر من خشية الله

اقتباس

سبحان من أتته السماء والأرض طائعة، وتطامنت الجبال لعظمته خاشعة، ووكفت العيون عند ذكره دامعة، عبادته شرف، والذلّ له عزّة، والافتقار إليه غنى، والتمسْكن له قوة. سبحان من أحاط علمه بالكائنات، واطّلع على النيات، عالمٌ بنهايات الأمور، يعلم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أمّا بعد:

 

أيّها الإخوة: فيقول عزّ من قائل عن نفسه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام:91] أي: ما عظّمه حقَّ تعظيمه من عَبَدَ غيره، أو توكّل على سواه، أو أحبّ أحدًا فوق حبّه.

 

روى البخاري -رحمه الله- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد، إنا نجد أنّ الله -عز وجل- يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].

 

فهذا الكون بما فيه من ضخامة واتساع إنما هو على أصابع القويّ القهّار يومَ القيامة.

 

فسبحان من أتته السماء والأرض طائعة، وتطامنت الجبال لعظمته خاشعة، ووكفت العيون عند ذكره دامعة، عبادته شرف، والذلّ له عزّة، والافتقار إليه غنى، والتمسْكن له قوة.

 

سبحان من أحاط علمه بالكائنات، واطّلع على النيات، عالمٌ بنهايات الأمور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، علم ما في الضمير، ولا يغيب عنه الفتيل والقطمير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].

 

يبدئ ويعيد، وينشئ ويبيد، وهو فعّال لما يريد، لم يخلق الخلق سُدى، ولم يتخذ من المضلين عضدًا.

 

دخل موسى وهارون على رأس الكفر والطغيان فهابا وخافا، فناداهما ربهما: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46].

 

لما التجأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الصديق إلى الغار، وأحاط بهما الكفار، قال أبو بكر: يا رسول الله، كيف لو رأونا ها هنا؟! قال: "لا تحزن، إن الله معنا".

 

شكت خولة بنت ثعلبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرها، وأخبرته سرّها، وعائشة في طرف البيت لم تسمع همسًا، ولم تعلم حِسًا، فأنزل الله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1].

 

اجتمعت عائشة وحفصة وتفاوضتا في شأن الرسول وأخبرت إحداهما الأخرى بسره، وكشفت شيئًا من أمره، فأنزل علاّم الغيوب: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: 3].

 

وصدق الله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].

 

وقال سبحانه: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 60].

 

فسبحان من علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء؛ فالورقة تسقط بعلمه، والهمسة تنبس بعلمه، والكلمة تقال بعلمه، والنية تعقد بعلمه، والقطرة لا تنزل إلا بعلمه، والخطوة بعلمه، علم الحيَّ والميت، والرطب واليابس، والحاضر والغائب، والسر والجهر، والبادي والخافي، والكثير والقليل.

 

النجوى عنده جهر، والسرّ عنده علانية: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10].

 

تتكتّم الضمائر على مستودعات الأفكار، فلا يعلمها ملك مقرّب ولا نبي مرسل، ولا عالم جهبذ، ولا شيطان مارد، ويعلمها علاّم الغيوب.

 

تتستّر الصدور بخواطر وواردات، ومقاصد ونيات، لا ينفذ إليها سمع، ولا يصل إليها بصر، ويطّلع عليها الحكيم العليم.

 

يُلفّ الجنين بغشاء إثر غشاء في رحم أمه في ظلمات ثلاث، فلا يُدرى أحيّ أم ميت، أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، ولا يدرى ما أجله ولا رزقه ولا عمره، ويعلم ذلك الذي أحاط بكل شيء علمًا.

 

فسبحان من لا تقع قطرة، ولا تسقط ورقة، ولا تُقال كلمة، ولا تطلق نظرة، ولا يخطّ حرف، ولا تُمشى خطوة، ولا تُسكب دمعة، ولا تُهمس همسة إلا بعلمه، وهو العليم الخبير.

 

يعلم السرائر، ويطلع على الضمائر، ويحيط بالأمور، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا غالب لحكمه، ولا راد لقضائه، كلَّ يوم هو في شأن.

 

عنده علم الليالي والأيام، والزمان والمكان، والإنس والجان، والنبات والحيوان، لا إله إلا هو اللطيف الخبير: (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

 

روى البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وغِلَظُ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله سبحانه فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".

 

مستوٍ على عرشه، ويسمع ويرى كلّ شيء في ملكوته، ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].

 

عباد الله: إن تعظيم الله في القلوب داعٍ إلى مراقبته، والخوف منه، والعمل بمرضاته.

 

تعظيم الله في القلوب طريق للتقوى: "اتق الله حيثما كنت" من ليل أو نهار، في بر أو جوّ، أو في أقصى البحار: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) [لقمان: 16].

 

فمن كان لله معظمًا كان له أخوف، ومنه أقرب، وعن معاصيه أبعد، ومن كان للمعاصي مرتكبًا، وعن الطاعات والواجبات، متوانيًا متكاسلاً، كان لتعظيم ربّه ومراقبة مولاه، مقصّرًا ومفرّطًا.

 

أيها الإخوة في الله: ما جاهر مجاهر بمعصية إلا لما ضعفت مراقبته لله، وقلّ تعظيمه له.

 

ما ترك الصلاة تارك، ولا تخلّف عنها جماعة في المساجد متخلّف، إلا لما ضعفت مراقبة الله في قلبه، وقلّ تعظيمه لله، وخوفه منه، ولو راقب العبد ربه لما تخلّف عن الصلاة، ولما نام عنها وتركها.

 

الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، فرضها الله على الذكر والأنثى، الحر والعبد، المقيم والمسافر، الصحيح والمريض، الآمن والخائف: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".

 

الصلاة التي فرضت من فوق سبع سماوات.

 

الصلاة التي إذا صلحت صلح سائر عمل العبد، وإذا فسدت فسد سائر أعمال العبد، وهي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة.

 

الصلاة التي من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة من عذاب الله -تعالى-؛ فالله مطّلع عليك -يا عبد الله-، مراقبٌ لأفعالك، عالمٌ بحركاتك وسكناتك، مشاهد لصلاتك وعبادتك أو تفريطك وغفلتك: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 218- 219].

 

قال العلماء: تارك الصلاة كافر، يعامل معاملة الكفار، لا يسلَّم عليه، ولا تؤكَل ذبيحته، ولا يزوَّج، ولا يجالس، ولا يؤاكل، ولا يُساكن، وإن مات لم يغسل ولم يصلَّ عليه؛ لماذا؟

 

لأنه قطع الصلة فيما بينه وبين الله بتركه الصلاة، فكان من الحق أن يقطع المسلمون الصلة معه وبه؛ لأنه متكبرٌ على الله، يأبى السجود لله.

 

أيها المسلمون: لما ضعفت مراقبة الله في قلوب كثير من الأخوات المسلمات، خرجن متبرجات سافرات متبذّلات مستهترات بالعرض والشرف، ولو استشعرن نظر الله إليهن -وهو الذي أمرهن بالستر والحجاب والبعد عن الرجال- لكُنّ كأمهات المؤمنين، الواحدة فيهن محجبة ولو كانت لوحدها في الصحراء، عفيفة طاهرة؛ لأنها تعبد الله بالحجاب، فهو الذي أمرها به، وهو الذي يحاسبها عليه.

 

ولكن -وللأسف- قد تستحي المرأة اليوم من الناس أعظمَ من حيائها من الله، أو قد تخاف زوجَها أو أباها وتراقبه أعظم من خوفها ومراقبتها لله؛ لأنها ما قدرت علاّم الغيوب حقّ قدره، وما عظّمته حق تعظيمه.

 

فمراقبة الله وتعظيمه صمّام أمان في نفوس الناس، وازع خيرٍ، ومانع شرٍ، إذا غُرس في قلب العبد.

 

وما قلّت وضعفت مراقبة الله في قلوب الناس إلا وانتشرت فيهم المعاصي والمنكرات، وجاهروا بالخطايا والمخالفات، واعتدوا على الحقوق والواجبات.

 

فما غشّ غاشٌّ أخاه المسلم إلا لما ضعفت مراقبة الله، ولا اعتدى معتد على حقّ غيره من مالٍ أو أرض إلا لما ضعفت مراقبة الله واستشعار نظره وعظمته.

 

ما تبرجت من تبرجت، ولا سفرت عن وجهها من تبرجت، ولا تبذّلت من تبذّلت، إلا لما غفلت عن مراقبة علاّم الغيوب، ولم تقدره حقَّ قدره.

 

وما توارى متوارٍ، ولا غمز غامز، ولا عاكس معاكسٌ، ولا خان خائن، ولا زنى زانٍ، ولا سرق سارق، ولا وشى واشٍ، إلا لما ضعفت مراقبة الله في القلوب، وقلّ تعظيمه فيها: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر: 67].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت: 19].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

معاشر المسلمين: اعلموا أن مراقبة الله في السرّ والعلن، وتعظيمه واستشعارَ كبريائه وجلاله، يريحُ البال، ويُطمئنُ الفؤاد، ويُصلحُ الحال، وينجي يوم المآل.

 

ومن خشي الناس أعظم من خشية الله، أو راقب الناس، ولم يراقب الله ندم يوم لا ينفع الندم، وخسر يوم لا يجدي التحسّر؛ ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورًا" فقال أبو أمامة: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا، جلّهم لنا، علَّنَا أن نكون منهم ونحن لا ندري، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنهم قوم مثلكم، يصلّون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون حظّهم من الليل، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".

 

رحماك ربي، رحماك ربي.

 

لم يراقبوا الله، ولم يقدروه حق قدره، ولم يجعلوا أعمالهم له جل وعلا -نعوذ بالله أن نكون منهم، نعوذ بالله أن نكون منهم-، يقول أحد السلف: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت".

 

لا تقلْ: هذه نظرة، هذه كلمة، هذه أغنية، هذه صغيرة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

 

وقال آخر: "لا تجعل الله أهون الناظرين إليك".

 

 

المرفقات

الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات