عناصر الخطبة
1/ وجوب الإخلاص 2/ التحذير من الرياء 3/ التخلص منه بإخفاء العبادة 4/ العبادة خُفيةً منهج شرعي 5/ أعمالٌ تكون في الخفاء 6/ متى نظهر الأعمال؟ 7/ التلذذ بالعمل الخفي 8/ العزم على إحداث عمل خفياقتباس
إن إخفاء العمل الصالح منهج شرعي تضافرت الأدلة على الحث عليه في معظم الأعمال، إلا ما السُّنة فيه الإظهار، كصلاة الجماعة؛ ولذا يقول الحسن -رحمه الله- حاكياً حال السلف الصالح: "لقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا".
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: لقد أمرنا الله -تعالى- بالعمل الصالح، وجعله سبباً موصلاً إلى رضاه -جل في علاه-؛ فقال-سبحانه-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
فالعَمَلُ الصَالِحُ: هو الموافقُ لشرعِ الله، من واجبٍ ومستحبٍ، الخالصُ لوجهِهِ -تعالى- من الرياءِ، ومَن جمعَ بين الإخلاصِ والمتابعةِ، نالَ ما يرجو ويطلب، ومن فاته ذلك، خسرَ دنياه وأخراه، وفاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.
أيها الأحبة: على العبد أن ينوي بأعماله كلِها وجهَ اللهِ -تعالى-، والتقربَ إليه، وطلبَ ثوابِه، واحتسابَ أجرِه، والخوفَ من عقابِه، وأن يكون في كلِ عمله حريصًا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة وقصد المحمدة عند الخلق ورجاء تعظيمهم.
بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله قصده وغاية مراده؛ بل يكون القصدُ الأصيلُ منه وجهَ الله، وطلبَ ثوابه، من غير التفات للخلقِ، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم؛ فإن حصل شيء من ذلك دون قصد من العبدِ لم يضرّه، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن.
ولذلك حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الرياء وسماه شركاً أصغر، وهو يقع من الإنسان في هيئة العمل أو أقوال اللسان، فَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ"، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ -عز وجل- لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تراءون فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" رواه أحمد إسناده جيد، رجاله رجال الصحيح وصححه الألباني.
وهذا النوع من الشرك قال عنه ابن القيم -رحمه الله-: "إنه البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيَّته وإرادته" اهـ.
أيها الإخوة: وأعظم وسيلة للتخلص من هذا الداء الخفيِّ، داءِ الرياء، وهي -في نفس الوقت- سبيل لإدراك المنزلة العالية في العمل الصالح: إخفاءُ العمل الصالح الذي يمكن إخفاؤه، وهذه الصفة العظيمة سبب في محبة الله -تعالى-؛ ففي صحيح مسلم أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- كَانَ فِي إِبِلِهِ [في البادية]، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ". الله أكبر! الله -سبحانه وتعالى- يحب العبد الخفيَّ؟ أجل!.
إن إخفاء العمل الصالح منهج شرعي تضافرت الأدلة على الحث عليه في معظم الأعمال، إلا ما السُّنة فيه الإظهار، كصلاة الجماعة؛ ولذا يقول الحسن -رحمه الله- حاكياً حال السلف الصالح: "لقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا".
أيها الأحبة: تعالوا بنا نستعرض بعض الأعمال الصالحة وما ورد في إخفائها أو جعلها في البيوت، وهو سبب لإخفائها، ففي باب الصلاة -مثلاً- قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ" رواه البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. بل إن صلاة النافلة في البيت أفضل من الصلاة حتى في المسجد النبوي، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِى هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ" رواه أبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- وصححه الألباني.
قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: والأفضل للإنسان أن تكون جميع رواتبه في بيته، سواء الرواتب أو صلاة الضحى أو التهجد أو غير ذلك، حتى في مكة والمدينة الأفضل أن تكون الرواتب في البيت، وهو أفضل من كونها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا وهو في المدينة، والصلاة في مسجده خير من ألف صلاة إلا المسجد الحرام، وكثير من الناس الآن يفضل أن يصلي النافلة في المسجد الحرام دون البيت وهذا نوع من الجهل... إلا الفرائض لا بد أن تكون في المساجد، كذلك يستثني من النوافل قيام رمضان فإن الأفضل في قيام رمضان أن يكون جماعة في المساجد. اهـ.
وصلاة النوافل بالبيوت فيها خير كثير وعد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: "صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا"، أي: صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة، والمراد بهذا صلاة النافلة، أي: صلوا النوافل في بيوتكم.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا" رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله عنهما-. أي أن الله -تعالى- جاعل في بيته من أجل صلاته خيراً يعود على أهله بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. وقال العلقمي: "(من) سببية بمعنى من أجل، والخير الذي يُجْعَلُ في البيتِ بسببِ التنفلِ فيه هو عمارتُه بذكرِ الله -تعالى- وطاعتِه، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة.
وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: يعني أن البيت إذا صليت فيه جعل الله فيه خيراً، من هذا أن أهلك إذا رأوك تصلي اقتدوا بك، وألفوا الصلاة وأحبوها ولاسيما الصغار منهم، ومنها أن الصلاة في البيت أبعد من الرياء؛ فإن الإنسان في المسجد يراه الناس وربما يقع في قلبه شيء من الرياء، أما في البيت فإنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، ومنها أن الإنسان إذا صلى في بيته وجد فيه راحة قلبية وطمأنينة وهذا بلا شك يزيد في إيمان العبد. اهـ.
أيها الإخوة: ومن الأعمال الصالحة التي ينبغي أن يخفيها العبد الدعاء، فقد حث الله -تعالى- على إخفائه فقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55]. (خُفْيَةً) أي: سرّاً. قال الحسنُ -رحمه الله-: بين دعوة السرّ ودعوة العلانية سبعون ضعفاً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمعُ لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربّهم، ذلك أن اللّه-سبحانه- يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). وإنّ اللّه ذكر عبداً صالحاً ورضي فعله فقال: (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم:3].
وذكر الله ودعاؤه خالياً مع فيض الدمع سبب في إظلال العبد بظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد عده من السبعة فقال: "وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يطهر قلوبنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
الخطبة الثانية:
يقول الله -تعالى- في حق الصدقة: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، قال ابن حجر -رحمه الله-: "هذه الآية ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ -تعالى- فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"، وذكر منهم: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" رواه البخاري ومسلم. أي أنه تصدق بصدقة مخلصاً بذلك له -عز وجل-؛ حتى إنه لو كان أحد على يساره ما علم بذلك من شدة الإخفاء، فهذا عنده كمال الإخلاص، وفيها تخفيفٌ للمنة على المتصدق عليه.
وقال ابن بطال: "إن صدقة السر في التطوع أفضل من العلانية عند كافة العلماء، أما الصدقة الواجبة -وهي الزكاة- فقال العلماء إن كانت تؤخذ عن طريق السعاة فتظهر، وإن كانت لا تطلب من جهة رسمية فالأولى بها الإسرار".
وقال الزين بن المنير: "لو قيل إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا، فإذا كان الإمام مثلا جائراً ومال من وجبت عليه مخفيا فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدي به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده فالإظهار أولى، والله أعلم".
أيها المبارك: أن تفعل خيراً في العلن فإن للعطاء لذة؛ لكن أن يكون عطاؤك متحصنا في أسوار الكتمان فإنه حتما ألذ وأعذب وأصدق.
وهنا سؤال: هل الإخفاء أفضل دائما؟ أجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- بقوله: "وَمَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مَشْرُوعٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ قِيَامِ لَيْلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِ حَيْثُ كَانَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ وِرْدَهُ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ بَيْنَ النَّاسِ، إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ سِرًّا لِلَّهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ الرِّيَاءِ، وَمُفْسِدَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ. اهـ.
وبعد أحبتي: للعمل الخفي لذة ونشوة لا يدركه إلا من جربه، فلنعزم من الآن أن نجعل لنا سريرة من عمل لا يعلمها أحد من الخلق ندخرها لأنفسنا هناك، هناك بين يديه-سبحانه-، هيا لنعزم، ولا نحرم أنفسنا، ولنبدأ الآن.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم