عامنا الجديد

ناصر بن محمد الأحمد

2011-03-07 - 1432/04/02
عناصر الخطبة
1/ معانٍ نتعلمها من الهجرة 2/ محاسبة النفس 3/ مآسي المسلمين 4/ وجوب اعتماد التقويم الهجري

اقتباس

إن الخطوة الأولى التي نتعلمها ونحن في طليعة عام هجري جديد أن نحيا أمناء على أيامنا، وأن نقتبس من أيام الضياء والنور، وأن نهجر ما نهانا الله عنه، فإن فعلنا ذلك، ألبسنا أنفسنا تيجان العزة في الدنيا والآخرة، والزمان شاهد، والعمر واحد، وبعد الحياة موت، والصدق مع الله يسجل تاريخ صاحبه بمداد الشرف.

 

 

 

 

أيها المسلمون: لقد ودعنا منذ أيام عاماً هجرياً، وها نحن في بدايات عام هجري جديد، وفي مثل هذه الأيام كثيراً ما ترد على ذهن المسلم الذي يعايش قضايا أمته خواطر عن الهجرة وعن التاريخ، هجرة النصر، وتاريخ النصر، وما كان للنصر تاريخ وهجرة إلا أن يسطّر أحداثه بمدادٍ من نور لتقرأه الأجيال عِطراً لا يموت شذاه، ولا يجفّ نداه، تقرؤه عزةً لا تذلّ، وقوةً لا تضعف، وعمراناً لا يخرب، وشمساً لا تغيب، وجمالاً لا يتشوّه على مر الدهور، وهكذا، فكلّ شيء لله يبقى خالداً وجميلاً. 

أين عشاق الخلود والجمال؟ أين عشاق العزة والبناء؟ أين عشاق السيادة والريادة؟ إن هلال الشهر الأول من عامنا الهجري وهو يبدو أمامنا على صفحة الكون العليا ليحملنا على جناحي العظة والعبرة وكأنه يقول لنا: أتيت شهيداً كما مضى العام الراحل شهيداً، وإنه كذلك ليُعيدنا إلى بداياتِ إشراقات تاريخنا كمسلمين، يعيدُنا إلى ما قبل ألف وأربعمائة عام، حين اشتدّت الوطأة الكافرة على المسلمين الأوائل.

نعم، إنه ليوقفنا على مشاهدِ مكةَ ودُورها وطرقاتِها وهي تخنق صوتَ الحق، وتمحو خطواته، وتضع العراقيل في طريقه، وتعذّب الركَّعَ السجود؛ ويوقفنا أيضاً على دَور عظيمِ الدنيا، ومنقذ البشرية، وزعيم الإنسانية، محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- وهو يفتح لأصحابه الأوفياء باب جهاد النفس الشاقّ هجرةً إلى الله، فتسيلُ بهم مساربُ مكة فارِّين بدينهم من كيد الكائدين، وظلم الظالمين.

انطلَقوا وكلّ منهم يحمل في صدره قوة جيش عرَمرَم بإيمانه العظيم، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين) [العنكبوت:69]، تركوا إذ خرجوا فلذات أكبادهم وكل أهليهم ودورهم وأموالهم، تجردوا من كل هذه العلاقات جميعاً وخرجوا، تجردوا من كل عواطفهم تجاه ما يتعلق بهم من متاع، وتعلقوا بالله وكفى، وزادُهم الإيمان وكفى، لسان حال كل منهم يقول لمولاه:

أرضَى رضاك ولو أدّى إلى تَلَفِي *** وكلُّ ما في رضا الرحمن محْبُوبُ

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْض) [القصص:5-6].

إنّ هذه الأيام تذكّرنا الإمام، عليه الصلاة والسلام، وهو يؤكّد كل معاني الهجرة العظيمة، فيهاجرُ إلى حيثُ أذن له الله، وتكونُ الهجرة بذلك نصراً لا يُهزم، وسيفاً لا يُثلَم، وخلوداً لا يَهرَم، ومجداً لا يُخرم، وتاريخاً بالخلود يتكلم، وبالحب والجمال يترنم، فكم تلا الهجرة من فتح لله مبين، علت به أصوات المؤذنين تكبيرًا وتهليلاً في كلّ قُطر رفرفت عليه لا إله إلا الله، سَعدتْ به دنيا الناس، واطمأنت قلوبهم، وتآخت أرواحهم، أخوة دينية صادقة جرت دماؤها في كل وجدان، وخفق بها منهم كل جنان، أخوّة ما رأت فرقاً بين القرشي والفارسي والرومي والحبشي.

أخوة وحّدت الصف باتحاد الهدف، وسارت بهم في أرقى صورة، أخوة طردت بنصرها الهزيمة، وغسلت بعزها الذل، ومحت بشرفها العار، وشدّت بتكاتفها أزر القوة.
يا أخي في الهند أو في المغربِ *** أنا منْكَ أنتَ مِنِّي أنتَ بِي
لا تسَلْ عَن عُنْصُرِي أو نسَبِي *** إنَّهُ الإسْلامُ أمِّي وأبِي

أيها المسلمون: ليس غريباً أن يكون حدَثُ هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- بداية وأساساً للتاريخ الإسلامي باعتمادٍ موثق ممن هاجر لله علانية، كعمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- ولكن الغريب المؤسف المخجِل المبكي حقاً أن يتناسى ويتجاهل كثير من المسلمين تأريخهم ذلك، وكأنهم ليسو من أتباع إمام المهاجرين محمدٍ –صلى الله عليه وسلم-.

والله إن العين لتدمع ألماً وأملاً وشوقاً وحنيناً ونحن نقلّب ونقرأ صفحات تاريخنا البيضاء، وهي تحمل إلينا كالزهر شذى وعطرَ أصحابها من أسلافنا وآبائنا العظماء! وما قدّموه نصرةً لله وإعلاءً لكلمته، راضين بوعد الله لهم: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيما) [النساء:100].

أيها المسلمون: ولم لا تتقّطع القلوب أسًى ونحن نرى أعمارنا تنطوي؟ نقطع في كل يومٍ مرحلة ولم نقدم في خدمة الدين مثقال ذرة، ولم نُشهد أيامنا بشيءٍ من ذلك، ولم نسجّل تاريخنا بعد، وكأنه لا سباق لنا إلا في مجالات إشباع شهوات البطون والفروج، من أين لنا أيام نشتريها؟ من أين لنا لحظات نقتنيها؟ من يبيعنا شبابه؟ وهل لنا أن نشتري إذا قامت السوق؟.

مِن شباب المسلمين الأوائل من ابيضّت بأعمالهم صفحات تاريخهم، فمضوا عناوين للوفاء والحق، هذا قائد منهم للجيش وعمره سبعة عشر عاماً، وذاك تغسله الملائكة في صحاف الفضة بماء المزن بين السماوات والأرض، وذاك ترفعه الملائكة على سرير من ذهب، وذاك يهتزّ عرش الرحمن لموته، وذاك يرفض الولاية والإمارة زهداً وخوفاً من الله، وذاك يموت في الأربعينات وله أكثرُ من خمسين مؤلّفاً في خدمة الإسلام، وغيرهم وغيرهم كثير.

والكثير من المسلمين اليوم -مع الأسف- يتبارون في ميادين اللهو واللعب والانهماك في الدنيا وجمع الحطام، متنكرين لأمتهم، متناسين سرّ عظمتهم وخلودهم وسؤددهم، وجهُ أمتنا بهم مشوّه، وقلبها بهم جريح، وجسدها بهم ممزق، وعِقد صفّها بهم منتثر، ما قدّموا لدينهم أو لأمتهم شيئاً، بل ما فكّروا أن يقدّموا، وكأنهم لا يعلمون أن أطفال أعدائهم -فضلاً عن الكبار- يتفنّنون بالنكاية بالمسلمين في أيّ مكانٍ أمكنت النكاية، فقد أصبحنا فعلاً أهون عليهم من الجعلان، ونحن في ليل غفلة لا يسمع ولا يرى ولا يتكلّم.

تعدَّدَتْ يا بَنِي قَومِي مصائبُنا *** وأقْفَلَتْ بابَنَا المفتوحَ إقْفَالا
كُنَّا نُعَالِجُ جُرْحَاً واحدًا فغَدَتْ *** جِراحُنا اليومَ ألواناً وأشْكَالا

أيها المسلمون: فليكن لنا من مرور الأيام والتاريخ اعتبار، إن المبادئ مهما كانت كريمة لا تنتصر وحدها، بل لا بد لها لكي تنتصر من جهادٍ مرير، وكفاح شاقّ، وعمل منظّم، وتدبير محكَم؛ وعلى قدر ما تكون التضحيات يكون النصر، وبقدر ما تبذل تأخذ.

إن الخطوة الأولى التي نتعلمها ونحن في طليعة عام هجري جديد أن نحيا أمناء على أيامنا، وأن نقتبس من أيام الضياء والنور، وأن نهجر ما نهانا الله عنه، فإن فعلنا ذلك، ألبسنا أنفسنا تيجان العزة في الدنيا والآخرة، والزمان شاهد، والعمر واحد، وبعد الحياة موت، والصدق مع الله يسجل تاريخ صاحبه بمداد الشرف.

إن الفرد منا إذا تعرض لنكبات وخسارات فإن عليه أن يعيد لملمة أوراقه، وترتيب صفحاته، ويعود لنفسه ليتبين موضع أقدامه، ويبصر مكان خطواته، ليصبح في أشد الحاجة إلى عمليه تجديد، وبناء جديد، حتى تعود نفسه لبنة صالحة، فيقيم منها صرحاً شامخاً مشيداً مجيداً.

إن أعجب الأشياء مجاهدة النفس ومحاسبتها، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، وقدرة رهيبة، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما يكرهون، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثّر ظلمهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة، أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرائض، أو فضل من عيادة مريض، أو بر والدة.

إن الحازم المُحكم من علَّم نفسه الجدَّ وحفظ الأُصول، فالمحقق المنصف هو من يعطيها حقها، ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفلة عنها لون من ألوان القتل صبراً. قال الله تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

وإن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقد عليه العزم من شؤونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات، ملتمساً عفو ربه ورضاه، طامعاً في واسع رحمته، وعظيم فضله.

ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح، "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"، والذنوب واردة على كل مسلم، ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة دون محاسبة، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي.

يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه لينجو من عذاب الآخرة، فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال فتيلا ولا نقيرا ولا قطميرا، (وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَيء) [فصلت:21].

أخي الحبيب: دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر.

دعْ عَنْكَ ما قَد فاتَ في زمَنِ الصِّبَا *** واذْكُرْ ذُنُوبَكَ وابْكِهَا يا مُذْنِبُ
لم يَنْسَهُ الملَكاِن حِين نسِيتَهُ *** بل أثْبَتَاهُ وأنتَ لاهٍ تلعب
والروحُ منك وديعةٌ أودِعْتَها *** ستردُّها بالرّغم منك وتُسلب
وغُرورُ دُنياك الَّتي تسْعَى لها *** دارٌ حقيقَتُها متاعٌ يذْهَب
الليلُ فاعْلَمْ والنَّهارُ كِلاهما *** أنفاسُنا فيها تُعَدُّ وتُحْسَبُ

(قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُون) [الزمر53-54].

لا بد من وقفة بطولية، ومحاسبة شديدة حازمة حاسمة لهذه الأنفس؛ لكي نردعها عن الزيغ والفساد، قبل أن تجرنا إلى الهاوية، فإذا لم نربِّها على الفضيلة جرفتنا إلى الرذيلة، وإذا لم نرفعها وضعتنا، وإذا لم نجرها إلى الحسنات سحبتنا إلى السيئات.

إذن، فلا بد من معالجة هذه الأنفس قبل أن يستفحل المرض، وقبل أن ينتشر ويكون راناً على القلوب، وغلافاً على الصدور؛ وعلينا أن نطهِّرها وننظفها، لتكون بيضاء نقية لاستقبال العام الجديد، وكما قيل: المحسن هو من كان يومه خير من أمسه، وغده خير من يومه؛ والمسيء من كان أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده. فالمؤمن يبقى على عبادة الله تعالى حتى يأتيه الموت.

وكما يحاسب كل منا نفسه على ما قدم في عامه المنصرم، فإن من واجب الأمة الإسلامية كذلك أن تحاسب نفسها على ما قدمت في عامها، أين حالها اليوم؟ وأين حالها منذ عام؟ إن أمتنا حينما تنظر إلى عامها المنصرم ترى التقصير، وترى أن الأيام تمر عليها يوماً بعد يوم وهي لا تصعد إلى العُلى، ولا ترتفع في سلَّم المجد، بل تهوي وتهوي يوماً بعد آخر، وترى الأمم وهي تتداعى عليها شرقاً وغرباً كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

فنسأل الله جل وتعالى أن يعجل بفرج أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: أيها المسلمون: لقد حلّ علينا من أعمارنا ضيف فلنكرمه بصالح القول والعمل والنيات، إنه يحمِل لنا صفحاته البيضاء فلا نملؤها إلا بما يزين. إن كثيرين مثلنا انتظروا وأمّلوا حلول هذا العام عليهم فما أدركهم، سبقتهم الآجال، وارتهنوا في قبورهم بما قدموه من الأعمال، ألا وإنّ الأليق بنا أن نشكر الله على هذه المهلة، ونستنقذ فيها أنفسنا، إذا كنّا أُمهلنا حياة إلى الآن فلا أحد يملك -ولو للحظة- شهادة أمان، وإن أقوى الأقوياء أضعف من أن يدفع عن نفسه أقلّ من مثقال ذرة من قدَر الله، فلنعتبر قبل أن نكون عبرة.

أيها المسلمون: تستقبل الأمّةُ الإسلاميّة عامَها الجديد بجسَدٍ مقطَّع الأعضاء، مشتَّتِ الأشلاء، وبجروح نازفة في مواقعَ عديدة، في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد الله.

إنها مواجعُ وفجائع هَزّت أعصابَ المسلمين، وفتقَت أشجانَهم، والأمّةُ إذا جنحَت إلى الشهوات، وأحبّت الآثام، واشتغلت بالخبيث عن الطيّب، أسَرها الهوى، وفقدت الشعورَ بالمسؤولية، فضلّ سعيُها، وخاب أمرها، وتسلّط عليها عدوّها جزاءً وفاقًا.

وفي حديث ثوبان -رضي الله عنه- أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تَداعى الأكلةُ إلى قَصعتها"، قال قائل: يا رسول الله، ومن قلّةٍ يومئذ؟! قال: "لا، بل أنتم كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، ولتَعرفُنَّ في قلوبكم الوهَن"، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت" أخرجه أبو داود. كيف تنتصر الأمةُ على عدوّها وقد هُزِمت في معركتها مع النّفس، ونخر جسدَها التفرّقُ والاختلاف؟!.

إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة والتساهل بأمر الشريعة، والتفريط في الثوابت والمبادئ، والتقصير في المثل والقيم، مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاد، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول التبار، وتحقق الدمار؟!.

وعلى الرغم من الأثقال والأدواء فإنّ فجرًا صادقًا يلوح في الأفق على مستوى الأمّة، فهي تملك مقوِّمات الحضارة، وإمكانات السّيادة. بالإيمان، والعمل الصالح بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يجعل الله حزنَ الأمّةِ فرحًا، وعسرَها يُسرًا، وذلَّها عِزًّا، وضعفَها قوّة، لتكون كما أراد الله خيرَ أمّة أخرجت للناس، قال الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِللَّهِ) [آل عمران:110].

أيها المسلمون: إن لكل أمة تاريخاً يعتزون به، اليهود يعتزون بدينهم، والصينيون لهم تاريخ، والأقباط لهم تاريخ، كلٌّ يعتز بتاريخه ويحافظ عليه، إلا أمة الإسلام، تهاونت في تاريخها، وما ذلك إلا مظهر من مظاهر انسلاخها من دينها وتاريخها، وهو نتاج طبيعي للهزيمة النفسية التي سيطرت على المسلمين أفرادا وجماعات.

إن اعتماد التاريخ الهجري والعمل به التزامٌ من هذه الأمة بدينها، وربط لأجيال الأمة بتاريخها المجيد، وإحياء لشعيرة التميز الذي ميزت به هذه الأمة، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس). إن نسيان هذا التاريخ يعني ذوبان هوية هذه الأمة، وطغيان الهوية الغربية النصرانية عليها، إنه تشبه بالضالين وهم النصارى.

إننا، وإن ابتلينا بهذا التاريخ النصراني، وارتبطت به كثير من مصالحنا، فلا أقل من أن نلتزم بذكر تاريخنا الهجري في حياتنا اليومية، وأن نبدأ به مراسلاتنا ومواعيدنا، وأن نعلمه أبناءنا، بل نتذاكر به جميعاً.

أيها المسلمون: التاريخ الهجري هو تاريخ المسلمين المعتمد الذي انعقد الإجماع على العمل به، وهو من شعائر أهل الإسلام، والرغبة عنه إلى غيره من تواريخ الشرق أو الغرب خروج عن الإجماع، وإظهار شعار من شعائر الكفار، واستغناء به، ومشاركة في طمس الهوية الإسلامية. ولا يمكن أن تستقيم عبادات هذه الأمة التي أمرَها بها خالقها إلا بالتاريخ الهجري، فعبادات هذه الأمة مرتبطة بهذا التاريخ، وغيره لا يصلح لنا.

إن الأمة لا تستطيع أن تصنع مستقبلها، ولا أن تصلح واقعها, إلا من خلال دراستها لتاريخها، ومعرفتها به، فبقدر ما تكون الأمة واعية بماضيها, محيطة بتاريخها, حريصة على الإفادة منه, بقدر ما تسمو شخصيتها, وتدرك غايتها، وتعرف سبيل الوصول إلى بغيتها.

فالأمة المعزولة عن تاريخها أمة قريبة الجذور, سريعة الاجتثاث والأفول، لأدنى عارض، ولأدهى عائق؛ ولذا حرص الأعداء بشتى صنوفهم، الكافرون والمشركون, والمنافقون العلمانيون, على عزل الأمة عن تاريخها, وسلكوا لذلك طرائق قدداً.

أبْكِي على أمَّةٍ قامَتْ حضارتُها *** بالدِّينِ والعلم والأخلاق والقِيَمِ
قدْ أمسَتْ اليومَ والأمواجُ تقذُفُها *** الخُلفُ حَلَّ بها والحربُ في ضرَمِ
إني لأصرخ من قلبٍ يفيضُ أسى *** وتستبدُّ به حالٌ من السأمِ
في كل يومٍ ذئابُ الغابِ تنهشُنا *** وتستبيحُ حمى الإسلام والحُرمِ
فالقدسُ تصرخُ والبلدانُ في تَرَحٍ *** والعينُ في سِنةٍ والأذن في صممِ
لا تأمنَنَّ حَقُودا بات يخدَعُكُم *** يُبدي وِدَادَا ويُخفي السُّمَّ بالدَّسَمِ
رغم الخطوب على الأهوالِ مُسْرِعَةً *** يا دعوةَ النورِ جِدِّي السيرَ واقتحمي
ولتَشهَ رِي السيفَ حان اليومَ موعدُه *** قبل الضياعِ وفقدِ الروحِ والشممِ
هيا انهضي بعُرَى الإسلام واعتصِمي *** مِن الإله بحبلٍ غيرِ منفصمِ
بئسَ التفرُّقُ كم ذُقْنا مرارَتَه! *** يا أمةَ الحقِّ والقرءانِ فالتئميِ
إن ننصرِ اللهَ ينصُرْنا وتَحرسُنا *** عنايةُ الله من ظلمٍ ومن ظُلمِ
بشائرُ الخير أنتم رغمَ محنتنَا *** ومشعلُ الخيرِ في الإصباح والعتمِ
اللهُ أكبر وليَعْلُ الهتافُ بها *** فالله أكبرُ رغم الناسِ كلهمِ

أيها المسلمون: وختاماً، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: "أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله".

والله المسؤول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم؛ وأن يجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، (وَلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]

ألا وصلّوا -عبادَ الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمَاً) [الأحزاب:56].

 

 

  

المرفقات

الجديد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات