عناصر الخطبة
1/الإقبال على العبادة في زمن الفتن 2/فضل قيام الليل والتفريط فيها 3/قصص عجيبة في قيام الليل 4/فضل قيام الليلاقتباس
نحنُ مفرطونَ بهذهِ العبادةِ، لا سيَّما بالشتاءِ، حيثُ يَشبعُ المرءُ نومًا. لكنَّ أهلَ القيامِ يَتلذذونَ بالدعاءِ والمناجاةِ والأُنسِ باللهِ، أشدَّ مِن تلذُذِ أهلِ المُتَعِ الدنيويةِ بأجمَعِها. ولهم عجائبُ قصصٍ يَكتمونَها أشدَّ مِن كتمانِ ذنوبِهم؛ لخوفِهم من الرياءِ، ولكنَّ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي لا خيرَ إلا مِنهُ، ولا فضلَ إلا مِن لدُنه، وإن كانت آلاؤُهُ لا تُجارَى لا تُجازَى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الحقُ المبينُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولهُ الأمينُ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ البررةِ المتقينَ، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ؛ فتقواهُ خَلَفٌ من كلِ شيءٍ، وليسَ مِن تقوى اللهِ خَلَفٌ.
ألسنَا مُجمِعين على أن زمانَنا أشدُ فتنةً في الشبهاتِ والشهواتِ؟ ألا نُريدُ المَخرجَ والمَهربَ؟
إذًا، لنطبِّقْ وصيةَ النبيِ -صلى الله عليه وسلم- القائلِ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ" أي الفتنةُ "كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"(رواه مسلم).
إذًا، زمنُ الفتنِ ليس شرًّا مَحضًا، فلا تَلْهَجْ بلسانِك بذمِّ زمانِك، وأنت تحصِّلُ هذه المكاسبَ الأخرويةَ التي لا تَتحققُ إلا فيهِ، فأَلزِمْ نفسَك ولو مقدارًا قليلاً من العباداتِ لا تَتخلَى عنها أبدًا.
وهذا أحدُ المُسابِقين بالخيراتِ يقولُ: كمْ أُضيِّع أوقاتًا بمَسيرِي بالسيارةِ، فصِرتُ أُلزِمُ نفسيَ في كلِ مشوارٍ بالسيارةِ أنْ أذكرَ اللهَ ألفَ مرةٍ، فأجدُني أزيدُ، يقولُ: ذهبتُ لمشوارٍ لا يتعدَى رُبعَ ساعةٍ، فقلتُ: سأبدأُ بتكرارِ: "سبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ اللِه العظيم" فقُلتُه قُرابةَ ثلاثةِ آلافِ مرةٍ.
يا عبدَ اللهِ: أفلا أدلكَ على عبادةٍ عظيمةٍ يَجتمعُ فيها أربعُ عباداتٍ: صلاةٌ وذكرٌ ودعاءٌ، وقرآنٌ؟ إنها قيامُ الليلِ.
نَعَم، نحنُ مفرطونَ بهذهِ العبادةِ، لا سيَّما بالشتاءِ، حيثُ يَشبعُ المرءُ نومًا.
لكنَّ أهلَ القيامِ يَتلذذونَ بالدعاءِ والمناجاةِ والأُنسِ باللهِ، أشدَّ مِن تلذُذِ أهلِ المُتَعِ الدنيويةِ بأجمَعِها.
ولهم عجائبُ قصصٍ يَكتمونَها أشدَّ مِن كتمانِ ذنوبِهم؛ لخوفِهم من الرياءِ، ولكنَّ اللهَ يُخرِجُها مِسْكًا يعبِقُ وهم كارهونَ، فأقارِبُهم ومَعارفُهم يَتحدثونَ، فهذا كبيرُ سنٍّ يقومُ من الليلِ قُرابةَ ثلاثِ ساعاتٍ حتى في أحلكِ الظروفِ.
وآخرُ إذا استيقظَ من النومِ للقيامِ يخِرُّ ساجدًا للهِ من الفرحِ والسرورِ، ويقول: اللهم لكَ الحمدُ على أن أيقظتَني، وأكثرُ الناسِ نائمونَ، ثم يُبادِرُ إلى الصلاةِ.
وثالثٌ كانَ يقومُ الليلَ مشقةً وكلفةً، وبعدَ أن كابَدَ القيامَ قرابةَ سبعَ عشرةَ سنةً وَجدَ أنّ أسعدَ أوقاتِه قيامه بالليلِ، وينتظرُه بشوقٍ شديدٍ، فيتوضأُ ويتطيَبُ بأفضلِ بخورٍ عنده، ثم يلبسُ مشلحَه تجملاً بينَ يديِ الله، ولمن يَحضرُ لاستماعِ قراءتهِ من الملائكةِ؛ فإنّ الخبرَ قد صحَّ أنهم يَستمعونَ. ثم يدعو فيقول: اللهم إنكَ تعلمُ أنيَ لم أتجملْ وأتطيبْ لغيرِك، ثم يَصفُّ للصلاةِ قرابةَ ساعةٍ ونصفٍ.
ورابعٌ حبَّبَ اللهُ له قيامَ الليلِ، حتى إذا جاءَهُ رمضانُ وصلى التراويحَ ثم نامَ، قامَ بلا منبهٍ في وقتهِ المعتادِ، وصلى ما كَتبَ اللهُ له، وكان قبلَ اعتيادِه على القيامِ لا يَكادُ يقومُ للسُحورِ، فسبحانَ مغيِّرِ الأحوالِ: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17-18].
وسبحانَ مَن فاوَتَ بينَ الخلقِ في هِمَمِهم، حتى تَرَى بينَ الهِمَّتينِ أبعدَ مما بينَ المشرقينِ والمغربينِ، بل أبعدَ مما بينَ أسفلِ سافلينَ وأعلى عليينَ، وتلكَ مَواهبُ العزيزِ الحكيمِ: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة: 4] إنهم يعيشونَ في وادٍ، والناسُ في وادٍ، جعلنا اللهُ -تعالى- منهمْ.
فقِصصُ أهلِ القرآنِ بالليلِ تدلُّ على أنّ أزواجَهم من الحُورِ العِينِ تَشعرُ بهم، والملائكةُ توقظُهم وتستمعُ لتلاواتِهم، قال ابنُ القيمِ -رحمهُ اللهُ-: "لا يَزالُ العبدُ يُعاني الطاعةَ ويألَفُها ويُحبُها ويُؤثرُها حتى يُرسلَ اللهُ -سبحانهُ وتعالى- برحمتهِ عليهِ الملائكةَ تؤزُّه إليها أزًّا، وتُحرضُه عليها، وتُزعجُه عن فراشِه ومجلسِه إليها".
وإنَّ الذينَ يُحْيُونَ الليلَ تلاوةً ودعاءً وصلاةً تنزِلُ السكينةُ عليهم، ويجِدُونَ رقةً في قلوبِهم، وغزارةً في دموعِهم، وحلاوةَ تدبّرٍ في تلاوتِهم، حتى إذا فاتَ أحدَهم قيامُه لنومٍ أو مرضٍ بكى واسترجَع، وكأنها مصيبةٌ.
فهل هناكَ حياةٌ ألذُّ من هذهِ الحياةِ؟ وهل تتسللُ السآمةُ والكآبةُ إلى قلوبِهم وهذِه حالتُهم كلَّ يوم؟
فمَنْ أرادَ أن يُعينَه اللهُ على حقوقِ ربِه، وحقوقِ عبادِه، وعلى همومِ الدنيا فعليهِ بقيامِ الليلِ. وأعظمُ منهُ إقامةُ الصلاةِ المفروضةِ بأوقاتِها؛ فهيَ أعظمُ أسبابِ ثباتِ المؤمنِ، وقوتِه، ونهوضِه لِحَمْل الأمانةِ، وتحملِّ الأذى والمشاقِ في سبيلِ اللهِ.
فاللهم اجعلنا منْ هؤلاءِ الصالحينَ الذينَ اصطفيتَهم وأخلصتَهم لك.
اللهم اجعلنا ممن (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)[السجدة: 16].
سبحانَكَ ربَنا ما عبدناكَ حقَ عبادتِكَ، سبحانَك ما قَدَرناكَ حقَ قدرِكَ.
اللهم ارحمْنا ولا تَحرِمنا، اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أَشْقِياء، وَكُنْ بِنا رَؤوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.
اللهم مَن أرادَنا أو أرادَ بلادَنا أو اجتماعنا أو مقدساتِنا أو حرماتِنا بسوءٍ فأشغلْه بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ.
اللهم اهدِ ضالَّ المسلمين، وثبتِ المهتدينَ.
اللهم احفظْ جنودَنا في حدودِنا، واشفِ مرضاهم، وارحمْ موتاهم.
اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِ إمامَنا ووليَ عهدِه، وارزقهُم بطانةً صالحةً تدلُّهم على الخيرِ وتعينُهم عليهِ، لك الحمد على الدفء بعد البرد.
اللهم ارحم إخواننا الضعفاء في هذا البرد المهلك.
سبحان من يسقينا على معاصينا.
اللهم اسقِنا سُقيا نافعةٍ وادعةٍ، تزيدُ بها في شكرِنا، وارزقنا رزقَ إيمان، إن عطاءَك لم يكن محظورًا.
اللهم أنزلْ في أرضِنا ربيعَها، وسكنَها، وارزقنا من بركاتِ السموات والأرض، وأنعِمْ بها على بدوِنا وحضَرِنا، واجعلنا لك شاكرين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم