عبودية الألم

ناصر بن محمد الأحمد

2016-05-12 - 1437/08/05
عناصر الخطبة
1/ الألم سلاح ذو حدين 2/ تنوع أسباب الألم 3/ فوائد الألم والحكمة منه 4/ متى يكون الألم نعمة؟ 5/ تحمُّل سلف الأمة لآلام عظيمة 6/ أثر الآلام في نجاح الإنسان وفشله.

اقتباس

وأسمى من ذلك وأرفع حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيماناً، وأبر قلوباً، وأصدق لهجة، وأعمق علماً لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلاماً في النبل، ورموزاً في التضحية...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: لقد أنعم الله على الإنسان بنعمه الوفيرة، فقال سبحانه: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وقد يكفر الإنسان ببعض هذه النعم جاهلاً أو غافلاً، إذ قد يبدو الشيء في ظاهره نقمة لكنه في حقيقته نعمة. ومن ذلك الألم. ومن الألم ما له وجهان، ونحن قد لا نرى إلا وجهاً واحداً منهما فقط، وهو جانب الشقاء والعذاب.

 

تتنوع أسباب الألم، فبعضها بدني مادي، والآخر نفسي. أما الأسباب الجسمية المادية فنحو: الجوع، والعطش، والجروح، والحروق ونحوها.

والأسباب النفسية مثل: القلق، والهم، والمخاوف ونحوها.

 

والناس عادة ما يقرنون الألم بالإصابات البدنية أو المرض متناسين أن الأحاسيس أو العواطف يمكن أن تسبب ألماً أيضاً، فالإزعاج على سبيل المثال يمكن أن يسبب توتراً وألماً.

 

ولا شك أن تحديد سبب الألم ومعرفة مصدره بدقة من الأمور الضرورية لعلاج الألم أو الوقاية منه مستقبلاً، وإن كان يصعب أحياناً تحديد مصدر الألم، وأحياناً يلتبس على الإنسان ذلك.

 

أيها المسلمون: يقرن كثير من الناس الألم بالشر والإحساس بالبغض أو الكُره، فهل يعني هذا أن الألم في جميع أحواله شر خالص، فلا يرتجى من ورائه نفع أبداً؟.

 

إن النظرة العجلى والتفكير السطحي يمكن أن يسلما إلى إجابة متسرعة وهي أن الألم فعلاً شر خالص، لكن النظرة المتأنية والتفكير العميق الذي يقلب الأمور على جميع أوجهها، ويبحث عن الحقيقة من جميع وجوهها يثبتان عكس ذلك، فالله -سبحانه- هو خالق كل شيء. والألم شيء من الأشياء، ومن صفاته -سبحانه- أنه حكيم وخبير، ومقتضى حكمة الله ألا يخلق الشيء عبثاً دون نفع أو جدوى، فمن المؤكد إذن أن ثمة منفعة من ورائه للبشر عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلها. وما علينا إلا أن نتريث ونتأمل هذه الآلام، وندرسها بشيء من المثابرة والتعمق لنعرف ثمارها وفؤائدها أو الحكمة منها.

 

إن للألم فوائد، وأبرز هذه الفوائد:

أولاً: الألم وقاية للإنسان من آلام أكبر. هذا بالنسبة للألم المادي. وكذلك الحال بالنسبة للألم النفسي، فإن الألم النفسي الناشئ عن خوف العبد من عذاب الله يقيه من وقوع العذاب الأليم به في الدنيا أو الآخرة، ومن ثم فإننا نرى أن العذاب وُصِف بكلمة (أليم) في القرآن الكريم في اثنين وسبعين موضعاً.

 

ثانياً: الألم ذو فائدة دينية عظيمة، فهو ابتلاء، والابتلاء مع الصبر نعمة تستوجب الشكر، فيطهِّر الله به الإنسان من الآثام والذنوب، بل إن الله إذا أحب عبداً واصطفاه ابتلاه، وأشد الناس بلاءً هم الأنبياء، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤُه، وإن كان في دِينه رِقَّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركهُ يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" (رواه الترمذي).

 

فالألم يصهر مَعْدِن الإنسان المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خُلُقه، وتَطْهُر نفسه، فألم الابتلاء سبيل إلى لذة التقوى ونعيم القرب من الله، وهل يبرق الذهبُ إلا إذا ذاق آلام النار؟!.

 

ثالثاً: الآلام قد تصحح مسار المسلم، وتُفيقه من غفوته، فيرجع عن سالف عهده من الذنوب والمخالفات، فمن رحمة الله أنه جعل الآلام نذيراً لخطر داهم وعقوبة شديدة. فإذا أفاق العبد وتضرع إلى الله رفع عنه الضر. قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون) [الأعراف: 94].

 

 فإذا لم يفقه المسلم حكمة الله في هذا الابتلاء، وتمادى في غيّه حقت عليه كلمة العذاب؛ قال عز من قائل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين) [الأنعام: 42-45].

 

رابعاً: الألم قرين الإحساس، والإحساس آية الحياة، ولا يمكن أن تُتصور حياة خالية من الإحساس، فأنا أتألم إذاً أنا موجود. فمن أراد أن يعيش بلا ألم ومعاناة فقد اختار لنفسه الموت لا الحياة، فأنا موجود إذاً لا بد أن أتألم، وقد خلق الإنسان في كبد ونصب كما قال -سبحانه- مقسماً: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 1-4].

 

خامساً: الآلام تربي فينا نعمة الإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة، فيتحقق بذلك التكافل الاجتماعي، فالغني يتألم للفقير فتكون الصدقة والزكاة، والمقتدر يتألم للمعوزين فتكون المشروعات الخيرية، والقوي يتألم للضعيف فيكون العون والمساعدة، والعالِم أو المخترع يتألم لمأساة مجتمعه ومعاناته فتكون الاختراعات والاكتشافات العلمية، وهكذا.

 

سادساً: الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية، فألم الإخفاق يُبصّر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء.

 

ولا غرو إذا علمنا أن الأعمال الشاقة تزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، ولنا في أنبياء الله أسوة، فإدريس عليه السلام كان خياطاً، ونوح -عليه السلام- كان نجاراً، وداود عليه السلام كان حداداً، وموسى -عليه السلام- كان راعياً للغنم، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- راعياً للغنم كذلك، مع ما في الرعي من تعلم الصبر وتعوُّد حسن سياسة الرعية. قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (رواه البخاري).

 

سابعاً: تسهم الآلام في صنع مستقبل الشعوب وقيام حضاراتها، فكثير من الأمم عانت آلام التخلف والفوضى ردحاً من الزمان، فما كان منها إلا أن تحسست خطاها نحو العلم، فأوروبا كانت تعيش في ظلام دامس في العصور الوسطى، ثم ما لبثت أن قامت الثورة الصناعية التي يزهو العالم بها اليوم، وكثير من الدول عانت آلام الذل والاستعمار، فكان ذلك سبباً في سعيها لاسترداد حريتها ونيل استقلالها، مثل جنوب إفريقيا في ظل الحكومة العنصرية، فهي حرية حمراء مقرونة بدماء الشعوب كما قال شوقي:

وللحرية الحمراء بابٌ *** بِكلِّ يَدٍ مُضَرَّجةٍ يُدَقُّ

 

بارك الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: الألم يمكن أن يكون نعمة لصاحبه، كما يمكن أن يكون نقمة عليه، شأنه في هذا شأن كثير من الأحاسيس والمشاعر، فمتى يكون الألم نعمة؟ يمكن للألم أن يكون نعمة إذا توافرت فيمن ابتلي به بعض الشروط الضرورية، وهي:

 

أولاً: الإيمان بالقضاء والقدر، وبأن هذه الآلام من قضاء الله وقدره. قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) [التغابن: 11]، وقال تعالى: (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء: 78].

 

ثانياً: التحلي بالصبر، فإن ذلك من عزم الأمور. قال -سبحانه- على لسان لقمان واعظاً ولده: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور) [لقمان: 17].

 

والصبر على آلام البلاء عاقبته خير، فها هو موسى يوصي قومه بالصبر على أذى فرعون وآله ليورثهم الله الأرض من بعدهم. قال الله تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين) [الأعراف: 128].

 

 وأيوب -عليه السلام- لما صبَر على الآلام والمرض والابتلاء جعل الله عاقبته خيراً، قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب) [ص: 41-43]، وقد مدحه -سبحانه- بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب) [ص: 44].

 

ثالثاً: قوة الإرادة، حتى يمكن تحمّل الآلام، فلو استسلم لآلامه لدب اليأسُ في قلبه، وتحول الألم إلى نقمة عليه، فنراه يقنط من رحمة الله، وتُثبَّط همته. ولذا على المسلم دائماً العناية بتربية إرادته وتقويتها، وتدريب نفسه على تحمل آلام الحياة وصعابها، ثم عليه أن يتخطى هذه الآلام ويتناساها ليتجه إلى العمل النافع والإنتاج المثمر.

 

فإذا ما توافرت هذه الشروط فعندئذ يكون الألم نعمة، ويثاب عليه المسلم، ويصبح الألم باعثاً للهمم، ومحركاً للطاقات البناءة، ومثيراً للعقول المفكرة المبدعة، ويصير أداة بناء في المجتمع الإسلامي لا معول هدم، وسيوصف حينئذ بأنه نعمة الحياة وسر من أسرار النجاح فيها.

 

يا عبد الله: إنه لا بد لك من الألم في هذه الحياة ، ولا يمكن أن تستمر الحياة بدون ألم. فالألم ليس مذموماً دائماً فقد يكون هذا الألم خيراً للعبد من عدمه. فالدعاء الحار المستجاب بإذن الله يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحب الألم، وحمل النفس على طاعة الله والصبر على أدوائها يكون معه ألم، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم.

 

وتأمل الطالب حال التحصيل، فحمله لأعباء الطلب يثمر عالماً فذاً، لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة ولم تنضجه الأزمات، ولم تكوه الملمات فهذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاتراً، فكمال النهايات يكون بألم ومشقة في البدايات.

 

وأسمى من ذلك وأرفع حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيماناً، وأبر قلوباً، وأصدق لهجة، وأعمق علماً لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلاماً في النبل، ورموزاً في التضحية، قال الله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120].

 

كيف هُدِّمت قلاع الشرك والنفاق؟ وكيف قُوِّضت دولة الكفر في فجر الدعوة؟ وكيف انتشر الإسلام وعمت ربوعه نواحٍ كثيرة من الأرض في فترة وجيزة من عمر التاريخ؟. كل ذلك وغيره لم يحصل إلا بشيء من التضحية والمعاناة والألم. لذلك كان الألم نعمة من نعم الله على العباد، وحافزاً لهم لابتغاء مرضاته.

 

 والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد، ملذوع النفس، أرق له وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر، فاتر الهمة، خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 46].

 

اللهم..

 

المرفقات

الألم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات