عناصر الخطبة
1/ شدة حسرات أهل النار 2/أعظم أماني أهل النار 3/أقسام عذاب أهل النار 4/أشد أهل النار عذابًا 5/من أصناف المعذبين يوم القيامةاقتباس
آه من تأوه حينئذ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع. إنها حسرةُ بل حسرات، تصدرُ عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يومُ الحسرة والحسرات. يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر، ويُعرَضُون لا يخفى منهم على الله خافية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت.
نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم فصلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: فاتقوا الله حق تقاته، وتأهبوا للانتقال من دار الزوال، وتنافسوا في اكتساب ما يوصل إلى دار القرار، وارغبوا في صالح الأعمال، واعلموا أنكم عما قليل راحلون، وإلى الله صائرون، ولا يغني هنالك عمل إلا صالح قدمتموه، أو حسن ثواب أحرزتموه، فإنكم تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسلفتم، فلا تصدنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات علية، واكتسبوا مراضي الرحمن، فإنها أربح المكاسب، واجتنبوا موارد العصيان، فإنها وخيمة العواقب، وحاذروا مواعيد الآمال فإنها آمال كواذب.
أيها الإخوة: تعوذوا بالله من حال أهل النار، تعوذوا بالله من صباح إلى النار، ومن ليلةٍ إلى النار، أو ساعة في النار، أو لحظة في النار؛ فإن أجسامنا لا تقوى على النار، وأحوالنا لا تتحمل ظلمات النار ولا ظلمة القبور، انظروا كيف تضيق أخلاق كثير منا؟، وكيف تتعطل جوارحهم حينما تنطفأ عنا الكهرباء عدة دقائق، ونحن نعلم أنها ستعود؛ وحتى إن لم تعد فلدينا وسائل وبدائل كثيرة نستطيع بواسطتها أن نرى، وأن نستفيد من حياتنا، لكن ما ظنكم فيمن يُوضع في القبر، وتحتويه الظلمات من كل جانب ولا يعلم من أين يأتيه النور؟! لأن نور القبور إنما يُكتسب من سلوك العبد في هذه الدنيا، فمن كان في هذه الدنيا على النور مكنَّه الله -عز وجل- من العيش في القبر على النور، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
أيها الإخوة: يوم القيامة هو يوم الحسرة، ومما أدراك ما يومُ الحسرة، قال الله -عز وجل-: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم: 39] وهذا تخويف وترهيب بيومِ الحسرةِ حين يُقضى الأمرُ، يوم يجمعُ الأولون والآخرون في موقفٍ واحد، يُسألون عن أعمالهم، فمن آمنَ بالله واتبع نبيه سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ومن تمردَ وعصى شقي شقاءً لا يسعدُ بعده أبدًا، وخسرَ نفسَهُ وأهلَهُ، وتحسرَ وندِمَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ وتتصدعُ منه الأفئدةُ أسفًا.
وأيُ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضا الله وجنته، واستحقاقِ سخطهِ وناره على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل. وكثير منا -للأسف- في الدنيا أنهم في غفلةٍ عن هذا الأمرِ العظيم، حتى يواجهوا مصيرَهم فيا للندمِ والحسرة، حيثُ لا ينفعُ ندمُ ولا حسرة.
وأنذرهُم يومَ الحسرة، يوم "يجاءُ بالموت كأنه كبشُ أملح فيوقفُ بين الجنةِ والنار فيقال: يا أهلَ الجنةِ هل تعرفون هذا؟ فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت. ثم يقالُ يا أهل النارِ هل تعرفون هذا؟ فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت. قال، فيأمرُ به فيذبحُ، ثم يقال يا أهلَ الجنةِ خلودُ فلا موت، ويا أهلَ النارِ خلودُ فلا موت" [أخرجه البخاري: 4730، ومسلم: 2849].
آه من تأوه حينئذ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع. إنها حسرةُ بل حسرات، تصدرُ عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يومُ الحسرة والحسرات. يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر، ويُعرَضُون لا يخفى منهم على الله خافية، ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار، ثم لا يجدون لهم نصيرًا.
أيها الإخوة: والحذر من مصير أهل النار أمر ضروري جدًا، ليسلم العبد في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن التذكير بعذاب النار وقاية للعباد من الوقوع في المهالك، ولذلك كان هذا التذكير بعذابهم، نسأل الله ألا يوردنا موردهم، وأن ينجينا من النار وعذابها.
أيها الإخوة: ومن صور عذاب أهل النار: منع الماء وعدم إجابة الدعاء ولا الرجاء، وقد ذكر الله -تبارك وتعالى- أنه تحصل محادثة بين أهل الجنة وأهل النار، قال -عز وجل- في سورة الأعراف: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) [الأعراف:44] النداء يأتي من الجنة لأهل النار: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقاً) [الأعراف:44] يقولون: وجدنا الذي وعدنا الله من النعيم، إنه موجود حقاً ونحن فيه الآن (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقاً قَالُوا نَعَمْ)[الأعراف:44] أهل النار يقولون: نعم. وما أدرك ما الحسرة التي تصيبهم وهم يقولون نعم. نعم فقط! لم يطيلوها؛ لأنه ليس هناك مجال للتطويل؛ لأنهم في النار والذي في النار لا يستطيع أن يتكلم كثيراً: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف:44] أعاذنا الله وإياكم من النار.
ثم يأتي نداء من أهل النار: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) [الأعراف:50] لا يريدون إلا الماء؛ لأنهم في نار تشوي أجوافهم وأكبادهم (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، نعوذ بالله من سوء المصير.
عباد الله: هل تفكرنا يومًا فيمن هو الرابح مع الله، ومن هو الخاسر؟ اسمعوا ماذا يقول الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر:15] هذا هو الخاسر، ليس الخاسر الذي ضاعت عمارته أو انقلبت سيارته، بل الخاسر الذي إذا مات خسر نفسه وأهله ودخل النار (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر:15-16] هذه الخسارة يوم يكون الظلال ناراً، ومن تحتك نار، وأنت بين ناري السماء والأرض (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف:41] هذه الخسارة الحقيقية، وهي صورة بشعة من عذاب لا ينقطع ولا يخفف، بل يستمر شديدًا صعبًا.
إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، ما هو الخسران؟ قال: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16] أي: اتقوا عذابي، هذا كلام الله، أخوفكم يا عبادي! من عذابي فاتقوا عذابي.
أيها الإخوة: هل تدرون أعظم أماني أهل النار؟! إنه الموت، نعم فالموت أعظم أمنية عند أهل النار، ومن شديد عذاب أهل النار أن النار ليس فيها موت، ينادون وهم في شعابها بُكِيّاً من توالي عذابها، ينادون: يا مالك -خازن النار- قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، فلا يجيبهم، بعد ذلك يدعون مالكاً في الهلاك يقولون: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف:77] يعني: أمتنا (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [الزخرف:77-78].
أيها الإخوة: وإن من أشد أهل النار عذاباً إبليس عليه لعنة الله، وهو أول من يُكسى حلة من النار؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عُصي الله إلا على يديه وبسببه، قال الله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) [مريم: 68-70]، وقال -سبحانه-: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق: 24-26]، ثم الأخبث فالأخبث من نوابه في الأرض ودعاته، كفرعون وقارون وأمثالهما، قال الله تعالى: (وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45، 46]، ويزيد الله في عذاب الكافرين الذين صدوا عن سبيله، قال الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88]. ومن أشد أهل النار عذابًا المنافقون، فهم في أسفل دركاتها، قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145].
أيها الإخوة: ومما جاء في السنة النبوية عن أشد الناس عذابًا في الآخرة طوائف من الناس، منهم المصورون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ" [أخرجه البخاري: 5950، ومسلم:2109]. ومنهم الجبابرة غلاظ القلوب والقساة، والمشركون بالله تعالى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ" [أخرجه أحمد:8411، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 512].
ومن أصناف المعذبين يوم القيامة: النساء، وذلك أنهن ينسين كثيرًا من المعروف الذي يقدمه لهن أزواجهن، وينكرن الخير، وسريًعا ما يجحدن الإحسان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُرِيتُ النَّارَ، فَإذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْن". قِيل: أيَكْفُرْنَ بِالله؟ قال: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أحْسَنْتَ إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" [أخرجه البخاري: 29، ومسلم: 907].
عباد الله: أما أهون أهل النار عذاباً فقد جاء خبره في الحديث الصحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ، عَلَى أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ" [أخرجه البخاري: 6562 ، ومسلم: 213]، يا الله، أحدنا اليوم يتألم بشدة لألم في الضرس، أو لقليل من الصداع، فما بالك بمن يغلي دماغه من النار، يا رب سلم سَلِّم.
ومن هؤلاء أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالله الملك العدل، رفعه في النار لأقل النار عذابًا نظرًا لما كان قام به من الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أهْوَنُ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" [أخرجه مسلم: 212].
أيها الإخوة: وكثيرا من أصحاب الأموال اليوم يظن أنه يفدي نفسه بماله عندما يقع في المشكلات والمصائب فهل هذا يمكن في الآخرة؟! كلا وألف كلا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [المائدة: 36، 37]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ الله تَعَالَى لأهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هَذَا، وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فَأبَيْتَ إِلا أنْ تُشْرِكَ بِي" [أخرجه البخاري: 6557 ، ومسلم: 2805].
أيها الإخوة: والعذاب في جهنم أنواع ودرجات، وشدته وخفته بحسب الكفر والذنوب. وهو نوعان:
بدني: على الأبدان بالنار والإحراق، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر: 36]، فهناك عذاب على ظاهر الجسد، وهناك عذاب على باطن الجسد، وهناك عذاب على الأعضاء والجوارح، وهناك عذاب تملأ الأحشاء فيه جحيماً وناراً، كلما نضجت الجلود بدلهم الله غيرها، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 56].
والثاني عذاب نفسي: على الأرواح بالإهانة والصغار، قال الله تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) [الأنعام: 124]، وهناك عذاب الإهانة والصغار، وهو أشد وأعظم، وهناك عذاب كعذاب الكفار، وهناك عذاب منقطع كعذاب عصاة الموحدين، وهناك عذاب خفيف، وليس في النار خفيف، ولكنه عذاب دون عذاب، قال تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) [الأنعام: 124].
وأعظم العذاب: أن يحرم العباد من النظر إلى وجه الله في الجنة، ولذلك كان أشد عذاب أهل النار: حجابهم عن رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-، قال الله تعالى عن أهل النار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) [المطففين: 15، 16].
اللهم جنبنا النار وحرها وغصصها، وكل ما قرب إليها من قول أو عمل، إنك على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وخذوا من دنياكم لأخراكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وتواصوا بالحق، وليعنْ بعضكم بعضاً.
عباد الله: ومن صور عذاب أهل النار أنهم يربطون بسلاسل وأغلال ويضربون بمقامع، فقد خلق الله في جهنم سلاسل يُقرن بها كل كافر ومثله، وأغلالاً تُغَلّ بها أيدي الكفار والعصاة إلى أعناقهم، ويوثقون بها، ومقامع يُضربون بها، قال الله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) [الإنسان: 4].
وما أشد حسرة الكافر حين يؤمر به إلى جهنم، ويقال للزبانية الغلاظ الشداد: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30-32]، فيجعل في عنقه غُلاً يخنقه، ثم يقلب على جمر جهنم ولهبها، ثم يُنظم في سلسلة من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، ذرعها سبعون ذراعاً، تدخل في دبره، وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال يعذب هذا العذاب العظيم.
تصور -يا عبد الله- أن سلسلة من سلاسل النار، طولها سبعون ذراعاً بذراع أهل النار يسلك فيها، تُدخل من فمه وتخرج من دبره ليشوى في النار كما تشوى الدجاجة في المقلاة، -ولا حول ولا قوة إلا بالله-. والسبب الذي أوصله إلى هذه المكانة، وهذه الحال، كفره بربه، ومعاندة رسله: (إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [الحاقة: 33-37].
فيا إخوتي في الله: من كان مستقيماً وملتزماً بمنهج الله؛ فليحمد الله وليطلب من الله الثبات حتى يلقى الله، ومن كان مقصراً وكلنا ذاك الرجل؛ كلنا مقصرون، فلنتب إلى الله -عز وجل-.
ولنحذر فإن في جهنم من النكال والعذاب الشديد، والألم الموجع، والطعام الكريه المر ما تقشعر لهوله الأبدان، وتتفطر له الأكباد، وتذهل منه العقول كما قال -سبحانه-: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) [المزمل: 12، 13]. ويُضرَب الكفار بمقامع من حديد في النار كما قال سبحانه: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج: 21، 22].
ويُقرن الكفار مع أمثالهم وشياطينهم بالسلاسل، وتغلّ أيديهم إلى أعناقهم، ثم يسحبون في الحميم الذي اشتد غليانه وحرّه، ثم يوقد عليهم اللهب العظيم، ويُسجرون في النار، ثم يوبخون على شركهم وكذبهم. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) [غافر: 70-74].
قل لي -يا أخي- بربك إذا وقفت ذلك الموقف الرهيب، تصور -يا أخي- ولا تعش في الخيالات ولا تلغِ عقلك.
مثِّل لنفسك أيها المغرور *** يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت*** حتى على رأس العباد تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها *** ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها *** ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الجنين بأمه متعلق *** يخشى الحساب وقلبه مذعور
يقول الله: (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) [المزمل:17]،كيف أنا وأنت ذلك اليوم؟ الأمر أصعب من ذلك، بم تجيب إذا سُئلت هذا السؤال؟ ماذا كنت تعمل؟ ماذا تقول؟ أعد من الآن الجواب.
أيها الإخوة: عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم