عظمة القرآن

سليمان بن حمد العودة

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: رمضان الإيمان
عناصر الخطبة
1/ إنزال القرآن الكريم 2/ تصديق القرآن للكتب السماوية 3/ تطاول اليهود والنصارى على الكتاب ودلالاته 4/ أهمية تعظيم القرآن كما عظمه الملأ الأعلى 5/النصيحة لكتاب الله

اقتباس

يا حملة القرآن: تمثلوا هدي القرآن في ذوات أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، علموه الأبناء، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلق في المدن والقرى، واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء، وليكن الإخلاص رائدكم، والمتابعة لهدي محمد صلى الله عليه وسلم منهجاً في حياتكم، وخذوا من همم السلف الصالحين ما يقوي عزائمكم ..

 

 

 

الحمد لله الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصنا بخيرة رسله وأفضل كتبه، فكأنت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ ما أنزل من ربه وعصمه الله وحفظه، فما زاد ولا نقص مما أوحى الله إليه شيئاً، ولو كان كاتماً شيئاً من الوحي -وحاشاه لكنتم مثل قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه) [الأحزاب:37]. ومثل قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [عبس:1-2].

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

إخوة الإيمان: يطيب الحديث عن القرآن في كل كوقت وآن؛ فكيف إذا كان الحديث عن القرآن في شهر القرآن؟ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) [البقرة:185].

قال المفسرون: يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ فقد روى الإمام أحمد بسنده عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" كما روي أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة والباقي كما تقدم.

أيها المسلمون: كذلك أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا في رمضان وفي ليلة القدر منه، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان:3] وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1].

أما تنزيله على محمد صلى الله عليه وسلم فكان في رمضان وغير رمضان، وعلى ما يزيد على عشرين عاماً، وكان الله فيه يحدث لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وكان في ذلك تثبيتاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى في حكمة نزول القرآن منجماً: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان:32-33].

أيها المسلمون: إذا كان نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم متأخراً عن الكتب السماوية الأخرى، فقد جعله الله مصدقاً لكتب قبله، ومهيمناً عليها (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة:48].

أجل؛ لقد نزل كتاب الله مصدقاً لما أخبرت به الكتب السماوية، وأخبر به الأنبياء السابقون، ولهذا لم يستنكره المؤمنون العالمون من أهل الكتاب؛ بل خروا له سجداً (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الاسراء:107-109].

وفي موضع آخر يقول عن قساوسة ورهبان النصارى الذين لا يستكبرون: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة:83-84].

أيها المسلمون: إذا تطاولت النصارى -اليوم- واليهود من باب أولى على كتاب الله، وخالفوا أمره ونهيه، وآذوا المؤمنين به، وسخروا بأتباعه فذلك جزء من نكثهم للعهد الذي أخذ عليهم وعلى من قبلهم كما تشهد كتبهم التي سلمت من التحريف.. وهو ناتج عن الحسد والكبرياء (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89].

وعلى المسلمين أن يعوا أهداف اليهود والنصارى من إضمار العداوة والبغضاء، فهي ليست جهلاً لكن حسداً وتكبراً ويفقهوا: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:109].

يا أهل القرآن: كما أن القرآن عظيم ومهيمن وشاهد ومؤتمن على الكتب قبله حين نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو عظيم كذلك عند الله وهو في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف:4].
قال ابن كثير في معنى الآية: بين شرفه في الملأ الأعلى؛ ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض".

أفيليق بنا -معاشر المسلمين- أن يعظم كتاب الله أهل السماء ويتغاضى أو يعرض عنه أو يهجره أهل الأرض؟ إن الذين لا يقفون عند حدود القرآن ولا يعظمون أمره ولا ينتهون عند نهيه أولئك عنه معرضون.. وإن الذين تنقطع صلتهم بالقرآن إلا في شهر رمضان له هاجرون.

معاشر المسلمين: أينا يجهل أن هذا القرآن شرف لنا، وكلنا سنسأل عنه، ولولا رحمة الله لرفعه حين رد أول مرة، وتأملوا آيتين الأولى قوله تعالى في كتاب الله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) [الزخرف:44].
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: المعنى: شرف لك ولقومك، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه.
وقيل المعنى: تذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم أما قوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) أي عن هذا القرآن، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.

والأخرى، قوله تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف:5].

والله لو أن القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد بعائداته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، واستحسن ابن كثير رحمه الله هذا القول لقتادة فقال: وقول قتادة لطيف المعنى جداً، وحاصله أنه يقول فيما معناه أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم -وهو القرآن- وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.

أيها المؤمنون: لقد كان اصطفاء هذه الأمة على الأمم قبلها جزءاً من فضائل القرآن وأثره، حيث أورثهم القرآن، والقرآن مصدق للكتب قبله، وإن تفاوتت مراتبهم بين الظالم لنفسه والسابق للخيرات بإذن ربه والمقتصد، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر:32].

أمة الإسلام: عظموا كتاب الله تلاوة وتدبراً في شهر رمضان وفي سائر الأيام، وتعلموه وعلموه تحصلوا على الخيرية التي وعد بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وقفوا عند حدوده، واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وإياكم وهجر القرآن؛ فإن ترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره، من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من هجرانه، كذا قال أهل التفسير في تأويل قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان:30].

أمة القرآن ولا تفوتنكم تجارة القرآن، والله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30].

وقد ورد في فضائل القرآن يقال لصاحب القرآن: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة وليس يخفى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" وفي الحديث الآخر: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه".

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [فصلت:1-4].

نفعني الله وإياكم بهدي القرآن..

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بتدبر القرآن فقال جل قائلاً عليماً: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أوحى إليه ربه فيما أوحى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة:77-80].

وتكفل الله له بحفظه ما بقي الليل والنهار، وكانت تلك معجزة من معجزات هذا النبي وهذا القرآن: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر المرسلين.

أيها المسلمون: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الاسراء:9].

فأين المتلمسون لهدي القرآن؛ ليقودهم لأقوم الطرق وأوضح السبل، وإذا لجت البشرية في طغيانها، واستحكمت الظلمة على أهل الأرض في برها وبحرها، وسادت الحيرة والضياع فئاماً من البشر في مشرق الأرض ومغربها - كان للمؤمنين بهذا القرآن منجاة ومخرج ونور يضيء الطريق، ويبدد ظلمات الحيرة والشك؛ فهل يعقل المسلمون -قبل غيرهم- هداية القرآن، وهل يستشفون به من كل داء، والله يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) [الاسراء:82].

أجل؛ إنه القرآن يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق والشرك والزيغ والميل، وهو رحمة يحصل فهيا الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، ولكن ليس ذلك إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، كذا قال العارفون.

وهو أحسن الحديث: ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23].

أفيليق -يا عباد الله- أن تتصدع الجبال الراسيات لعظمة القرآن، وتخشع الحجارة الصم لو نزل عليها هذا القرآن، وتظل قلوب البشر صلدة لا تهزها قوارع القرآن، ولا تؤثر فيها مواعظ الذكر الحكيم، ويختم المسلم كتاب الله ويهذه هذَّ الشعر وربما لم تنزل منه دفعة أو يقشعر له جلد، فضلاً عن إصلاح حياته، أو تهذيب سلوكه وفق توجيهات القرآن، ولو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها - لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [الرعد:31].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاهم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به".

أيها المسلمون: أين النصح في دين الله لكتاب الله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: "الدين النصيحة" -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم".

أتدرون ما النصح لكتاب الله؟ قال العلماء: أما النصيحة لكتابه فشدة حبه وتعظيم قدره؛ إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره والوقوف عند تلاوته لطلب معاني حب مولاه أن يفهمه عنه أو يقوم به له بعد ما يفهمه، والخشوع عند تلاوته والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه، ونشر علومه، والدعاء إليه.

يا حملة القرآن: تمثلوا هدي القرآن في ذوات أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، علموه الأبناء، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلق في المدن والقرى، واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء، وليكن الإخلاص رائدكم، والمتابعة لهدي محمد صلى الله عليه وسلم منهجاً في حياتكم، وخذوا من همم السلف الصالحين ما يقوي عزائمكم.

كتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر رضي الله عنه يقول: إن أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأَعِنِّي برجال يعلمونهم، فدعا عمر الخمسة الذين جمعوا القرآن.. فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني -يرحمكم الله- بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير -يعنون أبا أيوب-، وأما هذا فسقيم يعنون أبي بن كعب، فخرج معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدأوا بحمص فإنكم ستجدون الناس فيها على وجوه مختلفة، فإذا رضيتم منهم - فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادة إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات.. رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهكذا تكون الجدية في تعليم كتاب الله والدعوة لدينه والنفع للخلق، حتى ولو تغرب عن الأوطان المعلمون، وتحملوا الموت في سبيل الغاية النبيلة عند المجاهدين الصادقين.

يا أهل الدثور، ويا أصحاب الولايات والمسؤوليات في بلاد المسلمين: إنه لشرف لكم أن تساهموا في تعليم كتاب الله بأموالكم أو بجاهكم، وكم هو عظيم أن تشمل الخيرية التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

 

اللهم اجعل لنا في الخير نصيباً وافراً، واجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقاً، وفي القبر مؤنساً وفي عرصات القيامة شافعاً.

هذا وصلوا...

 

 

 

 

المرفقات

996

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات